تحتاج القصيدة العربية المعاصرة إلى مصدر غير البلاغة لأن جماليات الحزن قد أنهكتها ولم تعد قادرة على استيعاب تطورات الحياة، وزيادة المعنى، لذا أخذت تستعير من الفنون الأخرى الأساليب الفنية وفي مقدمتها الدراما والمونتاج، فهما في جوهرهما يتوحدان وكلاهما يتكئ على اللقطة أو الصورة، واللغة في الشعر هي الكاميرا في السينما، والمونتاج ينتج الصدمات الجمالية في كل من الدراما والقصيدة، وكلاهما يخضعان لآلية القطع واللصق، وهي معنى كلمة مونتاج (montage)، وعملية وصل اللقطات وقصها لإنتاج مشهد هي ذاتها موجودة في الشعر العربي المعاصر، إذ ظهرت العديد من القصائد وكأنَّها فيلم شعري وهذا ما نجده عند محمود درويش الذي يمكن عدّه رائداً في صنع الدراما والمونتاج بشعره، ويوسف الصائغ، وسعدي يوسف ومحمد الثبيتي والأمير الراحل بدر بن عبدالمحسن وجواد الحطاب ومحمد علي شمس الدين وعلي جعفر العلاق ومحمد إبراهيم يعقوب وعارف الساعدي وغيرهم.
تأملات المونتاج الشعري تأسيس اللامعقول
إن تأملنا البنية البصرية السينمائية سنجد القيمة الشعرية التي حققها النص استفادت من تلك البنية، ولعل قصيدة (مرثية البحر الميت) للشاعر محمد شمس الدين تجسد اللامعقول في صور القصيدة ولقطات المشهد كقوله:
فحملتُ دمي
ومشيتُ خفيفاً فوق الماء وصرتُ وأنا والبحر وفيّ
احتشدوا وابتعدوا
وعلى أمواجي ناموا كالألواح وصاروا رُبّانا
وإذا غرقوا صاروا مرجانا
والموج الهادر فيَّ يموجُ ويغدو أحياناً كالثور
وحين أمدُّ يديَّ ينامُ
نرى أن الألفاظ في اللقطة هي مفردات بصرية (الدم، الماء، الموج، اللوح..) وبنسقية تجاورها (مشيت/ احتشدوا وابتعدوا/ ناموا/ غرقوا) وهذا الشد المصحوب بانفعال كبير يكون كل جزء فيه هو ديكور للمشهد ويمكن عدَّه الحركة الأساسية فيه، وعندما ننظر إلى الشاعر نجده ممثلاً في قصيدته لأن كل ما تحتويه اللقطة يؤدي مع الحدث إلى الممثل، فالبحر وماؤه هما دلالة الاضطراب والهيجان، والهدوء جعلهما يتحدان فيه، وهذه الحركة الاضطرابية بدأت تخلق عالم اللامعقول وكل شيء فيه قابل للتحول حتى وإن لم يُشبه الأصل الذي تحول منه، وهنا تحضر دراما اللامعقول وتركز على الصورة الشعرية/ السينمائية: (ناموا كالألواح وصاروا ربانا) و(إن غرقوا صاروا مرجانا) فهذه الصورة داخل لقطة واحدة ازدادت غموضاً وتعقيداً، وهي تمثل رؤية الشاعر لما يبديه من استغراب واستغلاق عما يجده في العالم.
وفي عالم يختزل المرأة بمهمتي الحياة والموت من دون فعل حياتي وهذا نرصده بفيلم قصير وهو قصيدة (غرق) للشاعر يوسف الصائغ يصورها بمهمتين يقول:
سيدتي.. في البحر
تسبح كالنجمة عند البحر
لما رأتني سترت..
بالزبد الأزرق.. لما رأتني أختلج الزورق
سيدتي تغرق..
تغوص تغرق تغوص في اللذة حتى القعر
للحظة يختلجُ المنظر
سيدتي.. في القبر
القصيدة بمشهد واحد وبطلتها المرأة ترتدي فعلي الحياة والموت، فاللقطات (سيدتي في البحر/ تسبح كالنجمة/ لما رأتني سترت) وهي تمثل دورة حياة المرأة من طفولتها إلى شبابها والبحر رمزية عن الحياة وهذه اللقطات هي الحياة الطبيعية، كل النساء اللواتي لم يتدخل أي قانون اجتماعي بفعلهن، وهذه المرحلة الأولى هي الحياة، وما تعمقت بلذتها/ فعلها المتمثل في انخراطها بالعمل الاجتماعي الذي يغرقها ونجد اللقطات (لما رأتني اختلج الزورق/ تغرق/ تغوص في اللذة حتى القعر) وهي بؤرة اللامعقول فكيف لامرأة تموت وهي بلذة الحياة؟ لأنها تعيش بعالم انتحرت معانيه والوجود فيه ليس سهلاً فكان هذا مصيرها (سيدي في القبر).
