مجلة شهرية - العدد (584)  | مايو 2025 م- ذو القعدة 1446 هـ

الحرف اليدوية ثروة وطنية

أتى إطلاق المملكة العربية السعودية مسمى (عام الحرف اليدوية) على العام الحالي 2025م، احتفاءً بهذه الحرف المحلية الأصيلة، والحث على استدامتها وتطويرها، وتعريف الأجيال الحديثة بحرف الأجداد، وطرق استغلالهم الأمثل لموارد البيئة من حولهم، والاستفادة منها لتحسين حياتهم اليومية، ومساعدتهم في سد احتياجاتهم بطريقة مثلى. وكانت غالبية هذه الحرف يتم توارثها عبر الأجيال والعائلات إلى أن أوشكت على الاندثار مع تغير ظروف العمل وتطور جوانب الحياة وانخراط المواطنين في الأعمال الحديثة والتخلي عن حرف الآباء والأجداد، مما يبرز أهمية المحافظة عليها في وقتنا الحالي.
هذه الحرف اليدوية تعتبر ثروة وطنية، فهي تمثل التراث الثقافي المحلي، وهي جزء من الهوية الوطنية للبلاد، وتعكس جوانب من الحياة الاجتماعية والاقتصادية للشعوب. والحفاظ عليها يسهم في توثيقها بشكل صحيح وتعليمها للأجيال الحديثة، كما أن تطويرها يدعم استمراريتها وملاءمتها للحياة المعاصرة.
لو أردنا أن نذكر أهم الحرف اليدوية التي اشتهرت في المملكة العربية السعودية؛ فإنه لا بد أن نركز على الموارد الطبيعية التي تميزت بها شبه الجزيرة العربية منذ القدم، وقد تنوعت الموارد البيئية الطبيعية فيها، مما أدى لتنوع المواد الأولية المستخدمة في الحرف والصناعات المحلية، وتنوع الحرف والمنتجات الناتجة من هذه الحرف. وقد عرف العرب قديماً الكثير من هذه الحرف، وقاموا بممارستها، مما يثبت أنها حرف وصناعات أصيلة وعريقة.
فوفرة الصوف والوبر، موادَّ أساسية؛ جعلت العرب منذ القدم يمتهنون الحياكة والنسيج، واشتهرت النساء خصيصاً باستخدام المغزل لغزل الصوف والوبر ثم صناعة وتشكيل النسيج، فكانت تُصنع بيوت الشَّعر والبسط والخروج وهي أوعية من الصوف يحمل بها المسافر ما يحتاجه وتوضع على الجِمال، وعُرفت صناعة العباءات النسائية والرجالية والمشالح (البشوت). وقد عُرفت (هجر) في شرق شبه الجزيرة العربية -منذ القدم- بصناعتها للنسيج، كما ذكر الشاعر لبيد بن ربيعة الثياب التي تُصنع فيها:
فكلفتها وهمـــاً كـــأن نحيــزهُ
شقائقُ نسّـــاجٍ يؤمُ المناهلا
مُنيفاً كسَحل الهاجريّ تضمُّهُ
إكامٌ ويعروري النجادَ الغوائلا
كما ذكر الأعشى خمل القطيف:
خاشعاتٍ يُظهرن أكسيةَ الخزِّ
ويُبطــــــنَّ دونهــــا بشفــــوفِ
وحثثن الجِمالَ يسهكن بالباغزِ
والأرجــوانِ خمــــلَ القطيـــــفِ
ومن المناطق التي اشتهرت فيها مراكز النسيج منذ القدم منطقة الوشم بشكل عام وثرمداء خاصة، ويذكر حميد بن ثور الهلالي برود ثرمداء وأنها تنافس صنعاء في دقتها وجودتها:
ما بال بردك لم تمسس حواشيه
من ثرمداء ولا صنعاء تحبير
