مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

ليس للبيع

ومالي لا أعقق والتعقيق سنة مؤكدة، وقد تجمع في حضن توأميّ، وهما لما يكملا يومهما السابع ما يكفي لشراء كبشين أملحين أقرنين؟ وقالوا لي حينها إن في (الموقر) بغيتك ففيها سوق كبيرة للأغنام، فيها حظار ممتدة على طول البصر تمتلئ بأنواع الأغنام المختلفة الأحجام المتنوعة الأشكال: الرومانية والسودانية والبلدية والأسترالية. ولم يطل البحث عن حافلة تحملني من الزرقاء إلى الموقر، فقد تطوع ابني أبو الفهد وأكثر من قريب وصديق لفعل ذلك، ولأنني أحب رفقة الشباب اخترت أبا الفهد رفيقاً لي في سفري، فهو يحملني في مشاويرنا الطويلة بقصصه المختلفة المتتابعة الشائقة، وبهدوئه في قيادة السيارة. كما أنه لا يدخن ويكره التدخين، وينكر على السائقين استخدامهم الهواتف المحمولة أثناء قيادة السيارات.
(قبل يومين بعد أن قفز أبو علي عن رأسي الذبيحتين مرتين أو ثلاث مرات غمس كفيه بدم الكبشين وطبعهما على جدار بيته، وعلى البوابة على وقع الزغاريد.. وأنا لن أستطيع فعل ذلك فمن في بيتي كلهم رفضوا سيل الدم عند عتبة الدار).
لم يأبه أبو الفهد بالسائقين الذين كانوا يمرون عن يساره وكأنهم صواريخ انطلقت للتو من أتون النار، وكان يكتفي برسم ابتسامة على وجهه وقول: (الله يهديهم، هذه السيارات قطع من الحديد الراكض ليس عليها أمان).
(ولن أستطيع تدليل الكبشين بالطعام والشراب والاحتفاء بها، ولن أعصب رأسيهما بالعَصبة، ولن أتمكن من تكحيلهما ولا تحنية رقبتيهما..)
أوقف أبو الفهد سيارته على طرف قريب من حظيرة الأغنام، ونزلنا من السيارة بأضلاع متيبسة موجوعة، وبخطوات ثقيلة متعبة مشينا إلى حيث غرفة الحارس، فأحاط بنا قطيع من الكلاب الضخمة ذات الرؤوس الكبيرة والأنياب اللامعة، التي لم يبعدها عنا غير صوت الحارس الذي بش في وجهينا، وقادنا إلى زريبة الأغنام بسلام.
وقفت في ركن بعيد في الحظيرة، وفركت عيني، ورفعت رأسي، وسرحت بصري في الحظيرة الواسعة الممتدة المليئة بالأغنام المتراصة المتشابهة، ثم نظرت إلى الحارس بثقة وسألته: مخصي؟
فأجاب بابتسامة خبيثة: نعم، هذا القطيع كله مخصي، لحمه مثل الفستق!
فاكتفيت منه، ومن إيحاءات ابتسامته وسرحت نظري مرة أخرى في الحظيرة، فلفت نظري كبش كبير ضخم، صوفه طويل، وقرناه طويلان، يأكل بنهم، وقد وضع رأسه في المرود، ولا يلتفت يمنة ولا يسرة، فخفت منه، وأشحت بنظري عنه.
وبعيون فاحصة راقبت القطيع في الحظيرة، وبعيني صقر حددت هدفي، وأشرت إليهما، فسارع الحارس للإمساك بهما لعزلهما عن بقية القطيع، فمشيت إليهما مشية خبير، ووقفت عند أحدهما وقفة المنتصر، ثم وضعت كفي على ظهره أتعسسه وأمسده، ثم أمسكت وجهه بثقة، ورفعته بلطف وحنان، ثم قلت للحارس بتذمر: (حبة وحدة؟)
فغضب الحارس وقال لي: (يا رجل، اتق الله، هيهن ثلاث حبات، أنت اطلعت في منخاره، ومنخاره ما فيه حبات!)
حاول الحارس قيادة الكبشين الأملحين الأكحلين إلى القبان، لكنه لم يستطع، فتطوع أبو الفهد لفعل ذلك فصارعهما، فدفعاه بعيداً عنهما، وبقيا واقفين مكانهما كصخرتين ثقيلتين.
ولما رأى الحارس ما اعتلى وجهينا من حيرة وقلق ابتسم لنا، وقال: بسيطة!
وتوجه إلى ذلك الكبش النهم الضخم الذي يضع رأسه في المرود، فربطه، ثم قاده خلفه فتبعه من غير معاندة، أو معارضة، فقلت له بتأفف: (لا لا، هذا لا أريده)
فضحك وقال: هذا المرياع، والمرياع لا يباع!
ومشى به من أمام الكبشين الأملحين الأكحلين العنيدين فاهتزا، ثم ثغيا، ثم تبعاه بحب وبهدوء إلى القبان، ثم فتح لهم الحارس الباب فتبعا المرياع إلى المذبح وهما يمأمئان، فتناولتهما يد الجزار بخفة ورشاقة.
ركبنا السيارة ومعنا قطع لحم الكبشين الأملحين الأكحلين، وأمامنا كان المرياع واقفاً بثبات وهو يضع رأسه في المرود ويأكل بنهم، ولا يلتفت يمنة أو يسرة.

ذو صلة