شهدت صناعة النشر والثقافة تحولات جذرية مع دخول الذكاء الاصطناعي إلى المشهد الثقافي والإبداعي، ولم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد فكرة نظريّة أو تقنية مستقبلية، بل أصبح واقعاً عملياً في مختلف المجالات، ولاسيما في إنتاج المحتوى الإبداعي. وفي حين أثار هذا الواقع الجديد جدلاً واسعاً حول مصير الإبداع البشري؛ بات من الواضح أن تجاهل الذكاء الاصطناعي لم يعد خياراً، حيث أصبح الخبراء والناشرون أنفسهم يدعون اليوم إلى تجاوز مخاوف تبنّي الذكاء الاصطناعي أداةً لدعم النشر، معتبرين الصناعات الإبداعية ركيزة أساسية لاقتصاد المستقبل في ظل الذكاء الاصطناعي. والحقيقة أن الذكاء الاصطناعي أصبح واقعاً لا يمكن تجاهله في العملية الإبداعية. نماذج اللغة الضخمة مثل GPT-4 وأخواتها أثبتت قدرتها على توليد نصوص أدبية ومقالات صحفية وقصص ومحتوى غني في صور فيديو وصوت وموسيقي وحتى نصوص شعرية بمجرد تزويدها بتعليمات مناسبة. لكن جوهر الإبداع لا يزال في يد الإنسان، وذلك من خلال ما يُعرف بهندسة التوجيه (Prompt Engineering). فالمستخدم البشري هو من يصوغ الرؤية ويحدد المدخلات ويوجه نموذج الذكاء الاصطناعي نحو النتيجة المرجوّة، وهو هنا أداة لمساعدة وتعزيز الإبداع البشري، وليست بديلاً عنه. حيث يجب أن يعكس المنتج النهائي صوت ورأي وفكر المبدع وأسلوبه وسياق أفكاره. فبهذا المعنى، يلعب المبدع دور المخرج أو المهندس الذي يستفيد من سرعة وقدرة الذكاء الاصطناعي في التوليد، دون أن يتخلى عن رسالته الخاصة أو بصمته الإبداعية.
النشر الرقمي ودور الذكاء الاصطناعي
لم تعد عملية النشر مجرد توزيع محتوى جاهز على الجمهور، كما كانت الحال في النماذج القديمة؛ بل باتت المنصات الرقمية تساهم في إعداد المحتوى وصياغته، وربما كتابته بشكل آلي قبل نشره. أي أن النشر الرقمي أصبح امتداداً لدورة المحتوى المتكررة، حيث تُجرى تحليلات آنية لتفاعل القراء، ويتم تعديل المحتوى أو تحديثه باستمرار بناءً على ذلك. منصات كبيرة مثل وسائل التواصل الاجتماعي أو مواقع المقالات؛ باتت تمتلك خوارزميات قادرة على تحديد الموضوعات الرائجة، وتوليد محتوى يتوافق مع اهتمام الجمهور لزيادة التفاعل. هذا يعني أن بعض ما نقرؤه على الإنترنت قد لا يكون وراءه قلم بشري فردي، بل منصة ذكية تولّت جانباً من إنتاجه أو تحريره.
