أشرفت السَّنةُ الدِّراسيةُ على الاِنتهاء، واقتربَ موعدُ تسليمِ بحوثِ التَّخرج. مضى عامٌ مِنَ الجِدِّ والمُثابرة، والعملِ المتواصلِ ليلَ نهار. بحثٌ أكاديميٌّ جديد. اختارتْ موضوعه بنفسِ الدِّقةِ الَّتي تختارُ لباسَها، رغِبتْ في العملِ عليْه قبلَ سنتين، وكتبتْ حولهُ مقالاتٍ نشرتْها على بعضِ المجلات المُحكمة، اقترحتهُ على المشرف، فوافقَ بعد أشواطٍ من الإقناع.
تجلسُ في مكتبِها تحتسي كأسَ الشوكولا السَّاخن، تتأمَّلُ الشَّارع، من نافذةِ غُرفتها، الَّذي توهَّجَ بأضواءَ ساطعةٍ كأنَّه بحرٌ من نورٍ في حلمٍ جميل. اللّونُ البرتقاليُّ زادَ مِنْ روعةِ المنظر، غرُبت الشَّمسُ فأصبحتْ مِثلَ لوحةٍ تشكيليَّة، لوحة متناهية الدِّقةِ والإبداع.
تمتلكُ قلماً فيَّاضاً ولغةً رصينةً، لكن هذا لم يشفع لها أمامَ شُحِّ المادَّة العلميَّة. تعبتْ كثيراً في التَّنقيبِ على المصادرِ كمنْ يبحثُ عن إبرةٍ في كومةِ قش، فالموضوعُ الَّذي اختارتهُ، الأبحاثُ فيه قليلة... وهذا ما زاد مِنْ عزيمتِها على خوضِ غمار التَّحدي، فما فائدةُ البحثِ إن لم يكن سيُقدِّم قيمةً مضافةً؟ أما إن كانَ على تسويدِ الأوراق فيما لا طائلَ منهُ، فالجميعُ يُجيدُه.
اِنتهتْ مِنَ التَّوضيبِ والتَّصفيف، وجاءَ الدَّورُ على كتابةِ الإهداء. كل يومٍ تُقلِّبُ فكرتَهُ في رأسها، تُمسِكُ القلمَ وتُداعب زنبركهُ دونَ انقطاعٍ. لم تستقر على تعبيرٍ شافٍ يُعبِّر عمَّا يُخالجُها، أجَّلَت كثيراً مرحلةَ الإهداءِ لمعرفتِها الخالصة بوُعُورَتِهَا، مرحلةُ الصِّدقِ والاعترافِ بالجميلِ، وها هي اليومَ تجدُ أن لا مناصَ ولا هروبَ من كتابتِه، بمن ستبدأ؟ وبمن ستنتهي؟
كأسُ الشوكولا على الطَّاولةِ تتصاعدُ رائحتُه الشهيَّة. ترتشفُ منهُ طالبةً الدِّفء. تخجلُ أحياناً مِن شربهِ في الأماكنِ العامَّة ورُفقةَ صديقاتها، كي لا يُطلَقَ عليها لقب الفتاةِ المدلَّلة. لا يهمُّها ما قد يقولونه عنها، إلا أنَّها ليستْ مِنَ النَّوعِ الَّذي يُفضِّل لفتَ الأنظارِ إليه، تُحبُّ أنْ تجلسَ في الأماكنِ العامَّة مِنْ غيرِ أنظارٍ وقحةٍ تتفحَّصُها وتراقبُها، ولهذا السَّبب بالذات تختارُ دائماً قضاءَ معظم وقتها في البيت، تجلسُ بالطَّريقة الَّتي تريد، على النَّحو الَّذي يُرضيها. فإذا ما جلستْ في مكانٍ عام، سرعان ما يُهاجمها المللُ فتهرعُ إلى غرفتِها، لتلوذَ بنفسِها عمَّا يُقلقها في الخارج.
أرجأت الإهداءَ الخاصَّ بالمشرفِ على البحث، واختارتْ أن تبدأَ بمنْ علَّمتها الكثيرَ دونَ أيِّ مقابل. بمن جادتْ عليْها بما تعرفُه، وسهرتْ على حياتِها وراحتِها: أمها. رُغمَ عدم تعلُّمها إلا أنَّها كانتْ خيرَ سندٍ وداعمٍ لها، ولكن أيّ الكلمات ستوفِّي حقها، وتلخِّص عطاءَ الشَّلال الذي لم يفتُر، والأحاسيسُ الصَّادقةُ التي لم تذبُل؟ أسندت الكرسيَّ إلى الحائطِ في محاولةٍ منها قدْح زنادِ ذهنِها، فالأفكارُ لا موعدَ لها، ولا مقدِّماتٍ، تجيءُ من غيرِ استئذانٍ ولا طرقٍ للباب، فكثيراً ما تأتي ونحن مُتَّكِئون في فراشِنا، أو ونحنُ نتجوَّل...
