مجلة شهرية - العدد (585)  | يونيو 2025 م- ذو الحجة 1446 هـ

الأزياء في السينما.. حكايات تنسجها الأقمشة

هل تخيلت كيف ستكون الصورة السينمائية لمشاهد (كلينت إيستوود) في فيلم Unforgiven إذا كان يرتدي بدلة أنيقة تشبه إطلالة مارشيلو ماستروياني في فيلم 8 ½ بدلاً من ملابس راعي البقر في الغرب الأمريكي؟ أو كيف سيكون الحال إذا استبدلت فاتن حمامة فستانها الرقيق الأنيق في مشهد رقصة الفالس من فيلم نهر الحب بجلابية هند رستم التي ارتدتها في فيلم باب الحديد؟ هل ستكون هذه الإطلالة مقنعة بالنسبة لك كمشاهد وتخدم السياق الدرامي للحكاية التي يود صناع العمل روايتها لنا؟
تتشابه السينما مع فن الكولاج وذلك من خلال استخدام مجموعة من العناصر المتنوعة والمختلفة لتحقيق النتيجة النهائية. فالسينما هي سرد بصري معقد، يتكون من طبقات متعددة تشمل نوعية اللقطات، البعد البؤري للعدسة، زاوية التصوير، الديكور، والإضاءة وطريقة توزيعها لنقل رسالة المشهد. بالإضافة إلى ذلك، يلعب الحوار والموسيقى المصاحبة دوراً في تعزيز التأثير، إلى جانب اختيار المكان الأنسب للأحداث، والبناء الدرامي والنفسي للشخصيات. هذا التداخل والتشابك بين جميع هذه العناصر هو ما يمنح الصورة السينمائية قوتها التعبيرية والجمالية.
تعد الملابس والأزياء عنصراً أساسياً في بناء الشخصية الدرامية، حيث تساهم في تشكيل ملامحها النفسية والاجتماعية. فهي أكثر من مجرد زي، إذ تُعد الملابس أداة قوية للتعبير عن هوية الشخصية وتاريخها. كما أنها تلعب دوراً مهماً في تحديد الزمن الذي تجري فيه الأحداث، والمكان، وكذلك الخلفية العرقية للشخصي، ومستواها الاجتماعي. ويمكننا القول بشكل آخر إن السينما والأزياء من أهم الموارد والمصادر التي يمكنها بعث الروح في الأحداث الأهم في تاريخ البشرية ومعايشتها بشكل جديد.
السينما والأزياء.. التكامل في سرد القصص
تعد علاقة السينما بالأزياء علاقة تكافلية يصعب تحديد أيهما استفاد من الآخر بشكل أكبر، حيث يتداخل كل منهما مع الآخر ويعزز من تأثيره. فمن خلال الشاشة الكبيرة ونجوم السينما الذين يتألقون على السجادة الحمراء في المهرجانات، يستطيع المصممون ودور الأزياء تحديد اتجاهات الموضة والترويج للأزياء الفاخرة والمجوهرات. بالإضافة إلى ذلك، لطالما كانت السيرة الذاتية للمصممين والصراعات التي يخوضونها في هذا المجال مصدراً غنياً للسرد السينمائي، حيث تم تناولها في أفلام مثل (بيت قوتشي)، والذي يتناول قضية مقتل موريسيو غوتشي والصراعات داخل هذه المؤسسة العريقة، وفيلم (إيف سان لوران) الذي يركز على الحياة الشخصية والمهنية لهذا المصمم الشهير، وفيلم (ماكوين) عن حياة المصمم ألكسندر ماكوين، وفيلم (كوكو قبل شانيل)، الذي يعد سيرة ذاتية لشخصية ملهمة جداً في عالم الموضة.
تؤمن المؤرخة الأمريكية هولاندر في كتابها (الرؤية من خلال الملابس) وأبحاثها حول العلاقة بين الفن والأزياء، أن ارتداء الملابس يعد فعلاً يعتمد في الأساس على الرجوع إلى الصور، لاسيما الصور الذهنية. وتعد هذه الصور بمثابة نسخ مُحررة من الصورة الفعلية. كما ترى أن الطريقة التي يُعرض بها الشخص الذي يرتدي الملابس تُعد شكلاً من أشكال إدراك الذات. تُفسر هذه النظرية التأثير العميق الذي تتركه الصور السينمائية في وجدان المتلقي. وكمثال على ذلك، يمكننا الاستدلال بما ذكره فريد شينون في كتابه (تاريخ الأزياء الرجالية)، حيث أشار إلى أن ظهور كلارك غيبل عاري الصدر في فيلم (حدث ذات ليلة) عام 1934 أدى إلى انخفاض فوري في مبيعات القمصان الداخلية للرجال في أمريكا بنسبة تقارب 30%. وفي الزمن الراهن وعند صدور فيلم (باربي) عام 2023، الذي استلهمت بعض أزيائه من عروض شانيل في التسعينات، أظهرت بعض الإحصائيات زيادة كبيرة في البحث عن مصادر إطلالة مارغو روبي بطلة الفيلم . فعلى سبيل المثال، ارتفعت مؤشرات البحث في محركات البحث عن عقد شانيل العتيق بنسبة 3000٪.
