تعد دار المجانين وحاضرتها المزروب منطقة مفصلية في شمال كردفان غرب السودان، وتتوسط المنطقة الواقعة غرب بارا شمال غرب مدينة الأبيض عاصمة الإقليم بين قبائل كاجا وكتول ودار حامد وحمر والكبابيش، وهي منطقة عبور للقبائل الظاعنة من المناطق الأخرى طلباً للمرعى والمياه بالمناهل السطحية في فترة الخريف خاصة. تقع المنطقة ضمن السافنا الفقيرة وحزام الصمغ العربي، ذلك قبل سقوط شجر الهشاب أحد أهم موارد الصمغ العربي. قبيلة المجانين من القبائل الرحل، ويمتهن سكانها رعي الإبل والضأن والزراعة التقليدية، وهي منطقة عطش لوجود الصخور الأساسية، وقد تأثرت بموجة الجفاف والتصحر التي ضربت المنطقة في ثمانينات القرن العشرين. ولذا تعتمد القبيلة نظام النشوق والدمر، والنشوق هو الرحيل تجاه مناطق الشوقارة، وهي نمو الحشائش واخضرار الأشجار في بداية فصل الخريف، طلباً للكلأ وسعة المراعي. أما الدمر فهو العودة إلى المراعي القريبة من الماء في نهاية فصل الخريف وبداية موسم الدرت (بداية الحصاد) وجفاف العشب وكسة الهبوب (تغير الهواء من الجنوب للشمال). وهناك العديد من التجهيزات التي تلازم هاتين الرحلتين، تنطوي على كثير من الصناعات التقليدية كأعمال الصوف والوبر والجلود والسعف وعروق الأشجار، وأخرى مرتبطة بالصناعات الغذائية. مع المتغير الاقتصادي وتدهور البيئة وفقدان بعض الموارد كالمواشي نسبة للجفاف والتصحر وتفشي الأمراض؛ بدأت القبيلة في الاستقرار وتنويع أنشطتها الاقتصادية، فبدأ النشاط الزراعي للاكتفاء الذاتي بزراعة الدخن والسمسم وحاصلات نقدية مساندة كالكركدي والبامية واللوبيا. كما تعتبر زراعة البطيخ مورداً مهماً، ونجاحه في بعض المواسم يعتمد عليه في سقيا المواشي والإنسان، ويعتبر حب البطيخ في هذه المواسم معوضاً للحاصلات النقدية بجانب استخداماته الأخرى، وإحدى هذه الاستخدامات هو ما نحن بصدد توثيقه في هذه الورقة ألا وهو صناعة القطران.
القطران هو مادة كثيفة ولزجة سوداء اللون تتكون من الهيدروكربونات ومشتقاتها، وهو منتج شعبي، ويعتبر تصنيعه من الصناعات التقليدية القديمة في السودان عامة وفي المناطق الريفية منه بشكل خاص. تتناول هذه الورقة التقنية التقليدية لاستخلاص القطران عند قبيلة المجانين بكردفان، وتعتبر كمثيلاتها من المهن والحرف اليدوية والمعرفية المتوارثة من جيل لآخر. وتوجد عدة طرق لاستخلاص القطران من الأخشاب أو المواد الأخرى عن طريق البخار، الماء أو بالضغط، أما في السودان فيستخلص بشكل رئيس من الحبوب الزيتية مثل الحنظل وحب (بذر) البطيخ بأنواعه. استخدم حب البطيخ عند قبيلة المجانين لاستخلاص القطران، ويستخدم الحب الأسود والأصفر والأحمر بشكل خاص لهذا الغرض، ولأهميته في المجتمع الرعوي قبل إدخال زراعة البطيخ في المنطقة عملوا على شرائه من الأسواق المحلية.
يستخدم القطران عدة استخدامات لفوائده الطبية، وفي معالجة مياه الشرب، ولكن في المجتمع الرعوي لقبيلة المجانين كان استخدامه ولوقت قريب ينحصر في إلانة وممارنة الجلود بعد دباغتها ودهنها بعد تصنيعها في شكل منتجات مختلفة منها الراوية (وهي القرب والسعون والسقى لجلب وحفظ المياه).
