أن يكون أول نعوتها ما اتفقنا عليه ولو شكلاً مفهوم الذكاء الاصطناعي، هذا المفهوم الصناعي، الذي ارتبطت هويته بالآلة منذ ظهور الثورة الصناعية، ولا مشاحة بعد ذلك فيما سنذهب إليه في المفهوم العملي لمحددات الذكاء الاصطناعي من جانب، وكيف يمكن أن تسعفنا المناهج والأدوات في قياس أثر الذكاء الاصطناعي على الكاتب والصحفي، سواء اتحدا في شخصية، أو افترقا، خصوصاً أن الصحافة بمفهومها المعاصر، ستضع المهمتين كلتيهما في سلة أو وسيلة واحدة، كانت يوماً ما، مجموعة وسائل، ومجاميع من المهام الأدائية والوظيفية المهنية!ولذا لنا أن نتساءل على عجل: من يؤدي الوظيفة الصحفية، ومن الذي يملك مهاراتها؟ وهنا سنكون في حالة لا متناهية من البحث عن إجابات، والتفتيش في بنية هذه التحولات الذكية، والوقوف على ماهيتها بشكل عملي في الوصف، وآلي في البنية الصحفية التي كان الذكاء أو حتى التذاكي علينا يضعنا أمام حالة تأمل نسأل فيها أكثر مما نجيب، ونتوقع ونفترض أكثر مما نصدر أحكاماً!
لذا، فنحن اليوم أمام وسائل ووسائط، غيّرت أركان العملية الاتصالية، فأصبح المرسل مستقبلاً في آن واحد، والوسيلة قائماً بالاتصال، والتواصل اللحظي، أصبحنا معها إما (إنسانيات رقمية) أو لتقل (رقميات إنسانية)، وما ذلك إلا لحجم التحولات الفاعلة بين الإنسان والآلة، التي لم تعد آلة في حد ذاتها، في زمن رقمي، أصبح الصحفي مبحراً في فضاء مفتوح من المعلوماتية المتدفقة، وموجات فاعلة من التحولات المتسارعة، التي كلما أنتجت ذكاء، أعقبه ذكاء أكثر تعقيداً، وأشد فاعلية، وأكثر شيوعاً، وكأننا تماماً أمام حالات من (الإغراق) المتعاقبة، التي منشؤها (الآلة مع الآلة)، بينما خرج من فاعلية هذه المعادلة (الإنسان والآلة).
ولأننا في سياق (بنية الثورات العلمية) وما أفرزته من تعاقب في الأجيال، بدأت بالجمهور، ثم الفئات، وصولاً إلى جيل (الذرات)، بفعل عمليات (التفتيت). وطالما تفتت المكونات كان لا بد أن نكون بكل بساطة أمام ثورة عظمى مرقمنة، أصبحنا على يقين معها، بأننا ولجنا إلى حضارة رقمية، نحو ذرات نسقية، في سياق لم نعد نملك إلا أن نكون كائنات امتدت إلينا، وأمدتنا في آن واحد بما يمكن أن نصفه بالتأثيرات الصحفية، ويصفه آخرون بالتطورات الصحفية، دون أن يكون من منظور الواقع الرقمي اختلافاً بين الفريقين، بالنظر إلى موقع الصحفي، والكاتب، ضمن منظومة هذه البيئة الاتصالية المرقمنة، دون أن نكترث كثيراً، بمن سيصفها بالوسائل، أو الوسائط، أو البيئة الاتصالية، أو الذرية التواصلية.. إلخ!
ولعلي في هذا المقام، اتخذ من (النظرية) مسلكاً لشرح جانب من هذه الظاهرة الرقمية، مستعيناً -بالإشارة فقط دون توصيف- ببعض نظريات وسائل الإعلام والاتصال، التي تفسر لنا الموقع، والحال المهني، والدور الوظيفي، للصحفي كاتباً، أو الكاتب صحفياً، في زمن صحافة البيانات، وصحافة الدرون، والصحفي الروبوت، والكاتب الرقمي.
ماذا لو درسنا الصحفي في زمن الرقمنة في ضوء نظرية الاعتماد على وسائل الإعلام؟ أو من منظور الصحفي ونظرية ثراء الوسائل؟ وماذا عسانا أن نجد حال الكاتب، أو الصحفي عموماً بما في ذلك صحافة المواطن، عندما ندرسه من خلال نظرية الاستعمار الإلكتروني؟! وماذا عن موقعه في العملية الاتصالية من الجانب المهني، والدور الوظيفي من واقع الاستعمار الرقمي؟
أما قلت عزيزي القارئ، إننا سنظل نتساءل، دونما تقديم إجابات، ونشير دون أن نصف حال الراهن (المبحر رقمنةً)، ما يجعل في مقدمة تساؤلاتنا: ما حدود ذكاءات الرقمي؟ وما محددات وسائله ووسائطه؟ ما الحد الذي وقف عنده بوصفه وسيلة، لا قائم بالعملية الاتصالية بكافة مكوناتها، بدءاً بإنشاء (الرسالة/ المحتوى الصحفي)، وانتهاءً بقياس رجع الصدى؟ وكأننا بالقائم بالاتصال (الصحفي/الكاتب)، أشبه بمتفرج في مدرج، أو لمحتوى عبر شاشة ذكية.