في أوائل ثلاثينات القرن الماضي، قدم صموئيل غولدين، أحد مؤسسي شركة (مترو غولدوين ماير) الشهيرة، عرضاً لكوكو شانيل بقيمة مليون دولار لتصميم ملابس لفنانات هوليوود. كان غولدين يهدف إلى إضافة لمسة من الجاذبية والسحر في فترة التحول الحاسمة التي شهدت انتقال صناعة السينما من الأفلام الصامتة إلى الأفلام الناطقة، فضلاً عن رغبته في تحرير خزائن السينما من تأثير الأزياء المسرحية التقليدية. لم تقبل شانيل العرض بسهولة، وعندما وصلت إلى أستوديوهات كاليفورنيا، أدركت أن التجربة لن تكون سهلة بسبب الفروق الثقافية والذوقية الكبيرة بين فرنسا وأمريكا. ومن المثير للاهتمام أن صموئيل غولدين بدأ حياته المهنية كبائع للقفازات. في نهاية عقد الثلاثينات، وتحديداً عام 1939، تعاونت شانيل مع المخرج الفرنسي الشهير جان رينوار لتصميم ملابس فيلمه الشهير (قواعد اللعبة). في هذا الفيلم، تجلت فكرة الأزياء كأداة سردية قادرة على إظهار التباين والتنوع بين الشخصيات المختلفة. وبذلك، أصبحت الأزياء أكثر من مجرد مصدر للجمال والسحر، بل جسراً للتعبير.
في عرض الأزياء لربيع وصيف 2020، سعت دار شانيل لإعادة تصور الماضي، وبخاصة فترة الستينات، وتأثير الموجة الفرنسية الجديدة على مفاهيم مثل الأنوثة والحب والعلاقات والأحلام ومعنى الحياة من منظور الحاضر. وقدمت الدار عرضاً يحتفي بتلك الفترة، مع حضور بارز للممثلة الراحلة جين سبيرغ، بطلة فيلم (منقطع الأنفاس) للمخرج جان لوك غودار، بإطلالات مستوحاة من شخصيتها. ولم تقتصر دار شانيل على تكريم السينما الفرنسية فحسب، بل عادت بعد عام لتكرم نجمات هوليوود، وتحديداً في فترة العشرينات والثلاثينات الذهبية، من خلال عرض يخلد إطلالاتهن الأنيقة. هذا التأثير العميق للسينما ونجومها على صناع الأزياء والموضة، عبَّر عنه بوضوح المصمم ألكسندر ماكوين حينما قال: (الأفلام تلهمني دائماً، لقد استخدمتها كخلفيات مرئية في عروضي، لأنها تغرس جواً مذهلاً من العاطفة).
الأزياء.. كبسولة زمنية
كان المخرج والمصمم الفرنسي كلود أوتانت لارا، الذي جمع بين الإخراج وتصميم الأزياء، يعبر عن القوة الفائقة التي تمتلكها الملابس في تجسيد الشخصية، سلوكها، ومكانتها الاجتماعية. كان يرى أن المصمم يحمل على عاتقه مسؤولية ضخمة في (كساء الشخصيات)، حيث يجب عليه أن يختار الملابس التي تعكس عمق الشخصيات وتكشف عن عوالمها الداخلية، مما يجعلها حية ومؤثرة في العمل الفني. ومن الأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها في هذا السياق هو فيلم (آني هول) للمخرج وودي آلن، الذي ينتمي إلى موجة سينما هوليوود الجديدة المتمردة والثائرة على القوالب التقليدية والصور النمطية لأدوار الأنوثة والذكورة. كانت ملابس ديانا كيتون في الفيلم تعبر عن شخصيتها العفوية، التلقائية، والمنفتحة على الحياة. ولا يزال مظهرها في الفيلم يحمل تأثيراً قوياً، حيث يُستلهم في إطلالات متنوعة وبسيطة.
يعتمد صناع السينما بشكل عميق على الأزياء كوسيلة للتعبير عن رسائلهم الخفية، فالأزياء ليست مجرد ملابس، بل هي لغة صامتة كما يراها مصمم الأزياء روبي، الذي صمم ملابس الفيلم الذي يتناول حياة مطربة الجاز الأمريكية نينا سيمون. يشبِّه روبي تصميم الأزياء بكتابة قصة طويلة أو سرد تاريخ حقبة معينة. في عالم السينما، تكون الأزياء بمثابة أداة سحرية تنقلنا إلى زمن ومكان بعيدين، تماماً كما حدث في فيلم (غاتسبي العظيم)، المأخوذ عن رواية سكوت فيتزجيرالد، والذي أخرجه باز لورمان. يعيد هذا الفيلم رسم صورة الحياة المترفة والمبهرجة للمليونير جاي غاتسبي في العشرينات من القرن الماضي، ويغمر المشاهد في أجواء تلك الحقبة بكل تفاصيلها الدقيقة.