أطلقتْ عينيها على مرمى البصر علَّها تقتنصُ فكرةً طائرةً، وقتها كانت الشَّمس قد غادرت، ولم يبقَ منها غير آثار لخطٍّ برتقاليٍّ يقاومُ الزَّوال. تبحثُ عن الحروفِ المواتيةِ والعباراتِ الجميلة كي تُعبِّر عن حبٍّ غضٍّ، وحنانٍ خالصٍ، فلم تستقر على شيء، ولم تُطاوِعها الحروفُ على كتابةِ كلمةٍ. غُرفتُها المُطلَّة على ميناءِ طنجة وشارعِ مرقالةَ، السِّحر الذي يستهويها ويُلهمُها بكثيرٍ من الأفكارِ، إلا أنَّهُ عجزَ اليومَ عن تقديمِ أيِّ مساعدة. كانت تعترفُ بصعوبةِ كتابةِ الإهداء، لكنَّها لم تظن أنَّها بالغةُ الصُّعوبةِ إلى هذا الحدِّ. وقفتْ بلاغتُها ولغتُها عاجزتين عن وصفِ مشاعرِ أمِّها الصَّادقة.
انتقلتْ إلى كتابةِ الإهداءِ لوالدِها، الكرمُ المتدفِّق، والجودُ المستمرُ. أبوها الَّذي أعطى الكثيرَ ومازال، علَّ العبارات تطاوعُها. لم تستقر على تعبيرٍ أيضاً، ولم تشأ الحروفُ أن تنتظمَ في خيطٍ واحدٍ وتخرجَ في كلماتٍ رقراقةٍ فيَّاضةٍ بالمعاني النَّبيلة. في الوقتِ نفسِه كان يستهويها منظرُ البحرِ الَّذي لا تشبعُ منهُ، رُغمَ إطلالِها عليه صباحَ مساء. دائماً تنظرُ إليه كمنْ يراهُ للتَّو. كلَّما تخيَّلتْ نفسَها بعيدةً عنهُ شعرتْ بالضّيق، ومحتْ الفكرةَ من بالِها، لأنَّ العيشَ في مدينةٍ لا بحرَ فيها شبيهٌ بالموتِ. فالسَّمكةُ تموتُ إن هُم أخرجوها للعيشِ على البريَّة، هكذا هي علاقتُها بمدينتِها طنجة. تعلَّقت بها تعلُّقاً شديداً، ولا ترى لعيْشها قيمة وهي بعيدةٌ عنها، وكأنَّ للمدينةِ تعويذة ألقتْها عليها، فسحرتها وأسَرتها، ولم تُشفَ منها. فكيفَ يُشفى المرُء من حبِّ طنجة؟
يزدادُ تعلُّقها بمدينتها كلَّما مرَّت من أزقتِها العتيقة، واستنشقتْ عبيرَ الأجداِد الَّذي تفوحُ به مساكنُهم النَّابضة بأرواحهِم الطَّاهرة. وقتما شعرتْ بضيقٍ واشتاقتْ لتشُمَّ عبق الحياةِ الأصيلة البعيدةِ عن البهرجةِ هرعتْ إلى المدينةِ العتيقةِ تمارسُ هوايتَها المفضّلة، التّجول بين دروبها، فينشرح الصَّدر، ويأنسُ القلبُ، وتبتهجُ الأسارير، ويُشحذُ الذِّهن. وتختمُ الجولةَ بجلسةٍ في غرفتِها تراقبُ الغروبَ، وتحتسي المشروبَ الدَّافئ دفءَ مشاعرها، فيسيلُ مدادُ قلمها، وتُعطِّر الأوراقَ البيضاء بنسيمِ الأجداد.
ياسمين الوزاني، 28 سنة، طالبةٌ باحثةٌ في شعبةِ التَّاريخ والحضارة. الشُّعبةُ الَّتي اختارتْها عن قناعةٍ ورضا تامٍّ لم تزحزحهُ كلُّ الاقتراحاتِ. ولم يستطع أحدٌ ثنيها عن هذا المسار. حبُّها لطنجةَ وعشقُها لها كانا السَّبب، فلم تجد نفسَها إلا وقد أُغرِمت بتاريخها. حبٌّ فطريٌّ لم تملك معه أي تفسير. كلَّما تعرفت على فترةٍ من فتراتها، غاصتْ أكثَر باحثةً عن جواهرَ نفيسة تؤثثُ بها معارفها. فبالرُّغمِ من مشقَّة الطَّريق اِختارتْ التَّنقل لحضورِ المحاضراتِ أحياناً على أنْ تستأجرَ شقةً في مدينةِ تطوانَ حيثُ الكليَّة، حتّى وهي تراها مدينةً هادئةً وفيها من روحِ غرناطةَ الأندلسيَّة، إلا أنَّ لطنجةَ مكانة خاصة وحبّاً مميزاً استولى على قلبِها، ولحظِّها وحظِّ طنجةَ العاثرِ أنَّ كليةَ الآدابِ والعلوم الإنسانيَّةِ لا تتواجدُ فيها.
