مجلة شهرية - العدد (586)  | يوليو 2025 م- محرم 1447 هـ

الذكاء الاصطناعي والمحتوى الثقافي والإعلامي

قبل سنوات، وتحديداً خلال عملي الصحفي في تغطيات موسم الحج، كنت أُعِدّ تقارير يومية وسط ظروف ميدانية صعبة، وكان عامل الوقت حاسماً، والدقة مطلوبة بلا تنازل. حينها، تمنيت لو أن لدي أدوات ذكية تساعدني في فرز المعلومات، وتحليل البيانات، وإعداد المسودات بسرعة. لم أكن أتخيل أن يأتي يوم تصبح فيه تلك الأمنية واقعاً، بل وتتحول الأداة إلى شريك في الكتابة نفسها.
كنت أجهز المحتوى منذ وقت مبكر نظراً للظروف والضغوطات لكي أتمكن من التميز خلال فترة الحج حتى أصبح زملائي يشبهون عملي في الحج بأن لدي (الشنطة السوداء) التي أفتحها في الحج نظراً لغزارة المحتوى إلا أنه لم يكن إلا جهداً مضاعفاً من وقت مبكر. اليوم، بات الذكاء الاصطناعي حقيقياً في حياتنا الإعلامية، لا مجرد تقنية واعدة. يكتب المقالات، يلخص التقارير، يولد الصور، ويقترح العناوين. ومع هذا التقدم، يبرز سؤال وجودي: هل نُحسن استخدام هذه الأدوات لخدمة الإبداع؟ أم أننا، دون أن نشعر، نسمح لها بإفراغه من جوهره؟
بين الكفاءة والأصالة
لا شك أن أدوات الذكاء الاصطناعي حسّنت من كفاءة العمل الإعلامي. جربت شخصياً استخدام أدوات تحرير نصوص ذكية لتحسين سرعة الصياغة أو إعادة كتابة التقارير بشكل مبدئي. لكنها في كل مرة كانت تحتاج إلى لمستي الشخصية، وفهمي للسياق الثقافي والاجتماعي، خصوصاً حين أكتب لمجتمع له لغته الخاصة، وحساسيته الفريدة تجاه بعض المفاهيم.
الإشكال ليس في الذكاء الاصطناعي بحد ذاته، بل في مدى الوعي بطريقة استخدامه. حين نعتمد عليه بالكامل، نُنتج محتوى (نظيفاً) لغوياً لكنه بلا روح. أما حين نستخدمه بذكاء، فإنه يعزز قدراتنا، لا يستبدلها.
ديربي الذكاء بين الاصطناعي والإنساني
كتبت مقالاً قبل عدة سنوات سألت فيه الذكاء الاصطناعي يوماً ما: هل ستقضي على الصحافي الميداني؟ فأجاب بكل تجرد ومصداقية: لا، لا يمكن أن يقضي الذكاء الاصطناعي على مهنة الصحافي الميداني بشكل كامل. فرغم أن الذكاء الاصطناعي يمكنه مساعدة الصحافة في بعض الجوانب مثل توليد المحتوى الإعلامي وجمع البيانات وتحليلها، إلا أن الصحافة الميدانية تتطلب مهارات فريدة ومهمة في جمع الأخبار والمعلومات من المصادر المباشرة وتحليلها وتقديمها بطريقة متناولة ومفهومة للجمهور.
تجربة من الواقع
في إحدى المرات، استخدمت أداة ذكاء اصطناعي لتلخيص دراسة طبية معقدة كنت بصدد تبسيطها للجمهور في حملة توعوية. قدمت الأداة تلخيصاً جيداً من حيث المصطلحات، لكنه افتقد للربط الثقافي والبعد الإنساني الذي يجعل الرسالة تصل للجمهور المحلي. تدخلتُ لاحقاً بصياغة توصل الرسالة بلغتنا اليومية، وبأمثلة من الواقع السعودي. في تلك اللحظة، أدركت بوضوح: الذكاء الاصطناعي قوي، لكنه لا (يعرف الناس) كما نعرفهم نحن.
ملكية المحتوى.. من المبدع؟ من المُبرمج؟ من المشغّل؟
السؤال الذي يُقلقني، ليس كمبدع فحسب بل كمسؤول إعلامي أيضاً: من يملك النص؟ وهل يحق لي أن أقول إن هذا المقال لي إذا كتبته أداة بناءً على أمر مني؟ هذا يفتح أبواباً قانونية وأخلاقية متشعبة. نحن بحاجة إلى إطار قانوني يعترف بالمحتوى المولّد آلياً، لكن دون أن يُساويه بمحتوى الإنسان، لأن القصد والنية غائبان في الطرف الأول.
هل نحتاج ختماً يقول (هذا النص كتبه إنسان)؟
أحياناً، أشعر أننا سنصل إلى مرحلة يُطلب فيها من الكُتّاب إرفاق تصريح يؤكد أن العمل من إنتاجهم الكامل. وهذا بحد ذاته مؤشر خطر، لأننا نعيش الآن زمن الشك في الأصالة. ولعل الحل ليس في الرقابة فقط، بل في بناء ثقافة جديدة تُقدّر الإبداع البشري وتُظهره بوضوح.
نموذج تكاملي لا إقصائي
أعتقد أن على المؤسسات الإعلامية والثقافية أن تتبنى نموذجاً تكاملياً يُوظّف الذكاء الاصطناعي كمساعد لا كمؤلف، وأن تُدرب الأجيال الجديدة على أدواته ضمن منهجية تحمي الإبداع. تماماً كما حدث حين انتقلنا من الطباعة اليدوية إلى النشر الإلكتروني: الأدوات تغيرت، لكن جوهر العمل ظل بيد الإنسان.
دعوا التقنية تخدم الإنسان لا تبتلعه
الذكاء الاصطناعي فرصة، لكنه ليس الحل الكامل. يمكنه أن يعالج الزحام المعلوماتي، لكنه لا يعرف الخوف الذي يشعر به الصحفي قبل نشر قصة حساسة، ولا يعرف دمعة الكاتب التي سقطت على نصه. نحن فقط من يعرف.

ذو صلة