مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

مدرسة الجلد والعظم

نما حسين وترعرع طفلاً يحب السعادة والفرح، لكنه غير اجتماعي، لا يحب الاختلاط مع أحد ولم ينتبه أحد إلى هذه التصرفات، وهو ما يريده.
دخل المدرسة وأخبروه أنه سيتعلم القراءة والكتابة، ومن ثم يصبح معلماً أو موظفاً في شركة (أرامكو) أو موظفاً عبر الديوان، وإذا كان محظوظاً سيكون طبيباً.
استمر في الدراسة شهراً يذهب وحيداً ويأتي وحيداً، بدا في وحدته تلك كناي حزين يعزف مقطوعة باكية من الصمت والسكون، فهو يعلم يقيناً في قرارة نفسه ورغم صغر سنه، أن من اعتاد تجاوز أحزانه بمفرده، فلن يؤثر فيه بقاء أحد أو غيابه، وكم كان بارعاً في أداء هذا الدور على خشبة مسرح الحياة. حفظ الشارع المؤدي إلى المدرسة، وقد كانت هناك شوارع أخرى مختصرة، ولكنه لا يعرفها، ولا يريد أن يعرفها أو يبحث عنها، هل ضاعت منه الشوارع أم ضاع هو منها، لا يعرف، كل ما كان يفعله دائماً هو المشي ذهاباً وإياباً وحيداً دون أن يكون ضمن مجموعة من أبناء جزيرة عشتار.
في طريقه إلى المدرسة كان يرى الباص الطويل الأصفر يصعده طلاب الثانوية، فيفكر (هل سيأتي اليوم وأصعد الباص وأصبح كبير الحجم والعمر؟).
يشعر أنه أقل من الجميع، وهو لا يعلم معنى أقل، خجول ولا يعلم لماذا هو خجول أو معنى أن يكون خجولاً.
كان يستغرب عندما يرى في الشارع، أو فسحة المدرسة عراكاً بين الطلاب، إذ يسب بعضهم بعضاً بألفاظ مثل (ابن الكلب، حمار، تف عليك)، حينها كان يفكر بعقله الطفولي كيف يقول هذا الكلام، ألا يستحي؟ ألا يخاف؟ ألا يعرف أن هذا عيب؟
يبتسم ابتسامة خفيفة حتى لا يراه أحد عندما يرى الشاتم والمشتوم في فسحة المدرسة يجلسان مع بعضهما البعض من جديد، ويتبادلان أكل خبز الفرن الساخن مع الجبن الأبيض (البقرة الضاحكة) وقنينة الميرندا، أو يذهبان لمطعم (أبو أحمد) القريب من المدرسة يأكلان المعكرونة المشبعة بالليمون وصلصلة الفلفل الحار.
يفكر دائماً قبل النوم لماذا أذهب للمدرسة؟ لماذا الكتب الكثيرة التي أحملها كل يوم صباحاً؟ الواجبات الكثيرة، شدة وضرب المعلمين، ملابس المعلمين العرب، بنطلون وقميص ولهجات مختلفة، سوري، مصري، لبناني، سوداني، أردني، فلسطيني، غرف الصف الصغيرة جداً، الجلوس على الأرض.
يستغرب كثيراً من عنف المعلمين، والضرب باليد اللحمية أو العصا الخشبية.
سمع أباه مرة يقول لأحد المعلمين: خذوه لحماً وأرجعوه عظماً، وختم النقاش بينهم بضحكة تأكيد على الصفقة.
يشغل حسين في كثير من الأحيان وقته في البيت بين مشاهدة أفلام الكرتون، وحل الواجبات، وحفظ الأناشيد والسور القرآنية خوفاً من الضرب، سواء اللحمي أو الخشبي.
يتذكر حسين كيف أمر الأستاذ بعض الطلاب الأقوياء بإحضار طالب كان قد غاب عن الصف، ذهبوا إلى بيته وماهي إلا دقائق وجلبوه بملابسه الداخلية، فانيلة بيضاء وشورت أبيض وهو يبكي، في حالة إحراج أمام الصف الذي كان يضحك، في اليوم التالي جاء نفس الطالب مطأطأ الرأس أمام الجميع وهو في حالة من الخوف والهلع والارتباك، استمر هكذا حتى نهاية السنة الدراسية، ولم أره في السنوات القادمة.