لحظةُ صدقِ الإنسانِ مع الآخرين، من أعظمِ اللَّحظاتِ وضوحاً مع النَّفس. لذلك كانتْ لحظاتُ الإفصاحِ عنِ المشاعرِ عسيرةً، والإهداءُ نوعٌ من التَّعبير عنها، لم تطاوِعها الأفكار، ولم تُسلِّمها ناصيتها كي تركبَها وتسافرَ مع الحروفِ لتنثرَ عبيرَها في ورقةٍ، للتَّعبيرِ عن الشُّكر والاِمتنانِ لمن أسدوا لها معروفاً.
تركت الإهداءَ لوالديها جانباً، وانطلقتْ تُفكِّر في إهداءٍ للأستاذِ المشرف. لم يُقدم لها أيّ خدمةٍ، فمذ عرضتْ عليه اِسمَ بحثِها، لم تعُد تلتقي به، ولم يتواصل معها عبْرَ بريدِه الإلكترونيِّ ليسألَها إن كانتْ تُواجهُ صعوباتٍ! ماذا ستقولُ له في الإهداء؟ هل ستُنمِّق العباراتِ كبقيَّة الباحثين، وتُلبِّسهُ لباساً أكبرَ منه، فهي لا تعرفُ طريقاً لتصرُّف كهذا، كما أنَّه لم يُقدِّم خدمةً لها غيرَ موافقتهِ على إشرافِه على البحث. رُغمَ تردُّدها على العديدِ من النَّدواتِ والمحاضرات، لم يُمكِّنها ذلكَ من اكتسابِ تلكَ المجاملاتِ المُعتادةِ والزَّائفة. من قبيل، أنَّ ما قدمتمُوه يُعتبرُ إضافةً نوعيَّة للعلم، وأنَّنا نحتاجُ لساعاتٍ وأيَّام كي نغترفَ من علمِكم... كلٌّ منهما يعرفُ زيْفَ الآخر، غيرَ أنَّهما يختارانِ أن يواصلا التَّمثيل، أحدهُما يكذِب، والثاني يُصدّقه. كميَّة الزَّيف والنِّفاقِ تبدو واضحةً بجلاءٍ على الرُّؤوس والوجوه. فلا تملكُ في هكذا أجواء إلاَّ أن تطلقَ ساقيْها للرِّيح عائدةً إلى المنزلِ خشيةَ العدوى، فترحل مسرعةً كمنْ يفرُّ من عدوٍّ.
أربعُ سنواتٍ مرَّت من الجدِّ والمثابرة، انكبَّت على الكُتب والمقالات تطالعُها، وتغوصُ باحثةً في أعماقِها عن أصدافٍ مليئةٍ بالجواهرِ الثَّمينة، كلَّما غاصت إلا وعطشت أكثرَ ولم يرتوِ عطشُها المعرفيّ. لم تكن كباقي قريباتِها، مِمنْ يقدِّسنَ مساحيقَ التَّجميل، ويقعُدن السَّاعات الطِّوال مِنْ أجلِ موعدٍ لا يتجاوزُ ساعةً من الزَّمن أو أقل. وجهُها تجمَّل بمسحةٍ أندلسيَّة فأكسبَها جمالاً طبيعيّاً. فهي سليلةُ موريسكيٍّ هُجِّرَ قسراً من بيتِه وأرضِه، بعدما فشلوا في حملةِ تنصِيره.
بدأ اللَّيلُ يهبطُ وهو يهبطُ مبكِّراً في شهرِ يناير. أضواءُ المدينةِ الهادئةِ تزدادُ سطوعاً. لم تصل بعدُ إلى فكرةٍ تُسكِنُ حيرتها. جالتْ ببصرها على صفحةِ البحرِ ونورُ القمر ينعكسُ عليها، ارتشفتْ رشفةً أخيرةً من كأسِ الحليبِ بالشوكولا الَّذي فقدَ دفأهُ، كأنَّ هاتِه الرَّشفةَ ما كان ينقُص، ليُشحذ ذهنُها ويتَّقد. خطرتْ ببالِها فكرةٌ فاقتنصتها بسرعةٍ. ظهرتْ على وجهِها ابتسامةٌ محَت الحيرةَ وزادتْ وجهَها ضياءً وثَغرها جمالاً، فسجَّلتها على ورقتِها:
الإهداء:
إلى شمسي الَّتي لم تغِب (أمِّي).
إلى قمري الَّذي لم ينطفئ (أبي).
إلى أستاذي شكراً على قبولكَ الإشرافَ على بحثي...
طنجة العالمية