شهد العالم في السنوات الأخيرة تحولات هائلة في مجالات التقنية والذكاء الاصطناعي، ولم يكن الأدب بمنأى عن هذه التحولات. بل لعلّ الرواية، بوصفها الشكل الأبرز للسرد الطويل والتأمل العميق في الذات والعالم، باتت اليوم في قلب مواجهة فكرية وجمالية جديدة. فمع ظهور نماذج لغوية قادرة على توليد نصوص طويلة تحمل صفات تنظيمية ومنطقية مشابهة لما يكتبه الإنسان، أصبح سؤال (مستقبل الرواية) ملحاً ومركزياً أكثر من أي وقت مضى. هل بإمكان الآلة أن تكتب رواية حقيقية؟ وإذا كتبتها، فهل تكون رواية أصيلة؟ ما الذي يتغير في فعل الكتابة حين يصبح الذكاء الاصطناعي جزءاً من عملية الإبداع؟ وهل يظل القارئ كما كان، أم أن تقنيات التفاعل الجديدة تعيد تشكيل ذائقته وتوقعاته؟
الرواية، كما صاغها التقليد الأدبي الحديث، ليست مجرد سرد للأحداث، بل هي انعكاس داخلي لتجربة معقدة يعيشها الإنسان ويعيد تشكيلها بالكلمات. لطالما كانت الرواية مرآة للوجدان الجمعي، كما كانت مرآة للذات القلقة، المتأملة، المتأرجحة بين الحلم والواقع. ولهذا فإن دخول الذكاء الاصطناعي إلى فضاء الكتابة السردية ليس مجرد مسألة تقنية، بل هو أيضاً تحدٍّ فلسفي وفني.
في هذا السياق، من المفيد استحضار أفكار ما بعد الحداثة التي رفضت مركزية المؤلف، كما في طرح رولان بارت الذي أعلن (موت المؤلف)، وفوكو الذي رأى أن سلطة النص لا تأتي من شخص بعينه بل من البنية ومن تعددية القراءة. كما أن أفكار جيل دولوز حول تلاشي (الهوية الذاتية) وتعدد مراكز المعنى تفتح أفقاً لتفهم كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يشارك في إنتاج نص لا يخضع لصوت واحد، بل تتقاطع فيه الأصوات والمصادر.
لا يمكن إنكار أن الذكاء الاصطناعي قدم أدوات مذهلة تساعد الكاتب في تنظيم أفكاره، وتوليد اقتراحات للحبكة، بل وحتى كتابة أوصاف شعرية أو وصفية بليغة. هناك برامج مثل Sudowrite وNotion AI وChatGPT تسمح للكاتب بإدخال فكرة أو جملة، ثم تقترح عليه تطويرات ممكنة، أو فقرات لاحقة، أو حواراً بين الشخصيات. هذا ما أدى إلى ظهور نوع جديد من النصوص الهجينة، التي تتشارك فيها الآلة والإنسان عملية الكتابة. في هذه الحالة، لا يمكن اعتبار الكاتب منفرداً بالصنعة، بل هو أشبه بمايسترو يُنسق المعزوفة بين أصواته الشخصية واقتراحات الخوارزمية. في بعض الأحيان، تظهر اقتراحات الآلة مفاجئة، وقد تدفع الكاتب نحو اتجاه سردي لم يكن قد فكّر فيه. وهذه ميزة تحفيزية لا يمكن إنكارها، خصوصاً حين يواجه الكاتب ما يعرف بـ(جفاف الإلهام).
لكن هذه التجارب، رغم براعتها التقنية، كثيراً ما تُواجه بانتقادات جوهرية تتعلق بغياب (العمق الشعوري). فالآلة، مهما أتقنت تقليد الأسلوب البشري، تبقى عاجزة عن التعبير عن مشاعر لم تختبرها. لا يمكن للآلة أن تعرف طعم الخسارة، أو الخوف من الفقد، أو الإحساس بالغربة في المدينة، إلا بوصفها بيانات لغوية جُمعت من ملايين النصوص. إنّ ما يُميز الرواية الحقيقية هو قدرتها على الغوص في وجدان الشخصية، وعلى تمثيل التوترات الأخلاقية والمعنوية التي يعيشها الإنسان. هذه الأبعاد لا تزال حكراً على التجربة البشرية. الآلة قد تنسج سرداً مُتقن الحبكة، لكنها تفتقر إلى ما يمكن تسميته (الجرح الداخلي) للنص، ذلك الألم غير القابل للتكرار أو البرمجة.
