تعرف الملكية الفكرية كما جاء بالموقع الإلكتروني للمنظمة العالمية للملكية الفكرية (ويبو) WIPO كما يلي: (تشير الملكية الفكرية إلى إبداعات العقل من اختراعات ومصنفات أدبية وفنية وتصاميم وشعارات وأسماء وصور مستخدمة في التجارة. والملكية الفكرية محمية قانوناً بحقوق، منها: البراءات وحق المؤلف والعلامات التجارية التي تمكّن الأشخاص من كسب الاعتراف أو فائدة مالية من ابتكارهم أو اختراعهم. ويرمي نظام الملكية الفكرية، من خلال إرساء توازن سليم بين مصالح المبتكرين ومصالح الجمهور العام، إلى إتاحة بيئة تساعد على ازدهار الإبداع والابتكار) وهذا التعريف العام تفرعت عنه العديد من الإستراتيجيات الوطنية والعديد من القوانين والاتفاقيات لمحاولة ضمان الحقوق وإتاحة بيئة صحية لحماية الإبداع والمبدعين.
استمرت الأمور كذلك حتى أوغلنا في عصر المعلومات وصولاً إلى عصر الذكاء الاصطناعي -الثورة الصناعية الرابعة وما بعدها- حين أصبحت الإبداعات تنتج بواسطة أنظمة وبرمجيات وخوارزميات تقوم باستخدام سابق لإبداعات البشرية في كافة المجالات لتقوم بإنتاج إبداعات جديدة، وهو ما تجلى ولمسته أعداد كبيرة من البشر بعد إطلاق شركة OpenAi لتطبيق شات جي بي تي الشهير والذي يقع تحت فئة النماذج اللغوية الكبيرة (Large language Models (LLMs وذلك في الثلاثين من نوفمبر من عام 2022، وما تلاه أيضاً من تطبيقات أخرى، مثل: جيميني وكوبايلوت وديب سيك وغيرها، والانتقال أيضاً إلى تطبيقات لتوليد الصور والمقاطع المصورة والمسموعة من أصوات وموسيقى، وانتشار وسهولة استخدامها؛ حيث بات أغلب مستخدمي شبكة الإنترنت على علم بها وهم الذين وصل عددهم نحو 5.5 مليار مستخدم من أصل 8.2 مليار إنسان على وجه الأرض.
كل تلك التطبيقات والتي تقع تحت عنوان رئيسي هو الذكاء الاصطناعي التوليدي Generative Artificial Intelligence أثارت العديد من الإشكاليات والمخاوف -أو فلنقل الاتهامات- منها الخطورة على الإبداع البشري والقدرات العقلية للإنسان، ومنها انحيازات تلك الأنظمة لثقافة معينة أو لاتجاه فكري معين بناء على ما تم تغذيتها به من بيانات وبناء على أسلوب عمل الخوارزميات المعتمد عليها في توليد المحتوى النهائي، وأيضاً ما تسببه من تهديد للبشر في العديد من الوظائف التي بات من السهل القيام بها واستبدال العاملين السابقين فيها بتلك الأنظمة وما تقوم بإنتاجه.
من الإشكاليات المهمة أيضاً ما يرتبط بالملكية الفكرية للمنتج النهائي من تلك الأنظمة، وهل لها حماية كما للإبداع البشري الطبيعي؟ وهل توجد حماية للإبداعات الطبيعية المستخدمة كمدخلات له والتي لولاها لما استطاع توليد المحتوى الجديد؟ وهل يجب أخذ إذن أصحابها الأصليين قبل الاستخدام؟ فعلى سبيل المثال قام كتاب السيناريو في هوليوود بإضراب لمدة تزيد على خمسة أشهر بسبب استخدام شركات الإنتاج لأنظمة الذكاء الاصطناعي لتوليد سيناريوهات جديدة وخفض الحاجة إلى التعاقد مع كتاب من البشر بالرغم من اعتماد تلك الأنظمة على سيناريوهاتهم السابقة.
والحقيقة أن كل القوانين الحالية تعتمد مبدأ (التأليف البشري) لكي تطبق قواعد الحماية ولا تعترف بذلك بالنسبة للإبداعات المولدة بواسطة أنظمة الذكاء الاصطناعي إلا في حالات أن يقوم المؤلف الأصلي بالاستعانة بتلك الأنظمة والتعديل والإضافة إليها بإضافات كبيرة وملموسة قبل أن يقوم بنشرها سواء اعترف بأنه قد قام باستخدام تلك الأنظمة في عملية الإبداع أم لم يعترف، أما عن حق تلك الأنظمة في استخدام الإبداعات البشرية كمدخلات لها فإن هذا الأمر يقع في منطقة رمادية كبيرة حيث يرى أصحاب الحقوق وجوب أخذ موافقتهم قبل الاستخدام فيما يتبنى الطرف الآخر -الشركات مطورة الأنظمة- إلى أن هذا الاستخدام يقع ضمن الاستخدام العادل Fair Use أو أنه طالما أن تلك البيانات متاحة للجمهور فإن الإتاحة تشمل الأنظمة أيضاً، كما أنه توجد شبه استحالة من الناحية العملية الحصول على موافقة كل مبدع على حدة قبل استخدام بياناته وأن العبرة بالمنتج الإبداعي النهائي وذلك بإخضاعه لاختبارات للتأكد من تماشيه مع قواعد ومحددات قوانين الملكية الفكرية التقليدية، وبالرغم من هذا نجد العديد من الدعاوى القضائية المرفوعة حالياً في جميع أنحاء العالم من قبل فنانين ومؤلفين وناشرين ضد شركات الذكاء الاصطناعي الكبرى مثل (OpenAI، Stability AI، Midjourney)، والحقيقة أن نتائج هذه القضايا ستكون حاسمة في تحديد الوضع القانوني، وهو ما لم يبت فيه حتى كتابة هذه السطور.