هذا التحول في مفهوم النشر يفرض إعادة تعريف أدوار الأطراف التقليدية: فالمبدع في البيئة الرقمية الحديثة قد يجد نفسه يعمل محرّراً لمخرجات الذكاء الاصطناعي، ينتقي منها الأفضل ويهذب أسلوبها. أما الناشر فلم يعد مجرّد وسيط لتوزيع الكتب أو المقالات، بل قد يتحول إلى مزود أدوات معرفية وخوارزميات تساعد في الإنتاج، وقد يتحول لوسيط رقمي لتوفير نماذج أعمال مبتكرة لاستهلاك المعرفة، هذا التطور يوفّر بلا شك سرعة هائلة في الإنتاج، لكنه يطرح تحديات كبرى تتعلق بجودة المحتوى ومصداقيته. إذ من السهل الآن توليد آلاف المقالات بنقرة زر، لكن هل يمكن الوثوق بصحة المعلومات ودقة الحقائق في هذه المقالات؟
لقد تبيّن أن جودة المحتوى الناتج عن أنظمة الذكاء الاصطناعي قد تكون متفاوتة بشكل كبير. في بعض الحالات، ترتكب الخوارزميات ما يُعرف بـ(الهلوسة) (Hallucination) فتقدم معلومات غير صحيحة بثقة عالية. وقد أظهرت دراسة حديثة في 2025 أن أكثر من 60% من إجابات محركات البحث المعتمدة على الذكاء الاصطناعي تضمنت معلومات خاطئة أو مضللة. إن تقديم إجابات سريعة ومقنعة لا يعني دائماً أنها إجابات صحيحة؛ فالخوارزميات قد تولّد نصوصاً تبدو منطقية لكنها تفتقر إلى أساس واقعي. هذا يمثل خطراً حقيقياً على مصداقية المحتوى الرقمي، ويضع القارئ أمام تحدٍ في التمييز بين الصحيح والمغلوط. ولمعالجة هذا الأمر، تبرز الحاجة إلى مراجعين بشريين أو أدوات تحقق متقدمة لكشف الأخطاء وتدقيق الحقائق قبل نشر المحتوى المولَّد. بمعنى آخر، رغم ذكاء الآلات الخارق في توليد النصوص، فإن الدور التحريري البشري يظل ضرورياً لضمان النزاهة والجودة.
جانب آخر تغير جذرياً في النشر الرقمي هو دور الخوارزميات في التحكم بمحتوى القراءة وتوزيعه. فبعدما كان انتشار الكتاب أو المقال يعتمد على قرار المحررين في الصحف أو دور النشر التقليدية، أصبحت المنصات الإلكترونية تعتمد على خوارزميات تخصيص وتوصيات معقدة تحدد من يرى ماذا. فعلى مواقع التواصل الاجتماعي ومحركات الأخبار؛ تتولى خوارزمية مدعومة بالذكاء الاصطناعي اختيار المقالات والمنشورات التي تظهر لكل مستخدم بناءً على تحليلات سلوكه وتفضيلاته السابقة. هذا يعني أن الآلة صارت البوابة الثقافية التي تمر منها المعرفة إلى القارئ، وليس بالضرورة معيار الجودة أو الأهمية. فإذا (انتشر) محتوى ما على الشبكات، فليس ذلك دليلاً على جودته بقدر ما هو إشارة لتوافقه مع معايير الخوارزمية: كزيادة نسبة النقرات أو الوقت الذي يقضيه المستخدم على الصفحة. وقد حذر متخصصون من أن المحتوى الذي يحظى بالترويج قد يكون الأكثر إثارة وجدلاً وليس الأكثر عمقاً أو دقة. فالخوارزميات تميل إلى تعزيز ما يجذب الانتباه السريع، مما قد يهمّش الكتابات التحليلية الرصينة أو المواضيع غير المألوفة لصالح مواد خفيفة تضمن تفاعلاً أكبر، وهو ما يستوجب تطويراً أكبر في نماذج الذكاء الاصطناعي مستقبلاً، لاسيما في منصات التواصل الاجتماعي .
مستقبل دور النشر
في ظل التحولات الرقمية المتسارعة، بات من الواضح أن دور النشر التقليدية يجب أن تعيد ابتكار نفسها لتناسب عصر الذكاء الاصطناعي وجيل زد (Gen Z) الذي نشأ في كنف التكنولوجيا. إن الجيل الجديد من القراء والمستهلكين يتوقع تجربة مختلفة في الحصول على المعرفة والترفيه. فالنشر أصبح لا يقتصر على النصوص المطبوعة أو الإلكترونية الجامدة، بل يتسع ليشمل وسائط متعددة ومحتوى تفاعلياً يتجاوز الشكل التقليدي للكتاب أو حتى الـPDF. بدأنا نرى إرهاصات هذا التحول بالفعل، الكتب اليوم كثيراً ما يرافقها إصدار صوتي (Audiobook) بصوت احترافي، والعديد من الناشرين يوفّرون نسخاً إلكترونية غنية بالصور أو حتى بالتصاميم التفاعلية والفيديوهات القصيرة. لا عجب إذن أن ملامح نماذج نشر جديد آخذة في الظهور، بما يتماشى مع مستخدم له عاداته وأفكاره وطريقة استهلاكه للوسائط الاجتماعية، ومعتاد على المحتوى السريع والمختصر، وعلى التوصيات الشخصية عبر الخوارزميات، وعلى التفاعل ثنائي الاتجاه مع المادة المقروءة (مثل التعليق والمشاركة والتقييم الفوري).
