مجلة شهرية - العدد (585)  | يونيو 2025 م- ذو الحجة 1446 هـ

تأملات حول ماهية المسرح

السؤال هو أحد الأسس التي تقوم عليها الحياة الإنسانية، فهو يوجهنا للاهتمام بما نتساءل عنه، والإجابة التي نقدمها تحدد المدى الذي وصلنا إليه في هذه الحياة. والمسرح في جوهرة هو محاكاة لحياتنا أو لأجزاء منها، والتساؤل حوله يمكّننا من فهمه أكثر، والوصول إلى الغاية منه.
لذا لا ينفك السؤال من التوالي حوله، فما هو المسرح؟ وما يمثله في حياة الإنسان؟ وهل تختلف رؤيتنا للمسرح باختلاف الجهة التي نقف عليها جهة المشتغلين بالمسرح أو جهة المتفرجين، المتفرج العادي الذي يريد الاستمتاع فقط بالعرض، والمتفرج الناقد الذي يرغب برؤية الأشياء التي تختفي وراء الحوار والحركة التي يؤديها الممثلون على المسرح؟!
الأسئلة نفسها تتداعى في كل زمن بخصوص، لكن الإجابات تختلف باختلاف من يتولى الإجابة، وكذلك الزمن الذي تقال فيه، وكل منا له رأيه، لكن هناك نقاط نتفق حولها.
ومن الآراء الأكثر طرحاً رأي يقول إن المسرح منذ الأزل يقدم الرؤى وقضايا الإنسان الكبرى، فهو يدور حول ماهية الإنسان، ماذا يفعل هنا على الأرض؟ وإلى أين يمضي؟ ومن وراء كل هذا؟ فالمسرح يناقش كل هذا، فهو يحاور ويعرض ويقدم النهايات التراجيدية أو السعيدة، النهايات المفتوحة التي تقود إلى مآسٍ أخرى أو أفراح، والنهاية المغلقة التي تزيد بؤسه أو تعطيه أملاً!
وربما هذا الرأي يتفق معه الكثير، لكن التفاصيل المتعلقة بكيفية تحقيق ذلك كلنا نختلف فيها.
وهناك من يحمل نظرة مختلفة عن أهمية المسرح في حياتنا، فهو يعتقد أن السؤال حول درجة أهمية المسرح خاطئ، فهو يعطي مؤشراً إلى أننا يمكننا الاستغناء عنه بحسب النسبة المقابلة للدرجة التي نعطيها إياه، فمثلاً إذا قلنا إن المسرح مهم بنسبة (تسعة وتسعين) في المئة، فهذا يعني أن بإمكاننا التخلي عنه بنسبة (واحد) بالمئة.. وهكذا، لكن المسرح بالنسبة لنا يشبه الماء والغذاء، فهل يمكننا إعطاء نسبة لأهميتهما في استمرارية حياتنا؟
كذلك فالمسرح موجود باستمرار رغبتنا في التعبير عن أنفسنا، موجود في صورته البدائية والحديثة في كل تجمع إنساني حتى لو كان مكوناً من فردين، فطالما هناك عارض ومتفرج فهناك مسرح! حتى بوجود فرد واحد يمكن عبر المرآة تكوين عارض ومتفرج، لذا قضية السؤال عن أهمية المسرح يجب أن تنتهي ولا تطرح أبداً، ويحل محلها كيف نتغلب على الأشياء التي تعيق المسرح.
لكن يظل السؤال ملحاً عن ماهية المسرح، وسبب الهالة الهائلة التي تغمر عالمه؟ وهل يستحق المسرح كل هذا العناء الذي يُبذل لأجله؟! لكن رغم الوقت الذي مر على عالم المسرح لم تتحدد إجابة واضحة لهذا التساؤل. أو بمعنى أكثر دقة لم نجد الإجابة التي تجعل الكثيرين يتوقفون عن طرح هذا السؤال مرة أخرى! فتاريخية المسرح، وكيفية مساره منذ العرض البدائي الأول حتى الآن كلها تعطي مؤشرات تاريخية وتبرز دوره في حياة الناس عبر مختلف العصور، لكنها لا تعطي محددات واضحة لماهية المسرح أو ما الذي يجعله مستمراً! أو السبب الذي يجعله مكاناً (مناسباً ومؤثراً) لاستعراض الأفكار والرؤى حول الحياة والموت والوجود والعدم، الضحك والبكاء، السخرية والرزانة، المتانة والتفسخ، المثالية والوضاعة، السيادة والعبودية؟!
