في جنوب شرق مصر بالصحراء الشرقية نسير عبر صحراء عيذاب وصحراء الشاذلي. عبر تلك المنطقة الشاسعة الممتدة من جنوب منطقة مرسى علم، وصولاً إلى قرى أبرق والشيخ الشاذلي، حتى أقصى الجنوب، حيث مدينة الشلاتين على ساحل البحر الأحمر؛ عُرف تراثٌ مميز من أقدم وأندر وأكثر أنواع الحرف اليدوية التراثية تميزاً بمصر في فنون وتقنيات الصناعات اليدوية لسعف النخيل، وهي حرفة سلال الخوص اليدوية المزخرفة بالجلود الطبيعية بالصحراء الشرقية. فلم تكن مجرد حرفة، بل تعبيراً ثقافياً حقيقياً عن هوية المجتمعات المحلية بالصحراء الشرقية، وانعكاساً حقيقياً لعلاقة الجغرافيا والبشر وتراثهم.
رغم ندرة أشجار نخيل البلح بتلك المنطقة القاحلة إلا أن التواصل الجغرافي الثقافي مع المناطق المجاورة عبر القوافل التجارية مع قفط بوادي النيل بجنوب مصر ومع منطقة أسوان عبر وادي العلاقي ووادي خريط بما عرف بمنطقة الريف (نسبة لأرياف نهر النيل)؛ ساهم في توافر خامات سعف النخيل التي جلبت مع القوافل التجارية أو القوافل الراحلة من أهل المنطقة، نظراً للحاجة الماسة إلى استخدام أي مورد محلي أو وارد من المناطق المجاورة مثل سعف النخيل لسد الاحتياجات المحلية في بناء البيوت أو صناعة مفروشات وأدوات المنزل الصحراوي البسيط.
اعتماداً على سعف النخيل، قامت على تلك الخامات صناعات من أهم الحرف التي عرفتها منطقة جنوب الصحراء الشرقية منذ القدم، بل أكثر حرف سعف النخيل تميزاً بمصر من ناحية الجودة والإبداع والتنوع، فقد امتهنت سيدات قبائل العبابدة والبشارية القاطنات جنوب الصحراء حرفة صناعة سلال الصحراء. فتلك الحرفة رغم بدائية التقنية التي لم تعتمد إلا على استخدام اليدين والأسنان وأصابع الأرجل فقط، وأحياناً تستخدم سكين صغيرة لقطع جدائل نسيج السعف حسب مقاس المنتج من سلال أو أبراش أو أطباق؛ إلا أنها تطورت مع الوقت باستخدام المخايط والمخارز، وهي إبرة كبيرة الحجم لها مقبض صغير من الخشب، استخدمت لإدخال الخوص لربط شرائح الخوص بشكل حلزوني، ومع أنها بتقنيات بدائية إلا أنها فنياً أنتجت تنوعاً مميزاً لأفضل صناعات سلال سعف النخيل بمصر.
عن مراحل تلك الحرفة، تبدأ بغمر السعف أو الخوص الأبيض من النخيل في الماء لفترة، بغرض تليين السعف ليسهل استخدامه وتشكيله، ثم تأتي مرحلة جدل الخوص وربطه معاً في جدلات لتشكيل الشرائح التي تصنع منها المنتجات، أو جدله بشكل متوازٍ تباعاً مع ربط كل طبقة منه مع الأخرى باستخدام خوص رفيع، يشكل روابط لاحمة بين صفوف الخوص العرضية، حيث تقوم النساء بجمع سعف النخيل، ويصنعن باليد بطريقة حلزونية دورات من الجدل من الأسفل للأعلى ومن الداخل إلى الخارج، حيث يستخدمن الخوص نفسه للحشو الداخلي ليلتف حولها الخوص خارجياً بشكل حلزوني ليتشابك الخوص مع بعضه البعض في جديلات متقنة الصنع متناسقة، ويختلف عرض الجديلة حسب نوع المنتج.