لا ينسى حسين اسم المعلم (جاسم)، كان عنيفاً بشكل جنوني، وبخاصة مع الطلاب الذين لا يهتمون بالواجبات أو الحضور أو الصمت داخل الصف دون المشاركة في الحصة. الفصل صغير الحجم، كان الجلوس على قطعة كبيرة من السجاد في غرفة تغص بجحافل الطلاب.
يتذكر جيداً عندما أوقف المعلم جاسم أحد الطلاب المشاكسين وطلب منه الوقوف إلى الجدار، وكيف ضربه بالخيزران ولم يتوجع، وفي لحظة مثيرة كوَّر الأستاذ يده محموماً بنار الغضب كثور إسباني في ساحة مصارعة، وأراد توجيه لكمة إلى وجه الطالب الذي، وبحركة سريعة، أبعد رأسه فكانت يد الأستاذ ملتصقة بالجدار مع صرخة منه ودم يخرج من يده، خصوصاً أنه كان يلبس خاتماً كبيراً في أحد أصابع يده اليمنى. كان الطلاب بين الضحك والخوف والاستغراب.
في لحظة بوح طفولي حدَّث أمه مرة أن أستاذ العلوم وعدهم برحلة إلى مزارع وعيون الأحساء إذا أنجزوا الواجب بشكل جيد، ولكنه فجأة رفض الذهاب مع الطلاب فقرر أن تكون رحلته في البيت ومشاهدة الفيلم الهندي، والبطل الذي لا يموت، أو مشاهدة الفيلم المصري باللون الأسود والأبيض، وبخاصة أفلام أحمد رمزي أو مشاهدة فيلم فيه فريد شوقي ودريد لحام.
لا ينسى كلام الأستاذ إسماعيل قبل توزيع الشهادات بأسبوع:
(كلكم ناجحون، ولكن عليكم مع تسلُّم الشهادة إحضار كيس من الحلوى أو مجموعة أقلام أو محَّايات).
عندما كان يخبر أباه ببعض القصص من المدرسة، يبتسم ويرد عليه: (الأستاذ يعرف مصلحتكم ويريدكم أن تكونوا رجالاً، فهو بمثابة أبيكم وأخيكم الكبير).
مازالت ذاكرته الطفولية الصغيرة تسجل أنه رجع مرتين من المدرسة قبل الانتهاء، اليوم الأول كان فسحة، ولكنه اشتبه وحمل الحقيبة ورجع للبيت، وكانت أمه تعمل على تنظيف البيت.
- كيف رجعت مبكراً عزيزي؟!
- دق الجرس، وقالوا جرس النهاية.
- ربما كان جرس الفسحة.
وفي المرة الثانية وبمجرد وصوله للمدرسة، رأى طابوراً للطلاب كان ممتداً حتى خارج باب المدرسة.
وقف في آخر الطابور، وهو يسمع همهمات من طلاب الصفوف المتقدمة، ومن بعض الأستاذة الذين يقفون بمحاذاة الطلاب.
مات. قُتل. قتله ابن أخيه. أمريكا السبب. قطع البترول. مؤامرة على القضية الفلسطينية. كان بطلاً.
قطع كل الهمهمات الأستاذ الفلسطيني (رسلان) الذي وقف خلف الميكروفون وأخذ يقرأ وينعي اغتيال جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز.
يعلم حسين وهو راجع للبيت أن أباه يحبه، وأمه كذلك تتكلم عنه بكل حب وتقدير.
لا ينسى أن أمه بكت في ذلك اليوم، وأمرته أن يضع علماً أخضر على باب البيت.. ساعتها خُيِّل إليه من فرط حالة الحزن الشديدة التي خيَّمت على أجواء القرية أن هذا العلم راح ينزف دمعاً حارقاً ينز نزاً من بين خيوطه، حتى أوشكت شوارع القرية بأكملها أن تغرق في بحر لُجِّي من الدمع الأخضر الحارق.

ذو صلة