مجلة شهرية - العدد (585)  | يونيو 2025 م- ذو الحجة 1446 هـ

ديمي مور تحاكم هوليوود

(المادة) هو أحدث أفلام الممثلة الأمريكية الشهيرة (ديمي مور).. والذي حقق نجاحاً كبيراً تجارياً ونقدياً في هذا الموسم، حصل الفيلم على جائزة السيناريو في مهرجان كان، كما حصل على جائزة أوسكار أحسن مكياج وتصفيف شعر، وحصلت النجمة (ديمي مور) على عدة جوائز عن دورها في الفيلم، منها: جائزة الجولدن جلوب لأحسن ممثلة في فيلم موسيقي أو كوميدي، وجائزتا أحسن ممثلة من نقابة ممثلي الشاشة، ومن جائزة اختيار النقاد. وتوج موسم الفيلم بترشيحه لأوسكار أحسن فيلم مع ترشيحات عن الإخراج والسيناريو وأحسن ممثلة.
تقدير كبير لفيلم يعتبر بعيداً عن الاتجاه العام لاهتمام الأوسكار والجوائز الأمريكية، فرغم أن الفيلم قد يصنف كفيلم مستقل ذي ميزانية صغيرة، إلا أن (محتواه) بعيد عن المحتوى المعتاد للأفلام المفضلة للأوسكار، فالفيلم بعيد عن اتجاه (الصوابية السياسية) المسيطر على هوليوود.
الفيلم الذي يمكن التعامل معه سطحياً كفيلم رعب فانتازي عادي، يحمل طبقات أكثر عمقاً وتعقيداً، فيمكن قراءة الفيلم كفيلم عن المرأة وهوس الجسد الذي يحولها لسلعة وليس إنساناً، ويمكن قراءته بالبحث عن طبقة أكثر عمقاً كمحاكمة لهوليوود اليوم!
المشهد الافتتاحي للفيلم محمل برمزية قوية: تدشين نجمة جديدة على رصيف النجوم في هوليوود، ربما يمكن اعتبار هذه اللقطة الافتتاحية مفتاحاً لدلالات الفيلم ككل.. في البدء يظهر مربع مصمت من الأسمنت على الأرض، ثم يبدأ العمال في إنشاء النجمة الجديدة عبر العصي المذهبة ووضع حروف اسم الشخصية الرئيسية لفيلمنا (إليزابيث سباركل)، وبعد صب الملاط حولها، تبدو النجمة بصورتها النهائية البراقة، بينما صاحبة النجمة تحتفل بوقوفها فوقها لالتقاط الصور.. لكن باستخدام تقنية التقديم السريع للزمن يعرض لنا المشهد التغيرات التي تصيب النجمة، بعد اللمعان وتسابق العابرين على التصوير معها، تنطفئ النجمة وينطفئ أثرها.. يتجاوزها المارة بلا اهتمام.. تغرق في التجاهل وتتلوث ببقايا الطعام وأوراق الشجر، تنشرخ النجمة المنطفئة وتصبح بلا قيمة حقيقية، وتتحول النجمة من تكريم إلى إهانة، من رمز للنجاح إلى رمز لمضي الزمن القاسي على صاحبة النجمة.
يمكن إسقاط هذا المشهد الرمزي على هوليوود ككل، وليس فقط رصيفها المغطى بالنجوم المنطفئة، فهوليوود مثل (إليزابيث سباركل) بطلة الفيلم تحاول طول الوقت أن تتغلب على مضي الزمن، يعرف منتجوها الكبار جيداً أن الملل هو الحقيقة الأكبر في صناعتهم.. فالجمهور سريع الملل، يبحث دوماً عن الجديد المليء بالإثارة، والجمهور بالنسبة لسوق هوليوود هو الزبون.. دائماً على حق، لهذا تكون عبر السنوات هوس هوليوود بالبحث عن التجديد، لكن الحقيقة أن التجديد في هوليوود -مثل التجديد في حياة إليزابيث- ليس تجديداً حقيقياً، فالمنتج.. الذي أظهره الفيلم