هذه الإشكالية ما تزال محط أنظار العالم فالجميع في حالة ترقب وتجربة، فاليابان على سبيل المثال سمحت باستخدام أي بيانات حتى المحمي منها لتدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي، وقامت بنهاية شهر فبراير 2025 بإرسال أول قانون بها للذكاء الاصطناعي والذي وصفته بالصديق AI Friendly، فيما تحاول دول الاتحاد الأوروبي من خلال قانون الذكاء الاصطناعي EU AI ACT لفرض قيود صارمة على الانتهاكات مع محاولة تحقيق المعادلة الصعبة بين المنع وإطلاق حرية الإبداع والابتكار حيث تتركز على وجوب الإفصاح عن مصادر البيانات المستخدمة مما يحفظ لأصحابها حقوقهم، وتتبقى الإبداعات المولدة من تلك الأنظمة بلا حماية.
أما عن القدرة على التفرقة بين المحتوى المولد بواسطة أنظمة الذكاء الاصطناعي وذلك المولد بواسطة البشر الطبيعيين فإن الأمر ليس بالسهولة المتوقعة بالرغم من وجود العديد من الأدوات التي قد تنجح في بعض الأحيان في هذا الكشف، إلا أنها في أحوال أخرى كثيرة تفشل في هذا، ويعود الأمر ليخضع للحدس الإنساني والخبرة في نوعية وطبيعة المحتوى المولد، ففي حالة النصوص قد نجد تكراراً غير مبرر للكلمات والعبارات، أو فقدان للترابط المنطقي وبخاصة في حالة النصوص الطويلة، أو وجود أخطاء ومعلومات غير دقيقة، أو الافتقار إلى الإحساس العاطفي البشري الطبيعي، وفي حالة الصور قد نجد تكراراً في بعض الأجزاء والأنماط أو أخطاء في الظلال والمنظور أو الأشكال، وفي جميع الأحوال فإن مواثيق الاستخدام الأخلاقي والمسؤول للذكاء الاصطناعي تؤكد على ضرورة الإفصاح من قبل المستخدمين في حالة الاعتماد على تلك الأنظمة بشكل كلي أو جزئي في توليد المحتوى النهائي، بالطبع المواثيق وحتى القوانين يجب أن تستند إلى أدوات قوية وفعالة لإنفاذه، فكما أن أنظمة الذكاء الاصطناعي تتطور يوماً بعد يوم وستصل إلى مرحلة تقديم محتوى يصعب اكتشافه حتى على المتخصصين فى المجال فإن الضرورة تحتم تضافر الجهود لتطوير منظومات اكتشاف بنفس الكفاءة لاكتشاف نسب استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي ونسب العمل البشري الخالص ليتم استخدامها في حالات الادعاء والانتحال من قبل المتضررين أو المستخدمين لتلك التقنيات.
وبخصوص الصراع بين الإنسان والآلة، أي بين الاتكالية عليها بصورة كاملة وبين الاستخدام المسؤول؛ فإن الصيغة الأنسب للتعامل مع الذكاء الاصطناعي والتي يؤمن أغلب الخبراء بها هي أن الذكاء الاصطناعي واقع موجود وسيستمر، ولا يمكن تجاهله، كما لا يصح الارتماء والاستسلام له تماماً أيضاً، بل يجب استخدامه واعتباره مساعداً ومعاوناً للبشر بصيغة ومقدار يمكّن كل مستخدم أن يصل إلى القدر المناسب له بلا إفراط أو تفريط، ويكون المقياس هو الإجابة عن السؤال (هل ما زالت إبداعاتي أفضل من تلك التي يولدها الذكاء الاصطناعي؟وهل مازلت قادراً على تقييم وتصحيح ما تنتجه تلك التطبيقات وهل مازلت قادراً على إنتاج إبداع بشري بدون اللجوء لتلك التطبيقات أم أن لياقتي الذهنية والإبداعية تتراجع؟)، هذا بالإضافة إلى الإشكالية الكبرى والخاصة بالهوية العربية والقدرة على حمايتها فى ظل أنظمة توصم بالكثير من التحيز الناشئ نتيجة تحيز البيانات المدخلة إليها أو تحيز الخوارزميات المعالجة لتلك البيانات وهي إشكالية لا يتحدث الغرب عنها كثيراً نظراً لعدم أهميتها بالنسبة له، ولذلك وبالرغم من أن الأدوات التقنية لتطوير منظومات الذكاء الاصطناعي متاحة ولدينا في المنطقة العربية آلاف من المبرمجين إلا أن الأمر يحتاج إلى تضافر الجهود للعمل بصورة محوكمة من خلال إستراتيجية ومشروعات تقنية ممولة لتطوير منظومات عربية تحافظ على الهوية والثقافة المحلية، فأنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية تعدّ صناديق سوداء لا نعرف من أين حصلت على المعلومات والبيانات ولا كيف تمت معالجتها لإنتاج المحتوى.
وفي جميع الأحوال وحتى اللحظة الراهنة نستطيع أن نؤكد على أنه وبالرغم من دخول الذكاء الاصطناعي في كافة مناحي الحياة ومجالاتها التطبيقية والإنسانية والإبداعية المختلفة إلا أن تلك التطبيقات ما تزال تفتقر إلى تطوير وعي ذاتي أو عواطف ومشاعر وأحاسيس وهي العناصر التي تميز الإبداع البشري وتظهر التميز والفرق الأساسي بين المبدعين.