عرف بتلك المنطقة أن السيدات الحرفيات لا يستخدمن إلا الأوراق الداخلية البيضاء من أشجار النخيل، أو ما يعرف بلب الخوص، ويتميز بنصاعة بياضه التي تزداد بتعرضه للشمس، وبصغر حجمه ومرونته وسهولة تشكيله وبمتانته، ويستخدم لنوعية معينة من الإنتاج، ولا يستخدم السعف أو الورق الأخضر من النخيل، فهي أكثر خشونة وطولاً، وذلك لأن جدلته كبيرة لا تناسب العمل ولا تتلاءم مع تراث المنطقة، ويستخدم فقط ذلك النوع من الخوص الأخضر في صناعة ما يسمى (بالبرش)، وهو نوع من الحصير الصحراوي الذي يستخدم لفرش المنازل والخيام، وأيضاً لبناء أنواع من البيوت التقليدية لقبائل العبابدة والبشارية، ويسمى (بيت البرش)، كما لم يعرف عن النساء الحرفيات بتلك المنطقة معرفتهن بفنون تلوين أو صباغة الخوص، مثل نساء القرى النوبية في أسوان بجنوب مصر، لذا أبدعن في استخدام السعف أو الخوص الأبيض أو الحليبي بدون صباغة. وقد يرجع ذلك لعدم معرفتهن تاريخياً بمهارات الصباغة، ولعدم وجود نباتات مثل النيلة أو القرطم والزعفران والكركم أو (التفتة).. وغيرها من النباتات الطبيعية التي عرفت في حرف الصباغة الطبيعية، لكنهن أبدعن في استخدام الجلود الطبيعية من حيوانات الماعز في إضافة زخارف فنية مميزة لقطعهن الفنية اليدوية من سلال السعف، وهو فن الزخرفة بشرائط جلود الماعز، بل استخدمن أحياناً تزيين السلال باستخدام الخرز الزجاجي الملون مما يعطي المنتجات اليدوية من أطباق وسلال وصناديق وحقائب سعف النخيل شكلاً رائعاً ومميزاً لا مثيل له في مصر من حيث الدقه والإتقان.
باستخدام سعف النخيل صنعت النساء بجنوب الصحراء الشرقية أغلب أدوات المنزل، أدوات عكست هوية مجتمعها وبيئتها، بل وحرفة يدوية عكست الهوية الجغرافية الثقافية لمجتمعها، فقد صنعن (الأفولت)، وهو إناء من سعف النخيل، زين بشرائط جلد طبيعي، ويستخدم فى حلب الإبل، فقد كان من أهم أدوات العروس، حيث مسكن العروسين لا يخلو من أدوات الإبل وزينته، وإناء حفظ حليب الإبل، صنعن أيضاً حقائب كتف من السعف المطرز بالجلود والخرز لوضع الأغراض الشخصية بها، كما صنع (المشلعيب) وهو عبارة عن حبال من السعف مترابطة معاً بشكل هرم ثلاثي ذي قاعدة في الأسفل بشكل دائرة توضع بها طبق من سعف النخيل، وكان يتم ربطه في سقف الخيمة لتحفظ فيه الأطعمة والمشروبات بالأخص الحليب بعيداً عن متناول الحيوانات، وكان بمثابة ثلاجة الأطعمة قديماً لأهل الصحراء.
تأتي أيضاً صناعة (البرش) أو حصير البيت، وهذه الأبراش التي صنعت من سعف النخل، كانت من أهم المنتجات لتلك الصناعة، حيث تقوم المرأة بتضفير عدد من الخوص حول بعضها البعض بشكل معين بأطوال مختلفة وبالعرض المطلوب حسب الحاجة، فيتم عمل جديلة طويلة وعريضة متقنة الصنع، وتكرار صناعة عدد من الجدائل، ثم يتم خياطة أو ربط هذه الجدائل بجوار بعضها البعض أيضاً باستخدام السعف، لتأخذ الشكل أو المنتج المطلوب وهو البرش المستطيل الشكل، أحياناً يصنع البرش من سعف شجرة نخيل الدوم لأنها أقوى وأمتن، وحجمها أكبر من سعف النخيل، وبالتالي فإن الأبراش التي تصنع من سعف نخيل الدوم تكون أطول عمراً، وتتحمل الاستخدامات المتعددة، وكان هذا النوع هو المفضل في الأماكن العامة مثل المساجد والمضايف، وهو حصير يتم فرده على الأرض، أو استخدام عدد من حصير البرش لصناعة البيت التراثي أو بيت البرش، حيث يتم تثبيت أعمدة خشبية هيكلاً للبيت، ثم يتم مد الأبراش حول هيكل البيت الخشبي وربطها بالأعمدة لعمل حوائط، ثم سقف البيت باستخدام حصير البرش، وكان هذا البيت هو الأكثر استخداماً في موسم الشتاء لما يوفره من حماية من الأمطار والرياح والبرودة، وكان كثيراً ما يتم خياطة قطع من القماشة على البرش لحمايته وتمتين دوره في البيت.
