تزخر الإبداعات الحرفية اليوم بنماء واضح، يعكس ثراء المخزون التراثي والإنساني والثقافي المتنوع. ولا تمثل الحرف مجالاً لتعزيز الهوية الوطنية فحسب؛ بل هي تشكيل لنبض اقتصادي واجتماعي في كل منطقة بالدول العربية بشكل مخصوص. ومنذ أقدم العصور لم تكن الحرف اليدوية ملاذاً للإنسان لتجويد احتياجاته فقط، بقدر ما هو تعزيز لاستعمال العناصر البيئية والطبيعية المحيطة به، لصنع أغراض ذات بعد نفعي وظيفي. وتعد العلاقة بين الحرفي والفنان في السياق العربي علاقة جدلية، تتناغم فيها المهارات التقنية مع الرؤية الجمالية والاحترافية، وذلك لنسج مزيج متنوع، فيه تجسيد للهوية الثقافية وإحياء للتراث عبر الزمن.
إن الحرفي اليوم وبوصفه حاملاً لأسرار المهن والتقنيات المستعملة ضمن الصنع التقليدية، ليس مجرد منفذ أو منجز للتصاميم؛ بل هو شريك في العملية الفنية والإبداعية. يحرص على أدق التفاصيل لكي يسهم في استدامة التقنيات والمواد وانتقالها من جيل لآخر. ويسهم الفنان في هذا المجال بمدركاته التعبيرية والفنية في إعلاء هذه الحرف بطابع جمالي معاصر، محركاً بدوره التراسل بين التراث والأصالة والابتكار في حدّ ذاته. وهو ما نقرؤه في أغلب المشاريع الإبداعية المعاصرة التي أعادت السؤال في خاصيات الحرف التقليدية والهوية البصرية المشتركة.
تعرف الفنون المعاصرة اليوم بتعددية متجددة وبتقاطع الاختصاصات، في زمن بات فيه الجانب التقني والنظري مركز اهتمام أغلب الباحثين والفنانين. وتتميز الحرف الإبداعية بنماء واضح في السنوات الأخيرة، في أغلب الدول العربية، حيث ازدهرت الصناعات الحرفية واليدوية في مدارات الفنون المعاصرة اليوم، وعرفت أهمية التعبير والتوظيف، فعادت أغلب التجارب الفنية إلى أساسيات الصناعات اليدوية والمادية لضمان أسلوب تجديد وتحديث وإثراء في الممارسة والتنظير. ومن خلال أسس التقاطع والتضافر بين الحرفي والفنان؛ توالدت أشكال تعبير جمالية في مجالات الخزف والعمارة والفسيفساء والنسيج.. وغيرها من أشكال التعبير الفني المعاصر.
تشهد تونس كغيرها من بلدان العالم العربي تاريخاً مهماً للصناعات التقليدية والحرفية في جل المجالات الحيوية. وضمن محاور التحديث الذي انخرط فيه الفنان والحرفي معاً؛ نطرح محور البحث الجمالي والتجريبي لمعرض (حرفن) الذي أقيم بمدينة تونس والذي شاركت فيه مجموعة مهمة من الفنانين الذين اهتموا بالأثر التشاركي في الجانب الممارساتي. يتضمن المعرض حدثاً مميزاً يتقاطع فيه التقليد والإبداع المعاصر في مجالات الحرف اليدوية وأسس الصنع التقليدية والمهارية، وتخرج الأعمال بدورها من حدود التقليد والتكرار والنمطية إلى مجالات التفكير المفاهيمي. وعملت عائشة القرجي صاحبة فكرة المشروع على إيلاء أهمية بالغة للصنعة والصنائع تخليداً لتوصيات والدها علي القرجي المهتم كثيراً بهذا المجال، وتبنت الفكرة لتدعو الفنانين الشبان لإحداث علاقة تشاركية وعملية بين الأثر الفني والحرفي، ضمن تراسل المباحث التقنية التقليدية والمفاهيمية المعاصرة، وهو ما نقرؤه في العمل الفني (العجار) لسنية قلال. فكيف أسهمت الفنانة في تطويع الصناعة الحرفية في عملها الفني؟ وكيف وظّفت الفعل التشاركي بين الحرفي والفنان في معلقاتها النسيجية الصرحية؟ كيف أحدثت سنية قلال إرباكاً بصرياً للمتلقي من خلال إعادة البحث في أسس المادة الخيطية والنسيجية للعجار؟
انتبهت الفنانة التونسية سنية القلال إلى الخاصيات الشكلية والوظيفية للعجار، باعتباره لباساً تقليدياً ذا هوية بصرية خاصة، وتم بالتالي التخلي عنه في إطار المتغيرات الاجتماعية والمعاصرة التي اكتسحت أساليب التعايش والتفاعل مع المحيط الخارجي. ومن خلال إشكالية الضمور والاندثار لهذا اللباس الذي يوضع على رأس السيدات في أوائل القرن العشرين، لكي يتم به التواري عن أنظار الرجل؛ إلا أن ذلك لم يكن إلا دافعاً للفنانة للبحث عن الصورة الأثر من خلال تجميعها صوراً ومعلقات بريدية لاكتشاف أهمية الشكل واللون والمادة لهذا الزي التقليدي. وفتحت بدورها باب العمل التشاركي مع بعض النساجين المختصين في هذا النوع من الخيط واللون والمادة والشكل في مدينة فاس وبعض المناطق الأخرى بالمغرب الأقصى؛ ليكون الأثر التعبيري المنجز في شكله النهائي تنصيبة صرحية في بهو القاعة المخصصة لمعرض (حرفن) والتي يعود تاريخها إلى مصنع نسيج قديم وقع تركه وإهماله وإغلاقه.