وإذا ما أردنا أن نحط الرحال عبر المدار الرقمي الافتراضي، ونضع أقدامنا على أرض نفترض أنها ستكون صلبة إلى القدرة التي نصدر فيها حكماً، ولو مؤقتاً على موقع الصحفي والكاتب، ضمن منظومات البنى الكوكبية الرقمية، وأن نصف بشيء من المعقول؛ فلعلي أعيد ذاكرة الوصف، والتوصيف، إلى نظرية الحتمية التكنولوجية، وسواء كانت التكنولوجيا إلكترونية، أو رقمية، وكأني بهذه الحتمية مهما تعاقبت أشكال تكنولوجياتها، فإن وجهتا ستأخذنا إلى ما بعد الاتصال، وما بعد بعد المجتمعات الجماهيرية.
انطلقت الحتمية لهذه النظرية، من منظور أن التكنولوجيا، ستكون امتداداً (لحواس) الإنسان، ومن ثم انتقلنا من مرحلة ماذا يصنع الناس (الجمهور) بوسائل الإعلام كيانات وصحفيين وكتاباً، إلى ماذا تصنع الوسائل بوسائل الإعلام وجماهيرها؟ بمعنى: كيف أصبحت تؤثر الوسائل الرقمية على تنشئة المجتمعات، وعلى ترتيب أولوياتنا، واتخاذ القرار على مستوى الأفراد (الذرات) والمجتمعات (مجموع الجزر الفئوية الافتراضية)، وعلى مستوى الدول، التي أصبحت الرقمنة هي المعلومة والتجارة والصناعة والجيش، وقوة السيطرة على الغرفة العالمية، التي ما تزال تعكس ضخامة عمليتي: الإخلال، والاحتلال في الراهن الرقمي.
ومع أن الحتمية لم تلغِ دور الصحفي والكاتب، ولم توجه استخدامه لها، بين مستهلك (سلبي)، أو منتج (متفاعل/ فاعل)، وبما أننا في زمن (رقمي/ ذري)؛ فإن الحكم هنا على تمييز الدور ومدى إيجابيته، ومستوى الإفادة منه؛ محكوم بالذرة (الفرد)، فلا الجمهور، ولا الفئات، أصبحت هي المعيار الفيصل، في دراسة الظاهرة الثقافية للكاتب، ولا الظاهرة الإعلامية للصحفي، فقد كانت الظواهر تدرس في وقت كانت فيه العلوم حقولاً متجاورة، ومتداخلة في حدود مفهوم التداخل، الذي لا يلغي (مبنى/ وسيلة/ صحفي/ كاتب)، ولا يغير (معنى/ مهنة/ دور/ أثر)، بعد أن أصبحت الصحافة مزيجاً من تحالفات علوم الآلة المعرفية، بعلوم الآلة الرقمية.
وهنا يمكن أن نخلص من هذا التطواف، في راهن الحضارة الرقمية، بعد أن أصبحت الرقمنة منهاجاً للحياة، وسلوكاً نحيا به، وعليه، ونسعى باستمرار إليه: ما الذي أبقته لنا الرقمنة من حواس، إحساس على مستوى الذات؟ وما الذي تبقى لنا من الأسرة، المجتمع؟ ما الذي تبقى لنا من (واقع) الحياة اليومية؟ وما مساحة (الافتراضي الرقمي)؟ وأين يمكن أن يجد نفسه وأين سيحدد موقعه (مُسْتهلِكاً ومُستهلَكاً، مؤثراً ومتأثراً) من خارطة الحضارة الرقمية المبحرة؟!
أما خاتمة الحكاية، فذات ندوة علمية، قبل عقد، جمعتنا بقامة أمريكية في الإعلام والاتصال -لم يعد يحضرني اسمه، وكنت قد دبجت له راهن التحولات الإلكترونية في واقع العملية الاتصالية، لم يكن هناك ما يلوح في الأفق عن الحضارة الرقمية، وسألته عن مستقبل مهنة الصحافة؟ ومن هو المتلقي الذي يمكن أن ندرسه؟ ومن يا ترى سيكون الفاعل (الانتقائي) أمام الانفجار المعلوماتي (المدمجة) في ثورة الاتصالات؟! وكنت أظن حينها أن نصف ساعة لن تكفيه ليختصر ويختزل الإجابة للرد على سؤالي المركب: لكنه ابتسم ابتسامة عريضة، وأمسك بريموت جهاز العرض، وتنقل بين الشرائح سريعاً، توقف فجأة عند إحدى الشرائح، ثم أغلق الجهاز، ونظر إلي قائلاً: أظن أننا لن نستطيع إلا فعل هذا، أمام كل ما يمكن أن نتخيله.
لقد أجابني حينها بكل بساطة (إجرائية/ عملية) باتخاذه من الريموت أداة، والتجوال بين الشرائح إبحاراً، ومن إغلاق العرض لحظة حاسمة في التعامل مع المحتوى، لتبقى إجابته حينها، إجابة مفتوحة، ومنفتحة أيضاً على كل ما لم يكن متخيلاً، ولا معقولاً.