أحد أبرز مظاهر هذا التحول هو انتشار ظاهرة مجتمعات القراءة الرقمية مثل #BookTok على منصة تيك توك، التي شهدت إقبالاً هائلاً من الشباب على مناقشة الروايات والكتب عبر مقاطع فيديو قصيرة. هذه الظاهرة لم تكن مجرد موضة عابرة، بل أثّرت بشكل ملموس في سوق النشر، حيث تنبّه الناشرون إلى هذه القوة الكامنة في المجتمعات الرقمية، وبدأ الكثير منهم يتبنّون إستراتيجيات جديدة تتناسب مع سلوكيات القرّاء من جيل زد، فبدل التركيز فقط على المكتبات ومتاجر الكتب، أصبحوا ينشطون على المنصات الاجتماعية، ويتعاونون مع صنّاع المحتوى الرقمي الذين يستعرضون الكتب ويؤثرون في الجمهور.
إلى جانب ذلك، أصبح التخصيص الشخصي كلمة السر في مستقبل النشر، فبمساعدة الذكاء الاصطناعي، يمكن لدور النشر والمنصات قراءة تفضيلات كل قارئ على حدة: ماذا قرأ سابقاً، أي المواضيع تستهويه، مستوى اللغة الذي يناسبه؟ ومن ثم تقدم له تجربة مصممة خصيصاً بحسب ذوقه. تخيّل مثلاً منصة قراءة رقمية تستخدم خوارزمية توصي القارئ التالي بمجموعة مقالات أو كتب مبنية بدقة على المواضيع التي يهتم بها وأسلوب الكتابة الذي يفضّله، بل ربما تُتيح له تعديل طول النص أو مستوى التفصيل فيه. بحيث يحصل كل مستخدم على رحلة تعلم فريدة، ويصبح الكتاب منصة تفاعلية يمكن للقارئ أن يطرح عليها أسئلته عن نص ما، ويحصل على إجابات فورية عبر مساعد ذكاء اصطناعي مدرَّب على محتوى الكتاب. هكذا تُطوّر دور النشر خدمات ذكية مضافة للكتاب التقليدي، تجعل القراءة تجربة تفاعلية وحيوية.
أما من ناحية حماية المحتوى، فإن أدوات الماضي لم تعد كافية. كانت دور النشر لعقود تعتمد على تنسيقات مثل PDF مع تشفير أو علامات مائية رقمية بسيطة للحفاظ على حقوقها ومنع القرصنة. لكن في عصر يمكن فيه للنصوص أن تُستخرج بسهولة ويُعاد توليدها أو تلخيصها بفضل الذكاء الاصطناعي، تصبح الحاجة ماسة إلى تقنيات حماية أكثر تطوراً. من الأفكار المستقبلية المطروحة أن يتم تضمين علامات رقمية خفية داخل المحتوى (digital watermarks) تكشف إذا ما كان نص معين قد تم توليده بالاستناد إلى كتاب محمي. أو استخدام تقنيات البلوك تشين (Blockchain) لإنشاء سجل لامركزي لكل محتوى أصلي، ومن ثم تتبع أي استخدام أو اقتباس له عبر الإنترنت لضمان تعويض المؤلف أو الناشر.
الناشرون الذين سينجحون في المستقبل هم أولئك الذين يتبنون أدوات العصر الرقمي ويكونون جزءاً من هذا التحول، وليسوا متأخرين عنه. إن التكنولوجيا سوف توفر فرصاً عظيمة للقطاع، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح شريكاً إستراتيجياً للناشر في التسويق ودراسة السوق والوصول إلى قراء جدد. بل إعادة تشكيل عقليتنا تجاه الثقافة مع الحفاظ على جوهر الإبداع الإنساني، وهذا يعني مزيجاً من الجرأة في التجريب التكنولوجي والحكمة في صون القيمة الإبداعية.