ووجود الجلود ساهم في العديد من الصناعات الجلدية كصناعة الأحذية والنعل والزرابيل والغروب (جمع غرب وهو الدلو) والدلاء والقِرَب. ويذكر لبيد بن ربيعة صانع النعال الذي يثقب ويخرز الجلود بالسراد (المثقب) النقال، ويعني بها النعال:
يشُكُّ صفاحهـــا بالرّوقِ شَـــزراً
كما خرج الســرادُ مــن النِّقــالِ
وعن صناعة الدلاء التي تستخرج بها المياه من الآبار، يذكر لبيد بن ربيعة (المقابل) وهو الدلو المصنوع من الجلد، وفي قوله (المسلوم) يعني المدبوغ بشجر السلم، و(الجارن) أي اللين:
بمقابلٍ سَــرِبِ المخــارزِ، عِـــدلُهُ
قَلِـــقُ المحَالَةِ، جـــارِنٌ مسلومُ
وتوافر الأخشاب وحرفة النجارة جعلت الخشب يدخل في كثير من المنتجات التي تلبّي متطلبات المعيشة قديماً كصناعة الأبواب الخشبية والنوافذ (المصاريع) وصناديق حفظ الملابس والبكرات الخشبية المستخدمة في استخراج المياه من الآبار والسواني وغيرها من أدوات المنزل. يذكر الأعشى حرفة النجارة بذكر ما يقوم به النجار (الفيتق) في إدخال السكّي (المسمار) في الباب:
ولا بدّ من جارٍ يُجيزُ سبيلها
كما جَوَّزَ السكّيَّ في البابِ فيتقُ
وهنا أوس بن حجر يصف تصنيع السهام المصنوعة من فروع الأشجار، والتي يبدع الصانع في صناعتها ويركب عليها الأنصال ثم تكسى بالريش:
وحشوَ جَفيرٍ من فروعٍ غرائبٍ
تنطَّـــعَ فيهـــا صانــــعٌ وتنبَّلا
تُخُيِّرنَ أنضـــاءً ورُكّبنَ أنصُـــلاً
كجمرِ الغضا في يومِ ريحٍ تزيّلا
فلمّا قضى في الصنعِ منهنّ فهمهُ
فلم يبقَ إلا أن تُسَنَّ وتُصقلا
كساهُنّ من ريشٍ يمانٍ ظواهراً
سُخاماً لُؤاماً ليّنَ المسِّ أطحلا
ولأهمية النخلة الكبيرة لدى العرب، فإن الكثير من الحرف والصناعات قامت على ما يحتويه النخل من سعف وخوص كصناعة الحصر والمهاف وسجادات الصلاة وسفر الطعام وأدوات تنظيف المنزل والأوعية المختلفة التي تستخدم لحفظ التمر وغيره، وهو ما عرفه العرب قديماً، كما ذكره كعب بن زهير وهو يشبّه التواء الطرق واعوجاجها وتداخلها بالحصير المصنوع من سعف النخل (العسيب):
فـــذريني من الملامــــةِ حسبي
ربمــــا أنتحـــــي مــــــــواردَ زورا
تتـــأوى إلى الثنايا كمـــا شكّت
صناعٌ مـــن العسيبِ حصيـــرا
واشتهرت كذلك الصياغة للمعادن كالذهب والفضة والنحاس والأحجار الكريمة والحديد، وما يقوم عليها من صناعات معدنية كالحلي والأسلحة وغيرها من الأدوات التي يعتمدون عليها في معيشتهم. وقد ذكر هُدبة بن الخشرم عن الصياغة وشهرتها في المدينة:
عليهنّ من صنعِ المدينةِ حليةٌ
جُمـــانٌ كأعناقِ الدّبـــا ورفارفُ
ويذكر الأعشى الصاغة في مدحه لهوذة الحنفي:
من يلقى هوذة يسجد غير متّئب
إذا تعصّب فوق التاجِ أو وضعا
لـــه أكاليـــل بالياقـــوت زيّنهــــا
صُواغها لا ترى عيباً ولا طبعا