تبدأ صناعة القطران بإحضار حب البطيخ المادة الخام لتصنيعه، وفي السابق كان يتم شراؤه من الأسواق المجاورة، أما وقد توافر حالياً من المنتجات الزراعية في المنطقة؛ فيخصص جزء من المحصول لتصنيع القطران، أو يمكن أن يعقد اتفاق مع مزارع البطيخ، بحيث تقوم أنت بعملية حصاد البطيخ وعملية التبجين، وهي عملية فصل الحب عن البطيخ وجمعه ونشره في المشر (أسطح للتجفيف)، ذلك نظير أن تسقي حيواناتك وتطعمها من قشر البطيخ (قحف) ولبه، ولك أيضاً فرز الحبوب السوداء والحمراء والصفراء لفائدتك الخاصة، إذ أنها غير مرغوبة في السوق، حيث تفضل الحبوب البيضاء، ومن هذه الحبوب يتم استخلاص القطران.
يتم استخلاص القطران حسب الرواية الشفاهية عن طريق التقطير الإتلافي لحب البطيخ، وتسمى النصب، ذلك باستخدام أداتين هما: الجر والكلول (القطارة)، وتصنعان محلياً من الفخار، من قبل نساء مختصات بصنع الفخار يعرفن بالدقاقات، وتكون سعة الجر مد أو يزيد (حوالي سبعة أرطال)، والجر هو إناء دائري أو بيضاوي الشكل له عنق قصير بنهايته ثقوب صغيرة متقابلة، أما القطارة فتأخذ شكل الجرة أو القلة بفوهة مفتوحة من أعلى بما يستوعب عنق الجر وجزء من جسمه لإحكام الغلق. يُملأ الجر بحب البطيخ وأحياناً الحنظل عند الحاجة الملحة، ويسد بالحشائش أو الليف، وقد درجت النساء على استخدام حشائش البياض لتماسكها ومتانتها وتحملها للحرارة، ثم يحكم الإغلاق بعدها بإدخال أعواد رفيعة متعارضة خلال الثقوب التي في نهاية عنق الجر.
تجهز حفرة تستوعب كامل القطارة مع بروز جزء منها ليوضع عليه الجر، ويقال يكفي الجر (كفيت جر) لنصب القطران أي كفأت. تتم غربلة الهبود (الرماد) بشكل ناعم ويخلط بالماء إلى أن يتماسك ويملط به الجر من الخارج، وتساعد هذه العملية على كفاءة الاحتراق وتحفظ الجر الفخاري من التشقق. بعد إحكام وضع الجر على فوهة القطارة توضع خرقة مبللة حول منطقة التلاقي وتحكم بسوار من الرمل اللين وملاط الرماد، بحيث لا تصل النار مباشرة للقطارة. بعد اكتمال هذه المرحلة يوضع (يرص) الحطب حول الجر من كل جوانبه حتى يشكل مخروطاً، ويفضل لحاء الأشجار الغليظ (قرفة الشجر) أو حطب شجر القفل أو العشر، وأحياناً يستخدم روث البقر الجاف، لأنها هادئة اللهب ولا تجمر ويمكن تجديدها كلما همدت، مما يمكن من حرق بطيء واستخلاص أمثل للقطران، بالعدم يشقق الحطب الصلب لوحدات صغيرة رفيعة تفاديا للإحراق السريع والمكثف. تشعل النار للوصول لدرجة الحرارة المناسبة مع كمية محدودة من الأكسجين يتم بعدها تكسير جزيئات حب البطيخ وتحويلها إلى قطران، وينزل القطران إلى القطارة وهو الإناء السفلي. أحياناً يستخدم صاج مثقوب من منتصفه، والصاج هو آنية معدنية تستخدم لطبخ اللحم والأكل، يكفأ الجر على الصاج المثقوب وتوضع القطارة أو أي آنية معدنية قديمة تحت الثقب لتلقي القطران. ولتمكين الجر من احتراق أفضل تبنى دائرة من الرمل اللين حول مكان النصب أو ضروة (ساتر) لحمايته من جهة تيار الهواء، ويزاد الحطب من حين لآخر حتى يتم التأكد من اكتمال احتراق الحب تماماً، وبسكون الطقطقة التي تصدر من الجر تكون عملية التقطير قد اكتملت، بعدها يترك ليبرد ثم يرفع وينظف ما حول القطارة ويخرج محتواها من القطران للاستخدام. يحفظ القطران جيداً بعد إنتاجه في آنية بلاستيكية أو معدنية محكمة الغلق أو زجاجة، ولا يتم الغرف منه الا بآنية صغيرة ويمنع إدخال اليد لئلا ينفصل القطران عن تماسكه (يقطع)، وتضيف النساء نوعاً معيناً من الحشائش يعرف بالبديب للقطران للمحافظة عليه وعلى درجة لزوجته.
