الفلسفة على قدمها الطويل، إذ ترتد إلى عصور ما قبل الميلاد، وتمتد إلى ما بعده، عابرة جميع الأزمنة القديمة والوسيطة والحديثة، ومع سعة الاشتغال بها، وكثافة البحث عنها، وتواصل النظر فيها، فحصاً وتبصراً، تحليلاً وتركيباً، ما زالت إلى اليوم توضع موضع المساءلة متحددة بصيغة: ما هي الفلسفة؟
هذا السؤال ظل يتردد دوماً، ويتجدد في أزمنة مختلفة ومتعاقبة، بوصفه سؤالاً رئيساً له موقعية الصدارة، وليس سؤالاً فرعياً أو هامشياً لا وزن له ولا اعتبار، وكونه سؤالاً بقي محتفظاً بجديته، ويبعث على الفضول، وليس سؤالاً عادياً أو جامداً لا حيوية له ولا اندهاش. وقد عده الدكتور محمد عابد الجابري (1936 - 2010م) حين أشار إليه في كتابه: (قضايا في الفكر المعاصر)، بالسؤال الخالد. في دلالة على بقائه وتجدده من جهة، وعلى بروزه وجديته من جهة أخرى.
علماً أن هذه السمة التساؤلية التي نراها في الفلسفة عن الفلسفة، لا نجدها تقريباً في سيرة جميع المعارف والعلوم الأخرى، على أقسامها الاجتماعية والإنسانية والطبيعية وغيرها. فلم نجد علماً من هذه العلوم جميعاً ظل يسائل نفسه بلا توقف، على طريقة تساؤل الفلسفة مع ذاتها عن ذاتها، الأمر الذي جعل الفلسفة تكون متفردة بهذه السمة التساؤلية، تُعرف بها، وتُسجل لها، وتُحسب عليها.
وقد احتفظت الفلسفة بهذه السمة التساؤلية وتفردت بها، وذلك لشدة علاقتها بالسؤال، فقد بدأت بالسؤال نشأة، وعرفت به ماهية، وداومت عليه وظيفة. حدث ذلك حين وضع الفيلسوف اليوناني أرسطو (384 - 322 ق. م) السؤال في قلب تعريف الفلسفة قائلاً: إنها عبارة عن أسئلة الأصل فيها دهشة الإنسان من الظواهر التي تحيط به.
واستناداً إلى هذا القول، رأى المفكر المغربي طه عبدالرحمن في مفتتح كتابه: (الحق العربي في الاختلاف الفلسفي) الصادر سنة 2002م، أن الفلسفة لم تشتهر بشيء اشتهارها بممارسة السؤال، ولم يطبق المشتغلون بها على شيء إطباقهم على هذا الوصف، وأما في كتابه: (فقه الفلسفة)، فقد اعتبر أن سؤال: ما هي الفلسفة؟ سؤال لا ينقطع بجواب.
والمدهش في هذا السؤال: ما هي الفلسفة؟ وفي تجدده، أنه جاء من مفكرين وفلاسفة يوصفون بصفة الكبار، ومن أوروبيين غالباً. وهؤلاء الذين نقصدهم كانت لهم سيرة طويلة، وشهرة عالية في عالم الفلسفة تدريساً وتأليفاً، عركوا الفلسفة وعركتهم تأملاً وتفلسفاً، خبرة ودراية، فقد ظلوا يبادرون إلى طرح هذا السؤال ناظرين إليه بجدية كبيرة، ومتعاملين معه بأفق واسع، متخذين منه مدخلاً إلى تجدد الاهتمام بالفلسفة، وإلى التبصر في نوع السؤال الفلسفي.
ومثل هذا السؤال، طرحه بإثارة كبيرة المفكر الألماني مارتن هيدغر (1889 - 1976م)، واتخذ منه عنواناً لمحاضرة افتتاحية قدمها لندوة عقدت سنة 1955م، ونشرت لاحقاً بعنوان السؤال نفسه: ما هي الفلسفة؟ ويمكن عد هذا السؤال أنه مثل السمة البارزة، والعلامة المميزة لهذه المقالة بعد نشرها. وفيها ظل هيدغر يردد هذا السؤال، ويعيد التذكير به بلا توقف من أول المقالة إلى نهايتها، ناظراً إليه ضمن سياقات متعددة فكرية وتاريخية، قديمة وحديثة، مكتفياً بالمجال الأوروبي.