في هذا الفيلم، الذي فازت فيه المصممة كاترين مارتن بجائزة الأوسكار لأفضل تصميم أزياء عام 2014، تصبح الملابس بمثابة البوابة التي تنقلنا إلى عالم غاتسبي المترف. الأزياء هنا لا تمثل مجرد اختيار ذوقي، بل هي مرآة لحالة اجتماعية وثقافية فريدة تعكس الترف والتطلعات الشخصية. في كل مشهد، نغمر أنفسنا في سحر العشرينات، حيث تصطف الفساتين اللامعة وتتمازج مع البدلات الأنيقة، مما يجعلنا نعيش في قلب تلك الحقبة بكل زينتها وتغيراتها الاجتماعية. في أحد المشاهد، يظهر غاتسبي العاشق وهو يتلهف لإبهار المرأة التي يحبها، من خلال استعراض ملابسه الملونة ورميها في الهواء بشكل ساحر، ليعيد إلى الأذهان صورة طاووس يتبختر متباهياً بألوان ريشه. السرد من خلال الأزياء لا يقتصر فقط على الأقمشة، بل يمتد إلى كل التفاصيل التي تكمل الأناقة، مثل الأحذية والقبعات والمجوهرات، فعلى سبيل المثال، عندما أراد غاتسبي إغراء الحبيبة للارتباط به، استخدم عقداً من اللؤلؤ الثمين، وعندما رفضت عرضه، تركت حبات اللؤلؤ تتناثر على الأرض كرمز لقرارها. لذا، يمكننا القول إن الأزياء في هذا الفيلم جزء لا يتجزأ من سرد القصة، فهي تجعلنا نعيش في عالم غاتسبي المترف وكأننا ضيوف في حفلاته الصاخبة.
الأزياء.. معيار اجتماعي
يعد فيلم (مذكرات فتاة الغيشا) للمخرج روب مارشال من أبرز الأفلام التي تبرز أهمية الملابس ودلالاتها، حيث فاز الفيلم في عام 2004 بجائزة الأوسكار عن فئة تصميم الأزياء. يعرض الفيلم حياة الغيشا في المجتمع الياباني خلال القرن الماضي، مستعرضاً أسرارهن وتقاليد مجتمع الغيشا المكرس لإسعاد الرجال. يُعد الكيمونو، الذي يمثل اللباس التقليدي في اليابان، عنصراً أساسياً في الفيلم وله دلالة رمزية قوية في السياق الدرامي. ففي ظل المنافسة بين فتيات مجتمع الغيشا، تسعى إحداهن إلى تلطيخ كيمونو منافستها، مما يضفي بعداً درامياً على الصراع والتحدي بين الشخصيات. نجد أيضاً أن ألوان الكيمونو متباينة بين الشخصيات، فمثلاً شخصية هاتسومومو ترتدي ألواناً غامقة ترمز لمقدار الألم والتعاسة المحيطة بها، فهي شخصية قاسية، غيورة، ومكبلة بقيود مجتمع الغيشا الذي يحرمها من البقاء مع حبيبها، بالمقابل نجد ملابس سايوري تميل للألوان الفاتحة للدلالة على طهارتها وبراءتها. يعبر الفيلم بوضوح عن التباين بين الجمال والواقع، حيث تكمن وراء كل الأشياء الجميلة قسوة وآلام خفية. فالملامح المصقولة خلف طبقات من البودرة البيضاء وأحمر الشفاه الصارخ تمثل محاولة لخلق صورة مثالية، بينما الملابس الحريرية التي تُرتدى تمثل قيوداً ثقيلة تعيق الحركة بسهولة وحرية. بالإضافة إلى الأحذية الخشبية المرتفعة وغير المريحة.
في السينما العربية، يعد فيلم (بئر الحرمان) للمخرج كمال الشيخ، وبطولة سعاد حسني، مثالاً بارزاً على كيفية استخدام الملابس لتوضيح التباين في الشخصية، خصوصاً في قصة شابة تعاني من اضطراب الهوية التفارقي. في هذا الفيلم، تجسد سعاد حسني شخصية ناهد الفتاة الرقيقة والرصينة من خلال ملابسها ذات الألوان الفاتحة الحالمة، التي تتراوح بين الأبيض والأخضر والأزرق. هذه الملابس تعكس شخصية ناهد التي تعيشها نهاراً في محيط عائلتها ومع خطيبها. ومع حلول الليل، تتحول إلى ميرفت، الفتاة اللعوب، التي ترتدي فستاناً باللون الكرز الأحمر اللامع، مما يبرز التغيير الجذري في شخصيتها. اختار كمال الشيخ هذا الفستان الأحمر ليكون جزءاً لا يتجزأ من شخصية ميرفت، فلا يمكن تخيلها دون هذا الفستان، مما منح الشخصية بصمة خاصة، يحتل هذا الفستان حضوراً بارزاً في مشهد البداية وفي الختام، مما يمنحنا شعوراً أن سعاد حسني هي أسيرة وسجينة هذا اللباس الذي من خلال الفيلم سنكتشف أنه رمز للحرمان العاطفي لوالدتها، فنحن صور عن ذوات أهالينا بشكل أو بآخر.

ذو صلة