عملت الفنانة على دمج الفضاء وتاريخيته مع تاريخية الموضوع الذي اشتغلت عليه لتقدمه في تنصيب معلق وفق تموجات متقايسة تدفع المتلقي للإبحار في عملية التلقي مع الفضاء الحاوي والمحتوى، وفي أسس الفراغات التي ولدتها طريقة التعليق للقماشة المستوحاة من العجار.
أسهمت الفنانة سنية القلال في إعادة إحياء السؤال في العجار ومكاشفة تاريخه وتقنيات صنعه التي اندثرت تقريباً، فعززت الفنانة باختيارها لهذا الغرض في إعادة الهوية الثقافية للباس المحلي ودوره في تأكيد الطابع التقليدي والتراثي للنسيج المستعمل وطرق حياكته، وعززت بدورها أسس التفاعل والتلقي من خلال التفاصيل والنقوش الصغيرة للعجار، وتحويله من البعد الوظيفي إلى البعد الجمالي المعاصر.
تعددت التجارب التونسية التي اشتغلت بالنسيج وأسسه المادية والتقنية ومساءلته بوصفه محور بحث فني متجدد، ونسوق في هذا السياق تجربة مريم بودربالة التي تشتغل في البحث عن الهوية البصرية للحرفة التقليدية، وتطويعها للسمار أليافاً طبيعية يقع استعمالها لصناعة الحصائر وبعض الأغراض التقليدية، وبخاصة في الجنوب التونسي. تعالج الفنانة التونسية مريم بودربالة القضايا التعبيرية لصور المرأة وتحدياتها في المجتمع، ومن خلال انفتاحها على قضايا البيئة وغيرها من محاور السؤال والمعالجة، فإنها استمرت في البحث وتطويع الألياف والخيوط والقماش في أعمالها الفنية ومجسّماتها النسيجية، وهو ما فتح لها فرص البناء التشاركي والعمل الجمعي بين الحرفي والفنان. ومن خلال مشاركتها في معرض (حرفن) قدمت مريم بودربالة تنصيبة تجمع أكثر من خمس سجادات صنعت بألياف الجريد والسمار وازدوجت التقنية بين خيوط وألياف وخيوط مذهبة وعقيق وغيره من المواد التي اجتمعت في محمل واحد. كما تخيرت الفنانة عملية التعليق للسجادات المتدليات، وإدراج الإضاءة الطفيفة لكي تنسج رحلة بصرية تجمع بين السجاد والظل وتسمح للعين بإبصار ما يوجد في خلفية القطعة المعلقة، فيكون التنافذ عبر ثنائية الوجه والقفا واعتبارها من بين الأسس البنائية لهذا العمل الفني.
انطلقت مريم بودربالة في البحث عن المواضيع الحينية والمحلية، وعالجت في هذا الأثر قضية الحرقة والهجرة غير الشرعية، وتخيرت السجادات المنسوجة بأيدي حرفيات وحرفيين محليين لتسلط الضوء حول لحظات الموت والبقاء التي ترتسم للشباب لحظة معانقتهم أحداث الرحلة في أعماق البحر. كما أسهمت الفنانة باختيارها لهذه النوعية من السجاد، التي يقع وضع الجثمان عليها لحظة حمله إلى المقبرة، لتتوالد الصور الإيحائية ذات المعاني المتداخلة من خلال الطابع النقدي والتعبيري اللذين مزجتهما مريم بودربالة لتصنع احتفالات مشهدية من خلال تطويعها للتقنيات والمواد ودمجها للمعاني المتخفية وراء الطريق الوردي الذي ينتظره المهاجر، وحقائق ملموسة يعيشها ضمن الأحداث والوقائع المتداولة. لقد حاولت الفنانة مريم بودربالة أن تسهم باختيارها لهذا المحور البحثي أن تعيد السؤال في هوية المكان وهوية الغرض الحامل والمحمول من خلال المعاني والدلالات الموسومة في الأثر ورهاناته التعبيرية. ومن خلال تغيير البعد الوظيفي للغرض وتحميله أبعاداً ومعاني جمالية في بنائها للأثر الفني؛ تعيد الفنانة السؤال في إنشائية الأثر ومراحل صناعته وطريقة عرضه وشمولية العملية الفنية المعاصرة التي باتت مزيجاً تفاعلياً وتشاركياً بين الفنان والحرفي والمتلقي ضمن مشهدية متغيرة.