وتجدد هذا السؤال بصورة أكبر هيئة ومضموناً، وبنوع من الإثارة الشديدة، بعد صدور كتاب المفكر الفرنسي جيل دولوز (1925 - 1995م) بالاشتراك مع زميله المحلل النفسي فيلكس غتاري (1930 - 1992م)، المنشور سنة 1991م، الذي اتخذ من السؤال نفسه عنواناً له، مبرزاً لأول مرة سؤال: (ما هي الفلسفة؟) في واجهة كتاب عرف بهذا السؤال، ومثل علامته السيميائية البارزة، وعد من المؤلفات التي تحسب على أدب السؤال، والسؤال الفلسفي تحديداً. ولو جاء هذا الكتاب بغير هذا العنوان التساؤلي، لما كانت له على ما يبدو هذه الإثارة والاندهاش والفضول التي عرف بها.
وبتأثير هذه الدهشة، اكتسب هذا الكتاب متابعة جادة في المجال الفكري العربي، وجدد النقاش حول سؤال: ما هي الفلسفة؟ ووجد فيه بعض الكُتاب والنقاد ما يثير الدهشة والفضول. وهذا ما عبر عنه الناقد اللبناني الدكتور علي حرب في كتابه: (نقد النص) الصادر سنة 1993م، متحدثاً عن حاله بعد مطالعة الكتاب المذكور، وتأثيره على شعوره، قائلاً: (لقد شعرت وأنا أقرأه بعدما أفنيت شطراً كبيراً من حياتي أشتغل بالفلسفة، إن ما حسبته كذلك ليس فلسفة. إنه حقاً كتاب يعيد خلط الأوراق في الفلسفة والفكر عموماً.. وهذا ما فعله دولوز وغتاري في كتابهما، إنهما يقلبان الطاولة، وينسفان معظم المفاهيم المعروفة عن الفلسفة، على نحو يجعلنا ندهش ونعجب أشد العجب من صنيعهما وإبداعهما).
وتجدد الانتباه كذلك إلى هذا السؤال، نتيجة عامل الغموض المدهش الذي أحاط بالفلسفة وتصاحب معها، وظهر السؤال عنها وكأنه سؤال ليس فقط يصعب الإجابة عنه، وإنما في تقدير بعض المفكرين والفلاسفة الأوروبيين المعاصرين، لا يمكن الإجابة عنه، في موقف غريب من هؤلاء.
هذه الوضعية من الغموض تفردت بها الفلسفة، وعدت من مختصاتها، ولم نرها بهذه الكيفية في أي علم من العلوم الأخرى. ولم تحسب هذه الوضعية منقصة في الفلسفة أو ضعفاً فيها، بل زادت قرباً منها شغفاً وفضولاً، بخلاف لو كانت في باقي العلوم الأخرى.
والمدهش هنا أيضاً، أن هذه النظرة إلى الفلسفة، جاءت من مختصين بالفلسفة أمضوا زمناً طويلاً في الاشتغال بها تأليفاً وتدريساً. ولو جاءت من أشخاص آخرين لما كان لهذه النظرة وزن علمي، ولفقدت القدرة على إثارة الانتباه، ولكان لها تفسير آخر يخرجها عن نطاق الفلسفة، وقد يعاب صاحبها بالجهل أو نقص المعرفة أو بعدم الدراية الكافية، بشكل يدعو إلى الانصراف عنها، وعدم الاكتراث بها.
وأبلغ من عبر عن مثل هذا الموقف، المفكر الفرنسي جان توسان ديزانتي (1914 - 2002م)، فعندما سئل في حوار فلسفي نشر في سنة 1997م، هل يمكن تحديد ما هي الفلسفة؟ أجاب قائلاً: (لقد اقترح عليّ أن أؤلف كتاباً يجيب عن هذا السؤال، قلت: إنني لن أجيب، لم أرد أن أجيب عن شيء لا أعرفه، مع أنني أدرس الفلسفة منذ أكثر من ستين عاماً. أعتقد أنني أعرف عما أتحدث، لكن إذا طلب مني أن أعرفه، فلا أستطيع الإجابة. إن الشيء الوحيد الذي أستطيع القيام به حين يطرح عليّ سؤال: ما هي الفلسفة؟ هو أن أقول تعالوا، سنأخذ الطريق معاً ونرى ماذا يجري). أشرت إلى هذا الرأي لتأكيد خاصية الدهشة في الفلسفة، لكني لا أتفق معه، ولا أرى فيه جواباً فلسفياً محكماً، ولا يقدم رأياً فلسفياً متقناً، وليس من الصواب أن نقدم الفلسفة بهذه الطريقة المبهمة والغامضة، وكأنها من الأساطير القديمة التي لا طريق إلى العلم بها. وأظن أن هذه الطريقة تضر بالفلسفة ولا تخدمها. لأن الشيء الذي لا نعرفه أو لا يمكن أن نعرفه، لا يستحق منا كل هذا العناء، ولا أن نصرف له كل هذا الجهد، ونبادله كل هذا الحب، بناء على ارتباط الفلسفة بالحب، حين عرفت قديماً بأنها حب الحكمة. ولعل الأصح القول إن الفلسفة تعرف بتعريفات عدة، ولا تعرف بتعريف أحادي.