في مظهر القوي الواثق الذي يفعل ما يريد دون حساب.. هذا المنتج المغوار في الحقيقة أكثر جبناً من أن يجرب أفكاراً أكثر جرأةً واختلافاً، بل يلجأ دوماً للخيار الأكثر أمناً، إعادة إنتاج القديم بشكل جديد، أجزاء جديدة من الأفلام الناجحة، أو إعادة إنتاج للأفلام من جديد، اقتباس أفكار من سينمات العالم، حيلة تجارية مستمرة منذ عشرات السنين.. إعادة تقديم نفس المنتج لكن بشكل لامع بدون تغيير في المضمون.. تكرارات -تبدو- أكثر شباباً وحيويةً لكن بدون عمق.
لكن خلف القشرة اللامعة نحن أمام صناعة منهارة ومصابة بالشيخوخة، أصبحت سينما هوليوود مجرد صدفة فارغة خالية من المضمون والعمق، وأسفرت محاولاتها اليائسة لإنتاج (نسخة جديدة أحسن) منها.. إلى تحويلها إلى مسخ للصناعة التي كانت.
يعتبر أداء ديمي مور لشخصية (إليزابيث سباركل) من أهم نقاط قوة الفيلم.. نجحت مور في عرض تفاصيل الشخصية وتعرية ضعفها وانهيارها الداخلي المستمر، وكان التحدي هو إظهار هذه التفاصيل رغم كل طبقات المكياج والمؤثرات المعقدة التي تم استخدامها لرسم الشخصية، كما استلزم الدور شجاعةً خاصةً لقبولها أداء هذه الشخصية كما ظهرت في الفيلم بما تضمنه من لقطات تظهر عيوب الوجه وتجاعيد الزمن. وهو بالتأكيد اختيار يحتاج لشجاعة خاصة لقبوله من نجمة كانت دوماً من أجمل وجوه هوليوود منذ التسعينات.. كذا يجب إشارة لتميز (دينيس كوايد) في دور المنتج.. شخصية صعبة الأداء ملأتها المخرجة بالكثير من التفاصيل الرمزية.. في الحركة والحديث وتناول الطعام، حتى دخوله للحمام صار حدثاً رمزياً يعرضه لنا الفيلم في لقطة شديدة القرب!
عبر إخراج (فارجا) للفيلم عن هوسها الخاص بالترميز، العديد من مشاهد الفيلم حملت رموزاً على الشاشة تعبر عبرها المخرجة عن رؤيتها، ما يذكرني بصلاح أبو سيف وحبه لوضع الرموز بين جنبات أعماله، ويحسب لفارجا نجاحها في السيطرة على الفيلم دون أن يدمره هوسها بالترميز وعرض الدلالات، فجاء إيقاع الفيلم متناسقاً، وظهر حسن إدارة المخرج لأداء الممثلين، اختارت الفرنسية لقطات (سمتريةً) لطرقات طويلة أو متوسطة، مع استخدام ألوان دموية ساخنة، ما يحيل المتفرج الواعي لعالم ستانلي كوبريك، وبالتحديد فيلمه المرعب (بريق)، كذا أجادت في استخدام اللقطات المقربة لدعم قصتها وعرض دلالاتها عبر استخدامات مختلفة لنفس اللقطة، فهناك فرق بين اللقطات المقربة لوجه المنتج وتفاصيله التي تحمل معاني الشر والقبح والاشمئزاز، في المقابل نفس اللقطات المقربة لوجه البطلة تحمل لنا تفاصيل تجاعيدها وهزيمتها في وجه الزمن، ثم نجد اللقطات المقربة لتفاصيل جسد (سو) تعبر عن الهوس بالجسد الأنثوي وتسليعه.
(المادة) قد لا يكون فيلم رعب فقط، بل هو فيلم مرعب في انتقاده، ومؤلم في صراحته.. طرحت صانعته فيه رؤيةً صادمةً على العديد من مستويات الدلالة، ما بين النساء وأجسادهن، وهوليوود وشيخوختها.

ذو صلة