ولأن بؤرة اللامعقول تقوم على اللامعنى نجد الثيمة الأساس عند الشاعر دخيل خليفة هي فقدان المعنى الوجودي وقصيدة (أرقام من حياة بلا معنى) تتوزع على مقاطع مرقمة وكل مقطع هو مشهد فيقول في المقطع (29) تجسد البؤرة:
أنا تائه في رأسي
عينايَ دربٌ نسيَ أقدام العابرين
يداي راية استسلام
أركض وظلّي يلهث ورائي
لا يعرف أنني ضيعت الطريق
من اللقطة الأولى (أنا تائه في رأسي) نرى المعنى العميق للوجود الإنساني المعاصر وهو بحالة تيه في داخل الذات وهذه اللقطة تدل على تخيل فوق التخيل أتاحتها اللغة الشعرية التي استطاعت أن تدخل إلى الجسد وتصور الأعماق وهنا تكون اللغة متعاقدة مع نظام بصري (الكاميرا) في بناء مفردات صورية قادرة على إنتاج معنى، ونرى تحرك اللغة/ الكاميرا في الأعماق وتنتج اللقطات (عيناي درب نسي أقدام العابرين/ يداي راية سلام أركض وظلي يلهث) تصوير حالة التيه في اللقطة الأولى هي أسست لتكوين باقي اللقطات التي نراها غير معقولة لكنها مبررة بسبب العدم في الوجود والشاعر بحالة استسلام داخلي لكنه يقف وجهاً ولوجه أمام الحقائق الإنسانية التي تضيع الأفراد (أنني ضيعت الطريق) ونجد أن المكان (الطريق) هو ليس المادي وإنما الذات أو الهويّة الضائعة بدلالة واللقطات السابقة التي صورت الشاعر وأفكاره من الداخل.
وفي محاولة الشاعر للهروب من ذاته يوظف الآخر وهو ذاته نفسها ويصور عوالمه كما قصيدة (سماء ثانية) للشاعر محمد إبراهيم يعقوب يقول:
لعلمكَ
هذه الأوراقُ حُبلى
وليس لهذه الأوراق
والد!
وليس لهذه الكلمات داعٍ
إذا اللغة العصيةُ لم تساعد
لأنك آخر الناجين من معنى
قرأت الحزن في النطف الشوارد
وقلت لمحنة الإيقاع كوني
فكان القلبُ وانتفضت قصائد
يحتاج الشاعر إلى راوٍ ينوب عنه لتقديم مشهده الشعري، وهنا نجده في الافتتاح (لعلمكَ) هو صوت الراوي يخاطب الشاعر نفسه الذي جاء بوصفه آخراً، لكنه يعلم بتفاصيل الحدث، فتحضر الكاميرا وتنتج اللقطة الأولى (هذه الأوراق حُبلى وليس لهذه الأوراق والد) وهي بؤرة حدث اللامعقول التي تستفز التساؤلات هل نأخذ الأوراق على محمل الرمزية ونعدها امرأة حملت بمعجزة لكونها من دون رجل؟ أم نأخذ لفظة الأوراق على حقيقتها؟ كلاهما يمثلان رؤية اللامعقول لكننا نأخذ الثاني لأن معنى المشهد هو الأقرب له، واللقطة أنتجت معنى دلالياً فالأوراق حُبلى بالكلمات والأفكار وهي بلا والد شرعي وهنا يفجر معنى المعجزة لكن ليس بمعناها الحقيقي المرتبط بالمقدس وإنما بالمجازي، فالشعر ابن المعجزات يولد هكذا بلا والد. ونلاحظ تعليق الراوي على لقطة معجزة الشعر (وليس لهذه الكلمات.. لأنك آخر الناجين من المعنى) وهذه من آلية المونتاج التي تسمى الفاصلة الزمنية التي تختزل حدث خلق الشعر وتكوينه، ولأنّه ارتبط بقضية الخلق والولادة نرى الكاميرا تنتج لقطتين (قرأت الحزن في النطف الشوارد/ كوني/ انتفضت القصائد) تهادنت اللغة (المعنى) والكاميرا (الحلم) لبسط مديات شعرية تصور محنة ولادة القصيدة نطفتها الحزن، فيرتفع المعنى في (قرأت الحزن في النطف الشوارد) فلا يمكن لأي كاميرا رصدها لولا اللغة التي خرقت القوانين وصورت هذا الانزياح الذي أنتجته الكاميرا وهو اللامعقول المؤسس لعالم شعري.
ممّا تقدم بيّنت إمكانية القصيدة العربية المعاصرة في إفادتها من الأساليب الفنية (المونتاج، الدراما، اللامعقول) التي تعدّ بؤرة العمل السينمائي ليتحول الشعر إلى الفن الشعري ويكون النقد متخصصاً بـ(السينمائي في الشعري) الذي يثبت مواكبة التطورات في القصيدة المعاصرة.