ومن الإجابات التي يمكن أن تكون مناسبة هنا أن المسرح يدور حولنا، وحول حياتنا، والأشياء التي نعتقد أنها تؤثر عليها، فكل ما تتناوله المسرحيات متعلق بإنسانيتنا، ووجودنا، والعدم الذي نشعر أنه يحيط بنا، والموت الذي لا نفهمه بشكل جيد. لذا نحن بحاجة للاختباء عن هذا العالم، نحتاج لإخفاء أنفسنا وأحلامنا، ضحكاتنا وأحزاننا، والتمثيليات هي أفضل مخبأ، فنخبئ داخلها كل ما نريد، الفرح، الحزن، الغضب، الشجاعة، الأمل، الخوف.. الأمس، الغد، الحاضر. كلها ننفثها داخل التمثيليات لنشاهدها ونحن نعرف أننا قادرون على التحكم بمسارها بشكل جيد، وواثقون بقدرتنا على إيقافها، أو إعادتها للوراء، أو حتى تغييرها بالكامل، نستطيع تأملها ونعرف ما الذي حدث ويحدث لنا، وكذلك ما الذي ينتظرنا مستقبلاً، وأيضاً نختبرها على خشبة المسرح قبل حدوثها في الواقع لنكون أكثر ثقة في تعاملنا معها في العالم الحقيقي.
كذلك - وتسهيلاً علينا- توجد في أعماقنا كل الشخصيات، الطيبة والشريرة، القوية والضعيفة، المهادنة والمتمردة، فقط علينا انتظار خروجها من الصناديق المعتمة في أعماقنا وهي ستتكفل بكل شيء، فالممثل يستخدمها على الخشبة، والمتفرج يعكسها على أعماقه.
من جانب آخر الفرح والأسى يظلان هما وقود المسرح، وهذا الوقود يُستخرج من أعماقنا! ونحن نحمل الكثير من الأسى على هذا العالم، ونرغب بالكثير من الفرح، لكننا لا نمتلك الكثير لصناعة كليهما في واقعنا! فنحن نتلقى الهبات وكذلك الضربات في الحياة الحقيقية، ربما نشارك قليلاً، لكن في النهاية طاقتنا محدودة جداً في هذا، ولا نملك سوى الانزلاق مع جريان الحياة!
كل المسرحيات تحمل هذا، تحمل الأسى والفرح، لكن كل ما تستطيع أن تقدمه لنا هو تعريضنا لها، لنستطيع تحمل تقلبات هذه الحياة بشكل أفضل، لكن هل يمكننا القول إن هذا هو جوهر المسرح فقط؟!
أيضاً ماذا عن البعد الكلي للمسرح لنا جميعاً مسرحيين وجمهوراً؟! وهنا كذلك نجد الكثير من الأقوال والأفكار، ففي كل زمن هناك مقولات -أطلقها رجال ومنظرو المسرح- أصبحتْ أيقونة ألهمتْ المنخرطين في عالم المسرح، لكن تعدد هذه المقولات يحمل معنى آخر، فهو يؤكد أنه لا توجد عبارات معينة يمكن اعتبارها هي المقولة الشاملة والكافية لماهية المسرح وتكون بمثابة القانون للمسرح ولا يمكن الخروج عنها! هناك أفكار ورؤى بعضها ينطفئ سريعاً، والبعض الآخر يصمد فترة أطول.
وإذا تعمقنا أكثر في البحث عن ماهية المسرح ننتهي إلى التساؤل عن الرابط الذي ألصقنا بدايةً بالمسرح وجعل له كل هذا الحضور؟! فنحن إذا عرفنا ما هو الرابط، فسنتعامل بشكل أوضح مع ماهية المسرح.
