مجلة شهرية - العدد (585)  | يونيو 2025 م- ذو الحجة 1446 هـ

السريالي محمد رياض سعيد.. في مواجهة الفناء

شعور بالدهشة هي ما يتملك زائر المعرض الخاص بأعمال الفنان المصري محمد رياض سعيد (1937-2008)، الذي يحتضنه جاليري المشهد بالزمالك - قلعة الفن التشكيلي المصري. فما أن دعاني الفنان والنحات إيهاب اللبان لزيارة المعرض الذي يقيمه له بجاليري (المشهد)؛ شددت الرحال إلى الزمالك من القاهرة الجديدة لثقتي فيما يقدمه اللبان من معارض تكشف جوانب استثنائية عن المشهد التشكيلي المصري، حيث يعرض أعمالاً لم تعرض من قبل لعشاق الفن التشكيلي وعشاق الاقتناء.
بمجرد أن تدخل إلى المعرض ينتابك شعور بأنك دخلت لعالم سريالي مفعم بالألوان والرموز والتأويلات. السريالية بوهج بداياتها، تصاحبك فيها أنغام أوبرالية، وكأنك عبرت ضفة أخرى لعالم خيالي نسجه رياض سعيد.
من الوهلة الأولى، لمست البعد الفلسفي الضارب بعمق في كافة تفاصيل اللوحات، والتماس آفاق حرية الخيال وحرية الذات، حرية الجنون وحرية الشعور. نلتمس النزعة الرومانسية لدى الفنان الراحل في تجسيد البراءة في مواجهة الواقع، حيث الطفولة رمزاً أساسياً في عدد من لوحاته لمواجهة قبح العالم. وكأن الطفل/الإنسان يواجه الحياة بوحشيتها، فنجده يضع رمزاً للآلة أو لحضارة بائدة، مع رمز الخلق (تفاحة آدم). ويظهر رمز التفاحة في كثير من لوحاته، معبراً عن صراع الخير والشر، وثنائية البراءة والغواية، وهي نقطة التقاء في اللوحة بين الجنة المنشودة ومعاناة الحياة الدنيا.
في عالم رياض سعيد تتسع اللوحة لصراع المشاعر والأفكار المكتسي بالغموض أحياناً، ما يجعل من كل لوحة حالة تأملية، وبالرغم من ذلك، تتجلى عبقرية الفنان في أن المتلقي سيجد أيضاً رابطاً ما بين جميع أعماله، وكأنها محطات في عالمه الخيالي، أخرج فيها بعناية هواجسه ومشاعره وتمرده على الحداثة وتبعاتها. تكمن عبقرية رياض سعيد في مخاطبته حواس المتلقي عبر موسيقى لونية خفية تجعلك تشعر بحركة لا نهائية في فضاء اللوحة، قوامها إيقاع الرموز الغامضة في اللوحة. وقدرة المتلقي على الربط بين هذه الرموز وبعضها؛ تجعله يخلق سيمفونيته الخاصة به وحده.
يترك رياض سعيد للمتلقي أبواباً عديدة لتأويل لوحاته، وما تعكسه من أفكار عابرة للزمان والمكان، فهي أشبه بقصائد ذات إيقاع قصير مكثف، تتراص كلماتها في أنشودة سرمدية تقطر حزناً على مآلات البشرية. في لوحة (القناع) يترك الفنان كائناً غامضاً متوشحاً برداء أسود، يبدو أنه يستبدل أقنعة، مع تلاعب مبهر بإضاءة اللوحة، يضيف للوحة غموضاً، وكأنها مشهد سينمائي يجذب المتلقي لتقصّي حقيقة هذا الكائن، لكن دون جدوى، لتجد نفسك مذهولاً أمام اللوحة من شدة غموضها وتأثيرها السحري.
تستوقفك في أعمال رياض سعيد ثيمة النافذة المنفتحة على أفق البحر والسماء، كأنها توق للحرية والفردوس المفقود. ففي إحدى اللوحات تتشابك النوافذ مزينة بثمار العنب، في لوحة أخرى تقع النافذة في المنظور البعيد للوحة، وكأنها تستقبل فارساً يمتطي حصاناً، لكن الحصان يسير بعكس اتجاه النافذة، بمحاذاة كرسي متحرك، تصلح ما به من عطب يد بشرية، بينما يرتكن فارس في أقصى اللوحة على حائط يكاد يختفي بداخله، ويتصدر اللوحة في المنظور القريب تمثال نصفي لفارس روماني تعلو ملامحه ابتسامة ساخرة، وتبدو أمامه تفاحة حمراء سقطت على أرضية اللوحة.
ما لفتني أيضاً هو الرؤية الاستشرافية للتحولات الاجتماعية التي جسدتها لوحات الدكتور محمد رياض سعيد، وكأنه رسم حالة السيولة التي رصدها عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان، فالإنسان خاضع للتكنولوجيا، تائه بين أجهزة ومنصات، يفتقر لعذوبة الحياة، ويسعى للقمة العيش في لهاث مستمر.
