فوق عالي السُحب نُحلّق
نبتعد عالياً في تحرر من قوة الجاذبية، نحو جاذبية علوية قوامها الغيم والضباب ورؤوس الجبال وتسريحة شعر ساحرة الحلم من الأشجار.
عالياً تبتعد بنا سيارة الدفع الرباعي التي يقودها أحمد السروي، كأنه وهو يسحبنا من نادي أبها الأدبي يريد أن يمارس علينا طقوس احتجاب من نوع آخر، فيه حجب وغيبة وامّحاء وارتحال وارتفاع واختفاء، طقس من التوق للكشف بعين أخرى، بتقليد مغاير، بتتبع أثر مختلف، بوصول يلامس مرآة السماء على قمم الجبال، حتى ليتهيأ للرائي أن تلك السماء ضيفة في كنف الغابات على أقرب مطل منها.
***
أول مرة تطأ قدماي مدينة أبها..
للحضور الأول، سحر النظرة الأولى، ليكون القرب أو البعد، الحب أو النفور، النبض أو الخمول، لكن الحالة أخذت منحى الحبور، توق للعبور، استلاب لجغرافية تسكنها روح خرافية، دروب أخذت تسحبني من ناصية قلبي نحو حضن دافئ كأنه أنثى الأسطورة المستلقية على بساط الشوق في مقام الانتظار، صار الانتظار فعلاً متحققاً، ولجت فيه مداراً تلو مدار، للوصول إلى أبهى مقام، حتى تفيأت سدرة القرب، فوجدتني أسابق روزنامة الوقت، ليكون حلولي أكثر في أبها. وقال القلب: هذا حسن.
***
(فوق عالي السحب)،
كأن تلك الأغنية أعيد أنا كتابتها الآن، (أبو نورا) غناها لكل وطنه، وهو ابن سياقات عسير ونبضها المركزيّ (أبها)، وما كل استرجاع وترديد لتلك الأغنية هو حال واحد، فلكل طقس خصوصيته وفضاءاته وتجلياته، ليست كل الأحوال سَواء، وحالتي فيها حلول طائر فينيقي الهوى، حلّق صبّاً عاشقاً يلامس فتنة الغيم فوق جبال السودة، وها أن هناك دهشة متحققة، حالي فيه قرب المريد المتجلي المستلب الراغب المقترب الصاعد المنبثق الراكن إلى مقام الجمال والسحر.
الآن، أصير صاحب خطوة بعد هذه الحظوة، خطوة يمّحي فيها الزمن، يتكثف الدرب، يتصلصل المكان ليتشكل بطيناً ناظماً لكل تلابيب القلب، الأغنية صرت كاتبها وناظمها ومنشدها ومؤديها، الأغنية تحللت من برودة الترداد، والتكرار، والرتابة، تحرّرت وعادت إلى جذرها الأول، صبّت عبق عطرها البكر فيَّ، فيا طيب فوحها، وضوعها، وسكرها، وخمرها، وليلها، وشمسها، ويا حسن استقبالي لها، لأضيف حرفاً على موسيقى نحتها، فأجوس رؤيا بوحها وسرها وسحرها وسِفرها وسَفَرها وكل ما جال فيها من تلقائية تقطير ثدي الغيم لما اكتظ في عروقه من الندى والضباب ومرايا الحجاب.
***
كانت العودة في اليوم التالي إلى درب السودة، وفي البال قرية رجال ألمع، حيث فتنة المعمار هناك، درجة الحرارة تهبط بحدة ما إن خرجنا من أبها، كأنها تنذرنا بجليد وبرد قادم، لكن جدار الضباب كان هو العائق الأكثر حضوراً، كأنما هناك نَفَرٌ من الجن يرصفون الفضاء بكتل الضباب هذه، خطوة أبطأ من الخطوة التي قبلها، والسيارة لا تكاد تمشي إلى أن وصلنا نقطة صار المشي بعدها رهبة وتهديد بالخطر، هذا قبل أن نصل المنحدر المؤدي إلى رجال ألمع، فعدنا بالسلامة إلى دربنا الذي جئنا منه، وكانت أبها تستقبلنا، ببرد محتمل، وفضاء صاف، فارتقينا الدرب إلى المدينة العالية، ثم وصلنا بعد ذلك ممشى الضباب، يا لتلك المناظر الرائعة في كلا المكانين، منزلة بين منزلتين، قُرب وحُب، جمال الطبيعة وزهو التاريخ، ثم أخذتنا الدرب إلى بلدة مجاورة فيها طبيعة مغايرة هي بلدة الحبلة، التي كانت قرية معزولة بين قمم جبال السروات، وتحولت إلى منتجع سياحي عالمي.
***
إنها الأغنية أيضاً..
وبها يكون بدء البوح هنا:
(يا سحايب سَرَت أبها تعدّي شمال
استعيري دموعي.. سَيّري كل وادي
غطي أرض الحبيّب بالندى والجمال
مثل ما هو مندّي بالمحبة فؤادي)
أعود إلى أبها مودعاً، قبل السفر عوداً إلى الأردن، فأعبر إلى البهية الباهية من عتبة الأغنية التي تعيدني إلى اسمها القديم الذي كان ذات عهود عتيقة جرش.. يا الله، كيف ترتبط المدن العربية بعضها البعض، وأنا في الأردن تركت جرش شمالاً هناك، وما كنت أدري أن لها ذاكرة في تاريخ أبها هنا، حيث الاسم واحد لكليهما، وكأنهما تؤامان.
ما زالت جرش القديمة في أبها، وفيها بقايا مباني بنو يشكر، ونقوش وأدوات قديمة تقع على طريق (خميس مشيط-نجران)، بالقرب من الروغ، هناك حيث في أبها تتجلى هضبة العروس، تلك الهضبة مهابة جبل مغطى بالصخور اللامعة، بواجهته الشمالية الشرقية رسوم ونقوش وكتابات ثمودية، وصورة عروس داخل هودج تقع بجوار قرية الداره في أبها.
وتبقى أبها حاضرة في المخيال، كأن خيول حضورها تريد أن تدق سنابكها كل دروب ذاكرتها، ليقدح شرار حكاياتها القديمة، آن كانت تعرف باسم (أبقا)، وكانت إبل بلقيس، ملكة سبأ، تحمل الهدايا من أبقا إلى النبي سليمان عليه السلام، ثم كانت في عهد العثمانيين تعرف بأنها (بهى)، قبل أن يستقر اسمها على أبها، مملكة الجمال وموطن الخيال.