يصنع القطران في مجتمع المجانين للاستهلاك الشخصي، وعليه فهو ينتج بشكل فردي في المنازل، ومن قبل النساء بشكل أساسي، ولكن في بعض حالات الاحتياج لكميات كبيرة نسبياً تجتمع النساء بما يعرف بالنفير (النفير في الثقافة السودانية هو نداء استنفار للعمل الجماعي الذي يحتاج السرعة والإنتاج في زمن قياسي)، ومثال لذلك تفشي مرض الجرب في الإبـــل والذي يعتبــر القطــران علاجــاً أساسيــاً لــه. تأتــي النســاء كل بأدواتــها ويعملن على مساعدة بعضهــن البعض فـي جلب حطــب الوقــود وإعــداده، إذا كـان متاحــاً، وإلا فيذهــب الرجــال لجلبــــه على ظهـــور الجمـــال، فيعملــن على إعـداد النصب.
يستخدم القطران كما أسلفنا علاجاً لمرض الجرب الذي يصيب البهائم وبخاصة الإبل، وذلك بحك الجلد أولاً توطئة للمسح المتكرر حتى تتعافى، أيضاً يستخدم زيت القطران في تهدئة الإبل إذا ما اهتاج الجمل، وذلك بمسح رأسه وأذنيه حتى يهدأ. ويستخدم القطران أيضاً في مسح وإلانة الجلود المدبوغة، ثم يتم تسديرها، والتسدير عملية تعقب مسح الجلد بالقطران ووضعه في منقوع لحاء السدر، بعد أن يجفف ويطحن ناعماً. بعدها تكون الجلود جاهزة لكافة الاستخدامات والمشغولات اليدوية والمصنوعات الجلدية، وهي كثيرة في المجتمع الرعوي، وهي مما تجيده المرأة البدوية. ومنها تجهيز بيت الرحل، ويحتوي على الشليل والضبية والجراب والمفرع، بالإضافة للرسن والحقاب والبطان والسيور (القد) الذي يستخدم في صناعات كثيرة تستلزمها حياة البدوي. ويستخدم القطران بصورة متكررة لمسح قرب المياه والسعن والسقي، وهي المواعين السائدة لجلب الماء من المناهل والمصادر البعيدة. ويستخدم القطران أيضاً لمسح الجلود القاسية، مثل جلد فرس النهر الذي يصنع منه سياط العنج، ويستخدم القطران أيضاً في حفظ الأواني الخشبية كقدح الخشب المستخدم في تقديم الطعام.
في السابق لم يعرف الناس الفوائد والاستخدامات الأخرى للقطران، وقد بدأ الناس حديثاً في إدخاله في تركيب عدد من الزيوت والكريمات العلاجية ومستحضرات التجميل الخاصة بالبشرة والعناية بالشعر.
بناء على ما سبق نرى أهمية الحفاظ على التقنيات التقليدية والمعارف الشعبية لاستخلاص القطران، وما يعتمد عليها من الحرف اليدوية المعتمدة على إنتاج القطران مثل دباغة الجلود والمشغولات اليدوية الجلدية، فهي جزء من تراث المجتمع، والمرآة العاكسة لثقافته الرعوية، وذلك بتوثيق هذه التقنية التقليدية وحفظها من الاندثار، والعمل على تشجيع استدامة واستمرارية الإنتاج، خصوصاً أنها تعتمد على أدوات وتقنيات تقليدية ومواد محلية، بالإضافة إلى حاجة المجتمع لتصنيعها وزيادة الطلب عليها خارج مجتمع منتجيها لاستخدامات أخرى، مما يساهم في تشجيع الإنتاج ودعم الاقتصاد المحلي وتشجيع السياحة وتعزيز الهوية والسمات الثقافية.