تشير الفيزياء الكمّية في صورتها الأساسية إلى الآثار التي يؤثر بها المستقبل على أحداث حصلت في الماضي. وبتكييف سينمائي واعٍ لهذه النظرية، تستقرئ الحركة النسوية التاريخ لتكيّفه وفق منظورها الخاص وتسقط عليه واقعها ومنظورها.
المستقبل يؤثر في الماضي وليس العكس، وبتركيب أعقد يصبح المستقبل في تراتبيته الغيبية هو من حرك الماضي وأثر فيه وأعاد تقييمه.
قصة متخيّلة
خذ على سبيل المثال فيلم (Wicked Little Letters- رسائل شريرة صغيرة) الذي اصطاد صانعوه من تاريخ ما بعد الحرب العالمية الأولى طيف قصة عابرة من بلدة محلية صغيرة (ليتلهامبتون) ليثبتوا أنّ المستقبل الذي لا فكاك منه كان الطريق الذي مكّن لمهاجرة آيرلندية مشاكسة التأريخ لنضال نسوي عجيب في قدرته واستمراره وتصاعده.
يحكي الفيلم قصة (حقيقية أو متخيلة) لصداقة لدودة وعداوة ودودة جمعت بين (إيديث) التي تخفي تحت ورعها ومحافظتها المزيفة ادعاءات وطبقات لا تُحصى من النفاق المكثف، والتي تتلقى رسائل نابية مضحكة، وبين الموصومة الآيرلندية ذات اللسان السليط (روز) التي سرعان ما تكون المتهمة المفضلة لمثل هذه الجرائم الغريبة، لتتعاون مجموعة من نساء البلدة في الكشف عن المتهم الحقيقي وراء تلك الرسائل الفاحشة.
تتحول تلك الصداقة إلى عداوة مبهمة أثرت فيها وطء آثار ما بعد الحرب، وعنصرية بيضاء غير مستغربة.
تشكيل الماضي بقيم المستقبل
ليس هذا فقط، بل يعيد الفيلم ترتيب الماضي وينقّحه، ويختار لأهالي تلك الأزمان قيم اليوم وعاداته، فالحبيب الذي تذوب لأجله قلوب العذارى ما هو إلا شاب يقطر وسامة من الإنجليز الأفارقة، والقاضي الموقر الذي تستكين لصرامة أوامره هيئات المحلفين وصفوف المدعين والمحامين من البشرة السوداء، وساعية البريد السمينة -وهي وظيفة لها ثقلها في تلك الأزمان- سوداء البشرة، والشرطية التي أخذت على عاتقها إصلاح النظام الأمني لجهاز شرطة مهترئ مشبع بالعنصرية العرقية والجندرية وكل أنواع العنصرية الظاهر منها والخفي من أصول هندية، ويكاد (الوايت بيبول) يُحشرون ضمن نطاق عالم متخيّل خُصّصت له كل الصفات البشرية الدنيئة التي يحتويها الكون.
وبهذا تتكون نظرة متكلفة ومتعسفة أو العكس -لا يمكنني الجزم- تجاه الماضي وتشكيله بقيم المستقبل وتجاربه، وكل ما انتهى إليه الماضي واستقر عليه، لم يكن ليكون دون اعتبار ما سينتهي إليه المستقبل.
(رسائل شريرة صغيرة) فيلم كوميدي وساخر، تعملقت فيه كل من (جيسي بَكلي) في دور الفتاة الآيرلندية الجامحة، و(أوليفيا كولمان) في دور المحافظة المتزمتة المنافقة، قد تعيبه المثالية والنظرة الحالمة، لكن أظن أنه نجح بأساليبه الناعمة في رسم صورة للماضي بألوان المستقبل وتدرجاته القيميّة، وسط حاضر تعصف به رياح الواقع وتقلّباته، فالسينما كما يعرف الجميع لا تحكي فقط، بل تعيد وترتب وتغير وتتنبأ، وهذا ما فعلته مجموعة من (الرسائل الشريرة الصغيرة).