غالبية لوحاته بدون عنوان، ربما رغبة منه في أن يترك اللوحة تحاور المتلقي، وتفشي له أسرارها، فهي مفردات لا يجمعها اتساق. في إحدى اللوحات سنجد خبز (الباجيت) وقد دقت فيه قطعة معدنية، بينما ينظر كلب أسود شاخص بيأس تجاه يد بشرية تأمره بالصبر، في خلفية اللوحة رأس الإسكندر ممتعضاً، بجوارها إطار سيارة مطاطي، وما يشبه ثمرتين من التين الشوكي على شكل دروع حربية تبرز منها تفاحة ورأس نيوتن، وأخرى تمسك بها يد حاملة فرشاة تلوين أمامها طفل يبدو وكأنه يتدبر أمره ووجوده في هذا العالم.
البحر يبرز رمزاً للتحرر في خلفية عدد كبير من اللوحات، ويخفف من وطأة قسوة الرموز في بعض الأحيان، ففي لوحة امرأة الآلة، يتصدر اللوحة جسد امرأة عارية، رأسها مخفي في إسطوانة معدنية تحاول انتزاعها بإحدى ذراعيها، بينما تخرج التروس من ذراعها الآخر، على صدرها وسم معدني، بينما تتحكم في رحمها أزرار موصلة بأسلاك بيد بشرية، ويتصدر اللوحة جنين كأنه يقاوم الخروج للدنيا، وينظر كلب لهذا الجسد المكبل بالآلات باستغراب وشفقة، بينما تحترق عربة على رمال الشاطئ، وتتدلى عناقيد الثوم من باب عربة أخرى. يمكن أن تقرأ هذه اللوحة من عدة جوانب، ويمكن أن يخلع عليها كل منا قضية تشغله، منها استئجار الأرحام أو (السايبورج) البشري، وربما تشي اللوحة أيضاً بالاستعمار والعنف ضد النساء.
جل لوحات المعرض غير ممهورة باسمه، عدا لوحة لفتني توقيعه لاسمه على عبوة داخل اللوحة! وكأنها رسالة للأجيال القادمة مفادها أن العالم تغير، وستسوده ثقافة استهلاكية، فلا مجال للمشاعر.
عبر رياض سعيد عن مفهوم ( المكدلة) أو ( ماكدونالزيشين) Mcdonalization رمزاً للهيمنة الأمريكية، وسيادة ثقافة الوجبات السريعة، والتنافس حول اقتناء الأشياء، وتوحش النظام الرأسمالي. في اللوحة يحلق البرجر في السماء فوق أكفان ممتدة حتى واشنطن التي تطل معالمها كأطلال باهتة في المنظور البعيد للوحة. في لوحات أخرى يعري الفنان النظام الرأسمالي، وتشيؤ الإنسان، وغلبة المادة والآلة على أنماط الحياة. إجمالاً تمثل لوحات رياض سعيد متتالية تشكيلية مبهرة تجعلك ترافق الفنان في رحلته الفنية، لتستمع لفكره وتعيش في خياله الخصب.
وعن سبب إطلاق (عزيز الفن المصري) على الفنان محمد رياض سعيد؛ يقول إيهاب اللبان، معد المعرض ومؤسس جاليري المشهد، لـ(المجلة العربية): ( أطلقت عليه هذا المسمى كون أسرته متحفظة جداً على عرض أعماله، نظراً لندرتها، وهو من ناحية أخرى حفاظ على الإنتاج الفريد لهذا الفنان الذي يعد أحد رواد المدرسة السريالية المصرية)، يتابع: (هو صاحب تجربة رائدة على المستويين الفكري والتقني الفني، تشكل أعماله عالماً فريداً ساحراً تنطق مفرداته بسياقها السيريالي، وبالكثير من المعاني، ويجذب عين المتلقي ببساطة عناصره اللونية وعمق الرسائل التي تطلقها رموز عالمه السريالي).
ويضيف اللبان: (تكمن براعة سعيد في قدرته على معالجه تناقضات الواقع وقسوته بروح سريالية وخيال استثنائي، ما يعطي القضايا التي تؤرقنا جميعاً بعداً آخر. وسعادتي بهذا المعرض تأتي كونه يتيح للجمهور رؤية أعمال فنان عظيم يعد أيقونة السريالية المصرية).
يتابع اللبان: (تمثل أعماله محطة رئيسة وفارقة في مسار الفن المصري الحديث، لم تأخذ أعماله حقها من الدراسة والتحليل، وأعتقد أن المعرض سيحقق ذلك، خصوصاً أن أعماله كأنها تعبر عن الواقع المعاش حالياً، وكأنها كانت تتنبأ بالمستقبل).