وبالعودة إلى بدايات ظهور المسرح التاريخية سنجد أن القواعد الأولى لا تزال تهيمن على عالم المسرح حتى الآن، ومن المتوقع استمرارها مستقبلاً، فالقناع الذي كان يرتديه الممثل المسرحي قديماً أثناء العرض هو الأساس والجوهر في فكرة المسرح، فالقناع يعطينا الإحساس أن ما يحدث على خشبة المسرح ليس حقيقياً، ربما تطور مفهوم القناع وتمويه حضوره على خشبة المسرح عبر الزمن، لكن فكرته هي أساس العرض المسرحي عبر تقمص أدوار أشخاص آخرين. كذلك يعد المسرح شكلاً من أشكال أحلام اليقظة، فالعرض المسرحي هو حلم جماعي نهرب إليه من واقع الحياة التي تصهرنا داخلها ونحن لا نستطيع التحكم بها أو بالنتائج التي ننتهي إليها، لذا نحن بحاجة إلى إعادة تمثيل الواقع على المسرح لنراه بوضوح ونستطيع التحكم الكامل به، ونعيد رسم الفرح، والألم، والحياة، والموت على خشبة المسرح ونحن نتحكم في كل لحظة بكل تفصيل فيها، فنقدم الزمن كما نريد، وننتقل إلى المكان الذي نريد، نشيخ ومن ثم نعود شباباً، نكون بؤساء ونتحول إلى ملوك، نعيش في الترف ونتحول إلى الفاقة. الأمر يشبه السحر! ومن ثم نعيد كل شيء إلى ما كان عليه سابقاً، ونعود إلى منازلنا وقد تطهرنا من كل شيء، وأخرجنا ما كنا نكبته ويضغط على أعماقنا، وسواء أكنا مؤدين أو متفرجين نشعر بنفس النشوة، ونحلق عالياً معاً، هذه هي قوة المسرح الحقيقية، وهي ما تجعلنا نستمر بالسير في هذا العالم رغم كل ما نواجه من صعوبات وتعب.
وما نقوم به على خشبة المسرح هو تحليل الأفعال والأفكار الإنسانية، وإعطاؤها قيمة أعلى، ونترك بعد ذلك للمتفرج حرية اتخاذ خياره الذي يراه مناسباً تجاه حياته القادمة.
كذلك نحن نذهب إلى المسرح -عارضين ومتفرجين- لعدم اكتفائنا بالواقع، ونحاول تفسير ما يحدث لنا وحولنا، نحن نمتلك طاقة داخلية هائلة، وعقل لا يهدأ، والمسرح ساحة تمكننا من تفريغ قليل من تلك الطاقة الهائلة، ونلهي عقولنا بشيء حتى يهدأ قليلاً.
ورغم هذا التعقيد في فكرة ووظيفة المسرح يمكننا أن نجعله أكثر بساطة عند النظر إليه من زاوية أخرى، فالمسرح في أبسط تعريف هو لعبة يمارسها الكبار، ممثلون يقولون إنهم شخصيات أخرى، ومتفرجون يصدقونهم ويصفقون لهم.
المسرح بسيط ومعقد في نفس الوقت، باكٍ وضاحك، تراجيدي وكوميدي لا نعرف أين يمكن وضعه، ولا في أي خانه نصنفه؟! هو يحكي عن الواقع لكنه ليس واقعاً! الشخصيات على المسرح من لحم ودم وتتحرك وتتكلم أمامنا لكنها ليست حقيقية! نحن نعرف قبل أن نجلس على الكرسي أننا سنرى عرضاً، لكن بمجرد رفع الستارة ودخول الشخصيات إلى خشبة المسرح ننغمس بكل حواسنا فيه، نضحك ونبكي، نفرح ونستاء ونتابع ما يحدث على الخشبة كأننا نرى ونسمع أشياء حقيقية!
نجلس ونندمج مع بداية العرض وننسى أنفسنا حتى نهاية العرض، كأننا انفصلنا عن حياتنا أثناء العرض، وبعد العرض نستعيدها ونعود إلى عالمنا ونضيف إليه ما علق بنا مما شاهدنا ونحن نشعر أن حالتنا أفضل من السابق، كأننا تخلصنا من حمل ثقيل كان يربض في أعماقنا!
ومع كل عرض مسرحي سواء أبهرنا أو حتى أحبطنا لا نزال لا نعرف كيف يستطيع المسرح أن يعمل بنا وبالآخرين كل هذا؟!

ذو صلة