كما صنعت من السعف أيضاً المصلية أو (سيليلالانيت)، فهي صنعت من سعف النخيل بشكل حصيرة دائرية أو مستطيلة لتستخدم لأداء الصلوات، حيث تقوم النساء بصنع شرائط من جدائل السعف ليكون عرض الواحدة منها عشرة سنتيمترات، ويزيد طولها عن المترين، وتجمع الشرائط جنباً إلى جنب في شكل مستدير أو مستطيل أو مربع، ويتم خياطتها باستخدام شرائط الجلد الرفيعة، كما كان يصنع من سعف النخيل الهباب أو هواية للتهوية أيام الصيف، أما المكنسة أو المقشة اليدوية فهي عبارة عن حزمة من السعف مربوطة من أعلى بجدائل الجلد والقماش الأحمر ويتدلى عليها جدائل السعف والودع والخرز.
وكان للأطفال نصيب من صناعات سعف النخيل بالصحراء الشرقية، فقد استلهمت النساء بالصحراء الشرقية من احتياج أطفالهن أشكالاً للعرائس الشعبية والدمى، فصنعن لأطفالهن باستخدام سعف النخيل المطرز بالخرز والمزخرف بالجلود عرائس وألعاباً شعبية مميزة من سعف النخيل، وقد تكون تلك الأشكال هي فقط ما وثق في مصر من دمى الألعاب الشعبية الصحراوية بجنوب مصر.
عبر تواصل المجتمعات المحلية وديمومة الحركة والانتقال والترحال والسعي وراء الكلأ أو الرعي والأمطار بطبيعة حال القبائل القاطنة جنوب الصحراء الشرقية؛ فقد كان للإبل دور مهم، إذ لم تشكل فقط شكل المجتمعات المحلية وأنماط وجودها عبر الصحراء واقتصادها المحلي؛ بل أيضاً اقتصادها الإبداعي في قطاع الحرف اليدوية، لذا صنعت السيدات المحليات منتجات يدوية متنوعة ارتبطت بالإبل، منها (الكفل) وهو وعاء أسطواني مفتوح من الأعلى صنع خصيصاً لحفظ حليب الإبل، كما صنعت السيدات زينة مخصصة من سعف النخيل لـ(هودج) الإبل، مزين بالخرز والجلود وأيضاً الأقمشة الملونة.
(الكابوتة).. سلال لحفظ القهوة الصحراوية
جغرافيا الصحراء الشرقية كثيراً ما شكلت ثقافة المجتمعات بها، فقد أثرت وتأثرت بتلك المجتمعات. وبالتركيز حول ثقافة الترحال والاستقرار والحركة والثبات حسب الأمطار ووفرة المراعي والمياه؛ فقد كانت القهوة الصحراوية إحدى العادات التي ارتبطت بتلك المجتمعات، وعرفت تلك القهوة بمشروب (الجبنة) بفتح الجيم وفتح الباء، وهي مشروب تراثي عرف عبر ساحل البحر الأحمر جنوب الصحراء الشرقية، وأيضاً لمجتمعات النوبة والقبائل القاطنة بجنوب مصر وأغلب مناطق السودان بالأخص شمال ووسط وشرق السودان، وكان لتلك القهوة طقوس مختلفة في إعدادها واحتسائها، وحتى الترحال بها، لذا صنعت السيدات الحرفيات بالصحراء الشرقية أواني مخصصة لحفظ تلك القهوة ولحفظ معداتها، فأنتجن لنا سلال (الكابوتة)، وهي سلة من السعف المزين بالجلود، أسطوانية الشكل، بغطاء مخروطي، كان الغرض الأساس لها هو حفظ معدة إعداد القهوة المصنوعة من الفخار، كما صنعن (قربة السفر) المصنوعة من جلد الماعز لحفظ أدوات القهوة خلال الترحال، وأيضاً (هواية) أو (مهبة) السعف والتي تستخدم للمساعدة في إشعال النيران، والاهتمام بتسوية القهوة خلال إعدادها، كما صنعن حافظات على شكل فناجين صغيرة من السعف لحفظ فناجين القهوة الخزفية.
مع نهاية رحلتنا القصيرة عبر الجغرافية الثقافية لجنوب الصحراء الشرقية بمصر، وفنون سلال الصحراء؛ يظل الكثير من فنونها التقليدية وحرفها التراثية كنوزاً مهملة تحتاج إلى توثيق جاد وعاجل وصون وحفظ وتنمية لتلك الكنوز المحلية، ودعم لكنوزها الحية من السيدات الحرفيات هناك، صوناً لفنون النساء.