لا يقيم جاليري المشهد معارض متتالية، ولكن على فترات متباعدة، فقد اعتاد إيهاب اللبان أن يعمل بجهد بحثي عن كنوز الفن التشكيلي المصري التي توارت عن الجمهور أو لم تأخذ حقها النقدي، فهو مراقب جيد للحركة التشكيلية، وينتقي بعناية شديدة أعمال الفنانين، ويؤكد: (خلق رياض سعيد من أعماله تياراً خاصاً به، وقد تأثرت كثيراً بأعماله، وأعرف قيمته وبراعته وتميز أعماله. لذا، منذ فترة أحاول تقديم معرض يليق بأعماله، ويعطي فكرة للأجيال الجديدة عن عالمه الخاص، فقد كان قليل المشاركة في المعارض، ولم يقدم كما ينبغي. ومؤخراً، حصل تواصل مع أسرته المعروفة بحرصها الشديد على أعماله، وعدم رغبتهم في عرضها للاقتناء، وبعد محاولات امتدت لستة أشهر خرج المعرض للنور، وأصبح رياض سعيد حديث الوسط التشكيلي بإنتاجه الفني المميز).
جاليري المشهد يحاول من خلال معارضه أن يكون شريكاً في رسم ملامح الحركة التشكيلية المصرية عبر الماضي والحاضر، بأن يتطرق لبعض النماذج المؤثرة في تاريخ الحركة التشكيلية المصرية مع تقديم الحركة المعاصرة ورصدها بعناية شديدة والحرص على الإضاءة على نماذج فنية مؤثرة في تكوين الحركة التشكيلية عموماً، فهي شريك رئيس في تكوين المشهد الحالي.
ويروي النحات إيهاب اللبان قصة انشغاله بأعمال رياض سعيد التي بدأت منذ فترة امتدت أكثر من 10 سنوات، حينما قدم عرضاً جزئياً لمقتنيات متحف الفن الحديث بدار الأوبرا المصرية، وكانت من بين اللوحات المميزة به لوحة (الراهبة) لرياض سعيد، فوقع عليها الاختيار لتكون واجهة للمعرض، فهي وفقاً له: (من أهم اللوحات في تاريخ مصر الحديث).
ويضيف: (كان سعيد منشغلاً جداً بالعمل الفني، أكثر من أي شيء آخر، ولا شك أن درجة الإتقان المرعبة في شغله ملحوظة للخبير وللمتلقي. وكم الخيال الطازج المتفرد، ومعالجته لسطح اللوحة؛ لا يخرج إلا من فنان متوحد جداً مع أعماله ومخلص لها).
ويتابع: (حاولت أن أقدم للجمهور نبذة عن عالم رياض سعيد، وهو من الجيل الثالث من السيرياليين، كان مخلصاً جداً للسريالية. لقد مارس أعماله بدقة تفوق الحدود).
ويلفت اللبان: (المضمون السياسي والاجتماعي من أهم الأبعاد التي ركز عليها رياض سعيد، وأكثر قضية شغلته هي القضية الفلسطينية، ولعل لوحته الشهيرة (حلم في ساحة القدس) تعد من أعمق اللوحات المعبرة عن روح القضية والأعمال الأيقونية عنها، فضلاً عن ثلاثة أعمال أخرى).
ويقول: (الفنان ضمير المجتمع، وأكثرهم تأثراً بما يدور حوله. ورياض سعيد لم يكن يتحدث كثيراً عن أعماله، لكنه قال كل أفكاره على لوحاته. وهو فنان لديه مضمون حقيقي في أعماله، وكان ينقصه جودة التقديم لجمهور الفن، حاولنا في هذا المعرض تقديم الفنان وتجربته الكاملة. الفنان –أي فنان- عموماً تكوينه سريالي، ورغم أن ملامح السريالية تظل موجودة في أعمال كثير من الفنانين إلا أن مهارة وقدرة تنفيذ الأفكار هي ما تميز به رياض سعيد عن أبناء جيله. عناصر أعماله تجعل المتلقي يروي قصته، فقد اشتغل بتكنيك كلاسيكي جداً، وتفاصيل دقيقة جداً، لدرجة نشك معها أنها تصوير فوتوغرافي مع مواضيع سريالية).
يضم المعرض 30 لوحة، تمثل خياله الخصب. ويشير القيم الفني للمعرض: (لإعداد هذا المعرض؛ مهدنا لجمهور الفن التشكيلي في إطار حملة تشويقية، رصدنا فيها على مدار شهر تاريخ السريالية ونشأتها، وبدأنا النشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وصولاً للتعريف بواحد من أهم روادها، ليس في مصر فقط؛ بل على مستوى العالم). ويؤكد اللبان: (هذا المعرض مجرد بداية لمشروعات أكبر تخص الفنان محمد رياض سعيد، بالعرض خارج مصر بمشاركات في أحداث فنية دولية).
ويسعى النحات إيهاب اللبان للإعداد والتجهيز والبحث الفني لمزيد من المشروعات والمعارض الفنية عن السريالية في عالمنا العربي، والتي يرى أنها تحتاج لقراءة دقيقة، لأنها تجارب ثرية وحافلة، خصوصاً في الحقبة الأخيرة من القرن العشرين.

ذو صلة