مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

صورة المدينة وذاكرة المبدع

تنهض المدن عادة بالأفكار الجديدة، وتتبنى الرؤى الجريئة في الحياة، فاستوقفت المفكرين والأدباء الذين تغنوا بتجددها وتجملها زمناً طويلاً، لكن الحديث ضعف عنها هذه الأيام، فالأصل أن تنمو صورتها وتتطور في عصر التقنية وانفتاح العالم وقبول الآخر. ويعتقد كثر أن هذا الضعف في حركة الشعر حولها ليس مفهوماً، فحتى إن رُصد شعر في صورتها فلا جِدة فيه غالباً، بل هيئته مكرورة، تعاني من الركود في البناء واللغة، ونمطية في الوزن والقافية، وفي النثر أيضاً فيه ما فيه من تعثر السرد، وتردد الوقفات والاستباقات والمشاهد! فأخذ السؤال يعلو: لماذا غابت صورة المدينة أو توارت عن حركة الإبداع العربي تحديداً هذه الأيام؟! ولعل المتابع لحركة الشعر يجد أن أصداء روح الأدب التي نعرفها عن صورة المدينة وبهائها ومسارحها وحرية أفكارها قد ابتعدت قليلاً أو غابت في بعض المجتمعات! وقد حدث هذا كله في السنين الماضية ونحن، العرب، الذين نعرف سردية هذه الروح في الأدب الجاهلي وعلاقته بالمكان والوقوف على طلله ومناجاة ديار محبوبته حتى تجاوز الأجداد هذا كله إلى رثاء المدن في الأندلس، وبين هذا وذاك صعدت روح أخرى جديدة في الأمكنة، دينية واجتماعية وثقافية، تمثلت بمكة والمدينة المنورة والقدس قديماً وما يزال، ثم التصقت التجارب الشعرية في العصر الحديث بحركات التحرر وقهر الاستعمار، فلا ننسى مناجاة هذه الأمكنة عند الشعراء وما بُني عليها من فن موسيقي مدهش في غنائه وتأليف موسيقاه عند أم كلثوم وفيروز ومحمد عبدالوهاب، مثل التغني بالمدن الكبرى فدمشق عند أحمد شوقي، والقدس عند معظم شعراء الأمة، ومكة والرياض وبيروت وعمان والقاهرة وغيرها كثر، إلا أن هذا الاهتمام غاب اليوم أو لم يعد بحجم الواقع المعيش.
وبتعدد الرؤى ومشارب الحقيقة في السنوات العشرين الأخيرة، وتدفق وسائل التواصل الاجتماعي وتنوع مصادر المعرفة، وضياع الأوطان في معارك الموت الجديد، لجأ كثير من المبدعين إلى الذات، ببناء طقس إبداعي فردي أخرجهم من عوالم المجموع البشري إلى تجارب خاصة ينثرون من خلالها نظرتهم للكون والإنسان محاولين جذب أرواح تشبههم، ومبتعدين كل البعد عن ضجة الحياة وتنافس الناس. وقد أسهم التطور التقني التواصلي المذهل في نشر هذه الرؤى، فدفع هذا المبدعين للاطلاع على التجارب العالمية الأخرى في الفردية والركون للذات حتى أخذوا طقسهم الذي يبتغون، ليصدروا تجارب ابتعدت عن قدسية البناء والحجر وهموم الناس وما يندرج تحته من فقر وبطالة واختلاف الفكر، ومضوا في تجاربهم هذه غافلين عما يدور حولهم من جديد سوى جديد التواصل الرقمي، وقد أُصبنا في بعض التجارب بعدوى تقليد بعض السير الإبداعية الغربية، وتخلى بعضهم عن فكرة تمثيل هذه الرؤى للمجتمع وخصائصه ومفرداته الاجتماعية والفكرية والسياسية.
ولهذا كله، أصبحنا اليوم نواجه ضبابية الهوية، هوية المكان وهوية الرؤى، بل تكسرت نصالها عند بعضهم ولم يعد لها قيمة، وبدأت تتسلل إلينا التحولات الكبرى في التجارب. فلم تعد المدينة هي الحاضنة الدافئة، كما كانت، والأم الرؤوم للمبدعين الذين يتوافدون عليها من القرى والأرياف والمدن الصغيرة ليروا العالم الجديد بحُلته المدهشة التي تضفي على كل المعاني الحاضرة في الحياة. وأعتقد أن كثيراً من المدن العربية هُشمت تحت ظلال سيوف ما أطلق عليه الربيع العربي مؤخراً، فمُلئت فوضى وقهراً وفقراً ولجوءاً، وغاب سحرها شتاء وربيعاً، وتمدد فيها الصيف والخريف وحولت ركاماً، فخرجت من دائرة الاهتمام وتشكيل الرؤى، حتى اتسع الأمر هذه الأيام فأصبحنا نقرأ ديواناً كاملاً لا نجد فيه حديثاً خاصاً واحداً للمكان/ المدينة، ولعل النقص ليس في المبدع ورؤاه فقط، بل تجاوزه إلى النقد ودراساته التي نأت بنفسها عن مواجهة النصوص وتمحيصها والإشارة إلى التجارب المتميزة منها وعدم الالتفات إلى التبجيل والتمجيد أو العناية بطلاسم جديدة في النقد بعيدة كل البعد عن روح ثقافتنا وعمقنا الفكري والحضاري، حتى لا يُقال عنه إنه لا يواكب الواقع والمرحلة، وقد أعقب هذا كله مجموعات من النقاد والمبدعين كان همهم الأعظم الاصطفاف خلف الشاعر هذا أو ذاك لأسباب ذاتية أو مكانية ضيقة أو اجتماعية أو فكرية. ويقودنا هذا للحديث عن الجوائز التي تتصدر المشهد الشعري اليوم، ففي كل مكان جائزة، ويعتقد كثير من أهل الإبداع أن الصعود إلى المراكز الأولى يتطلب إرضاء الجمهور ولجان التحكيم وليس الشعر في ذاته، فنسجوا أشعارهم في موضوعات نمطية، وبهذا أُطر الإبداع الحقيقي الذي يخرج من تجربة واقعية حقيقية مؤثرة، وأصبحت الكتابة والإبداع ضحية الموقف والانحيازات الخاصة، والخاسر الأكبر هو المجتمع والأجيال الشابة الجديدة.
وللزمن القادم وأهله مساحاته ورؤاه للكون والإنسان والحياة، ولهذا علينا أن نستثمر الواقع الجديد في التقنية وتجديد الأفكار في تطوير تجاربنا الإبداعية، وتعظيم دور الفرد في بناء المجتمع، لا أن نكون مستهلكين فقط لهذا التطور التقني ولهذه الأفكار الجديدة، ونبقى ننتظر القادم من الثقافات الأخرى دون أي إسهامات منا للبشرية، وأعظم إسهام هو تقديم روح حضارتنا وتناغمها مع محيطنا المكاني وتفاصيله. ويبقى التوجيه عن بُعد وتفعيل النقد الهادف من أهل الفنون. والعبرة في النموذج دائماً بتحفيز حركة الأجيال وتقديم الإبداع المؤثر الذي يسهم في بناء روح هذه الأوطان.


*الأمين العام لمجمع اللغة العربية الأردني السابق
أستاذ الأدب العربي في الجامعة الأردنية

ذو صلة