ستة أجزاء من العمل التركيبي
تتراسل السرديات البصرية الجامعة بين أثر الحرفي والفنان لتتعدد الأعمال الفنية والمعارض والمشاريع التي جمعت بين الصنعة والابتكار في مساهمات عدة للعودة إلى التراث وتجديد طرحه وإضفاء لمسة معاصرة استحداثية تتماشى ومتطلبات العصر، ومن خلال مشروع جواز عبور أحدثت الفنانة هالة الهذيلي جسور ربط وتشارك بين الحرفيات بمدينة هرقلة وأعمالها الفنية. تتميز مدينة هرقلة بانتشار صناعة الحلفاء وممارستها حرفةً متوارثة عبر الأجيال، وهي صنعة تتشارك فيها نساء مدينة هرقلة ومدينة القصرين من تونس، وهو ما دفع الباحثة للسؤال في هذه المادة الطبيعية التي تم تطويعها وتعزيز استعمالاتها ضماناً للهوية الثقافية لكلا الجهتين. طرحت هالة الهذيلي خاصيات المادة الحلفاء وكيفيات مراحل استعمالها من خلال مرافقتها للحرفيات ومعاينتها لطرق تجفيفها وتلوينها ونسجها، وتخيرت شكل الشامية غرضاً تقليدياً يقع استعماله في معاصر الزيتون القديمة. من خلال شكل الضفرة الحلزونية، ومن خلال أسس العقدة، وحركة اليد النساجة؛ تخيرت الفنانة بناء صور تعبيرية وفيديوغرافية تم تركيبها ضمن فيديو تجريبي جمعت فيه الصورة الحدث والصور الفنية من خلال فعل التجاور والتراسل، ومزجت بدورها الصوت والصورة في دفع منها لنسج الحراك السمعي البصري والحسي الذي يجمع سيرورة إنجاز الأثر وعرضه.
أخرجت الباحثة الشكل الدائري للشامية من نمطيته المادية، وعملت على إدراج الحياكة البصرية عبر تقنيات عرض المابينغ، لترسم بدورها رحلة رقمية تجمع بين الأثر الذي ساهمت الحرفيات في صناعته وبين الفيديو التجريبي الذي عملت الفنانة على بنائه وتركيبه وتجويده عبر ثنائيتي الصوت والصورة.
لم تعد الصناعات الحرفية مجرد تقنيات تقد بأيدي صناع يتقنون الحرفة، بل ان هذه القوى الناعمة باتت شريكا رياديا في بناء الهوية الثقافية واستمرارها ودليلا للانتماء والتفرد، وتختلف الصناعات والحرف وتتشابه في الوطن العربي وضمن هذا الاختلاف والتشابه يقع الفعل الإبداعي كمحرك ريادي لبناء أسس تعبير فني متجدد تشاركي. وتنامت هذه العلاقات البينية خاصة في مجالات النسيج اليدوي والفني وأصبح الفنان مبتكرا للصور والاشكال والحرفي بات منجزا ومساهما في انجاز الأثر. ورغم كل هذا النماء والاستفاقة النوعية التي وجهت للحرف خوفا من اندثارها الا ان الاشكال ما يزال مطروحا في نوعية التدخل الفني على الحرف التقليدية ضمن هشاشة المجال وتذبذبه بين التراث والمعاصرة. يتنامى بالتالي دور الصناعات الحرفية في بناء الهوية الثقافية واستمرارها. فالحرف اليدوية ليست فقط مهارات تنتقل عبر الأجيال، بل هي أيضا جزء من النسيج الثقافي والتعبير الفني. وقد تطورت هذه العلاقة، حيث أصبح الفنان والحرفي شركاء في الإبداع، مما يساهم في إحياء التراث والحفاظ عليه.
لكن التحدي يكمن في كيفية دمج الحرف التقليدية مع الفنون المعاصرة بطريقة تحترم الجذور الثقافية بينما تضيف لمسة حديثة. هذا التوازن الدقيق يمكن أن يكون صعبًا ولكن عندما يتم بشكل صحيح، يمكن أن ينتج عنه أشكال فنية متميزة وفريدة من نوعها تعكس التراث والحداثة في آن واحد.