وفي موازاة هذا، لم يعد القارئ بمنأى عن هذه التحولات. فالروايات التفاعلية باتت أكثر شيوعاً، تتيح للقارئ أن يختار نهاية القصة، أو أن يحدد ملامح الشخصية، أو حتى أن يعيد ترتيب الفصول حسب تفضيلاته. كما أن منصات القراءة الذكية باتت تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل سلوك القارئ وتفضيلاته، لتقترح عليه روايات (مصممة خصيصاً) حسب ذوقه. هذا النمط من التخصيص المفرط قد يبدو مغرياً، لكنه يفتح النقاش حول العلاقة بين الأدب والتحدي. إذا صار كل قارئ يتلقى رواية على مقاسه، هل نفقد بذلك جوهر الأدب بوصفه تجربة كونية تدفعنا إلى مواجهة ما هو مختلف ومغاير؟
وعلى المستوى العملي، ظهرت نماذج عديدة لتفاعل الكتاب مع الذكاء الاصطناعي. فبعضهم يستخدم أدوات الكتابة المدعومة بالخوارزميات كمساعد في صياغة مسودات أولية، أو للحصول على أفكار بديلة حين يصاب بالركود. في حين يلجأ آخرون إلى توليد وصف المشاهد، أو تحليل نفسية الشخصيات، خصوصاً في الروايات البوليسية أو النفسية المعقدة.
في أحد الأمثلة، استخدم كاتب عربي شاب أداة GPT لتطوير ثلاث نهايات محتملة لروايته، ثم اختار الأنسب بينها، وأعاد كتابتها بأسلوبه. وهكذا تحوّل الذكاء الاصطناعي إلى ما يشبه (ورشة داخل الورشة)، أداة للتوسيع وليس للإحلال.
مع ذلك، لابد من الوقوف عند التحديات القانونية والأخلاقية التي يطرحها هذا الواقع الجديد. من يمتلك حقوق النص الذي ساهمت فيه الخوارزمية؟ هل هو المستخدم الذي أعطى التوجيهات؟ أم الشركة التي طوّرت النموذج اللغوي؟ وكيف نتعامل مع خطر (السطو الأسلوبي)، حين تقلد النماذج الذكية أسلوب كاتب معين، أو تعيد إنتاج نصوص قريبة جداً من أعمال منشورة مسبقاً؟ ثم هناك تحدٍّ أخلاقي آخر يتعلق بالتحيّز، فالذكاء الاصطناعي يتعلم من بيانات متاحة، بعضها يحمل صوراً نمطية أو انحيازات جندرية وثقافية، قد تُنتج سرداً يعكس هذه التحيّزات دون وعي.
إن كل ما سبق لا يجب أن يدفعنا إلى موقف دفاعي، بل إلى إعادة التفكير في دور الكاتب، وفي طبيعة النص، وفي مفهوم الإبداع نفسه. الذكاء الاصطناعي لا يُمثل خطراً وجودياً على الرواية، بقدر ما هو أداة تختبر خيالنا النقدي، وتدعونا إلى تجديد علاقتنا بالكتابة. يمكن أن نتصور مستقبلاً تُصبح فيه الرواية مشروعاً جماعياً: يتفاعل فيه الكاتب مع قرائه عبر منصة ذكية، ويطوّر النص في الزمن الحقيقي بناءً على تفاعل مباشر. كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون مُدرّباً للكتّاب الجدد، يعرض عليهم بدائل، ويناقش معهم السيناريوهات الممكنة.
في نهاية المطاف، يبقى السؤال الأعمق هو: هل الكتابة فعل تقني؟ أم تجربة شعورية وجودية لا يمكن اختزالها في تعليمات برمجية؟
لعلّ الجواب لا يكون واحداً أو بسيطاً. ما يبدو مؤكداً هو أن الرواية ستتغير، سواء أحببنا ذلك أم لا. ستتسع، وتتنوع، وقد تظهر أشكال سردية جديدة لا نعرفها بعد. المهم ألا نتخلى عن جوهرها: أن تكون مرآة للذات، وصوتاً للحلم، ومجالاً للتساؤل الإنساني الذي لا يتوقف.