واشتهر العرب بصنع الأسلحة كالسيوف والدروع وغيرها، وقد شبه النابغة الذبياني الثور بالهبرقي وهو الحداد أو الصائغ أي من يستخدم النار في صناعته:
مستقبل الريح روقيـه وجبهتـــه
كالهبرقي تنحّى ينفخ الفحـــمَ
وضمّن الكثير من الشعراء في أشعارهم أسماء بعض الصنّاع، فالأعشى يذكر صانع السيوف (أبو عجلان) وهو يصقل السيف والعرق يتساقط من خديه:
وإلا كــلّ ذي شُطَـــبٍ صَقيـــلٍ
يقُـــدُّ إذا عَـــلا العنـــقَ الجِــرانا
أكَـــبَّ عليهِ مِصقلتيـــهِ يومـــاً
أبـــو عجـــلانَ يشحـــــذُهُ فَتَانــا
فظَلَّ عليـــهِ يَرشَـــحُ عارضــاهُ
يَحُــــدُّ الشفرتينِ فمــــا ألانــــــــا
وذكر الأعشى صانعي الرماح (أبزى وشَرعَب):
ولَدنٌ من الحَطِّيِّ فيهِ أسنّةُ
دخائرُ مما سنّ أبزى وشَرعَبُ
وبيضٌ كأمثالِ العقيقِ صوارمٌ
تُصانُ ليومِ الدَّوخِ فينا وتُخشَبُ
أما أوس بن حجر فيذكر (ابن مجدّع) ويمتدح صناعته للسيف بكل إتقان:
وذو شطباتٍ قَدُّه ابن مُجَدَّعٍ
لـــــه رونــــقٌ ذَرِّيُّـــــهُ يتآكــــلُ
وفي الشعر الشعبي يذكر محمد بن لعبون الصائغ (ابن جَلَق):
ما طَرَق فوق الوَرَق يا بن جَلَق
زور كــفٍ فــوق كــفٍ ما يليـــق
وشاع قديماً العمل بالطين حرفةً أساسية لبناء البيوت، وذكر حميدان الشويعر هذه الحرفة، وامتدح من يعمل بها بالإضافة للزراعة، وأنهما من أهم المصادر الاقتصادية آنذاك في تحسين المستوى المادي لمن يمتهنهما:
إلى جــاك الولــد بيديــــــه طين
ولــه غــرس يحفّـــر في جفـــاره
تــرى هـــذاك ما ياخـــذ زمـــان
إلا وهــــو جامـــعٍ لــــه تجـــارة
وتنوّعت الحرف والصناعات عند العرب منذ القدم، وجاء الإسلام وحث على العمل، فازدهرت هذه الصناعات، لذا فالحفاظ على هذه الحرف والصناعات الأصيلة والعريقة هو مطلب أساسي، خصوصاً في زماننا الحالي وحياتنا المعاصرة، ففي ذلك دعم للحرفيين والأيدي العاملة في هذا المجال، وفيه حفاظ على تراثنا الثقافي واعتزاز بهويتنا الأصيلة. ونعتز بما تقوم به الجهات المختصة وعلى رأسها وزارة الثقافة بالدعم الكبير للحرفيين وإقامة البرامج التدريبية التي تضمن بقاء هذه الحرف وانتقالها عبر الأجيال والاستفادة من التقنيات الحديثة في دعم وتطوير الابتكار في هذه الحرف، وإقامة المعارض التي تحتفي بالحرفيين وتعرض منتجاتهم، وما يحصل من تمكين لهم بإدخال إبداعهم بالصناعات الحديثة في مجال الأزياء والأثاث وغيرها.
هذه الحرف كانت ولا تزال شاهداً على إبداع الأسلاف وقدرتهم الفريدة في مجال الصناعات اليدوية، واهتمامهم بالجمال، فضلاً على الاهتمام بتلبية متطلبات معيشتهم اليومية بتصنيع الأدوات والمنتجات التي تخدمهم وتسهّل حياتهم. فاهتمامنا بهذه الحرف والصناعات جزء من اهتمامنا بتراثنا واعتزازنا بأسلافنا وافتخارنا بأصالتنا وعراقتنا.

ذو صلة