وعند النظر في السؤال المذكور: ما هي الفلسفة؟ يمكن القول تحليلاً إن هذا السؤال تارة يكون ناظراً إلى الفلسفة من ناحية المعرفة، وتارة يكون ناظراً إلى الفلسفة من ناحية الزمن، وتارة ثالثة يكون ناظراً إلى الفلسفة من ناحية الشخص. في الحالة الأولى يكون النظر متجهاً إلى البحث عن ماهية الفلسفة وحقيقتها، وفي الحالة الثانية يكون النظر متجهاً إلى البحث عن الفلسفة من ناحية علاقتها بالزمن وتحولاته، وفي الحالة الثالثة يكون النظر متجهاً إلى البحث عن الفلسفة من ناحية علاقتها بالشخص وتحولات الفهم لديه بحسب أطواره الفكرية والفلسفية.
ومن وجه آخر، في الحالة الأولى يكون النظر متجهاً إلى الجانب الثابت في الفلسفة، وفي الحالة الثانية يكون النظر متجهاً إلى الجانب المتغير، وفي الحالة الثالثة يكون النظر متجهاً إلى الجانب المتطور في ناحية الفهم.
وبمزيد من البيان، فإن الحالة الأولى المتعلقة بالفلسفة معرفة، فقد تكفلت بها أدبيات الفلسفة، وتحديداً كتب المقدمات والمداخل والتمهيدات ذات الطابع التعليمي والتثقيفي والإعدادي، التي أعطت الأولوية لتحديد ما هي الفلسفة، وبيان حقيقتها حداً ورسماً، أصلاً وأصولاً، واعتنت بتقديم تعريفات متعددة، اتخذت هذه التعريفات إجمالاً من العقل مرتكزاً، ومن طلب الحقيقة غاية، ومن الوجود موضوعاً، ومن العلل بحثاً وكشفاً.
وبالنسبة إلى الحالة الثانية المتعلقة بالزمن، فقد ظلت الحاجة تتأكد دوماً إلى الفلسفة، مهما تغيرت الظروف، وتبدلت الوضعيات، وتقلبت أحوال البشر والحياة والعالم. وضمن هذا السياق يتجدد السؤال عن: ما هي الفلسفة؟ لتأكيد علاقة الفلسفة بالزمن، حتى لا تنفصل عن الزمن، ولا ينفصل الزمن عنها.
الأمر الذي يعني أن الفلسفة تحتمل الجانب المرن حفاظاً على علاقتها بالزمن، ولتقريب الزمن ليكون في صفها متلمساً الحاجة إليها. واستجابة لهذه الحاجة أظهرت الفلسفة وظائف متعددة. ويأتي سؤال: ما هي الفلسفة؟ ويراد به هنا البحث عن وظائف الفلسفة المتجددة لتكون مواكبة للزمن وتحولاته.
وأما الحالة الثالثة المتعلقة بالشخص، فإن سؤال الفلسفة يتجدد مع الإنسان بحسب تقادم أطواره الفكرية والعمرية، ففي الأطوار الأولى يكون هذا السؤال بقصد تحصيل المعرفة به تعلماً أو تثقفاً، وفي طور آخر قد يأتي هذا السؤال بقصد التناظر جدلاً ونقاشاً مع وجود تعدد في المعاني والتصورات، وفي طور آخر أكثر نضجاً وتقدماً قد يأتي هذا السؤال بقصد تكوين فهم خاص يتفرد به الشخص أو يستقل به في مقابل المعاني والتصورات الأخرى.
ويصدق على هذا الطور الأخير، ما أقدم عليه جيل دولوز مع شريكه فليكس غتاري في كتابهما: (ما هي الفلسفة)، وظهر ذلك حين أشارا منذ السطر الأول في مفتتح مقدمة الكتاب قائلين: (لعلنا لن نتمكن من طرح السؤال: ما هي الفلسفة؟ إلا آجلاً، حينما تُقبل الشيخوخة وساعة الحديث بطريقة ملموسة.. كل ما في الأمر هو أن الساعة قد حانت لنتساءل عما هي الفلسفة. ولم ننقطع عن ذلك الوضع، كما أننا لم نكن نملك سابقاً الجواب الذي لم يتغير: إن الفلسفة هي فن تكوين وإبداع وصنع المفاهيم).
لذا فإن الطور الأخير، قد يكون بالنسبة إلى بعض، هو أخصب وضع فكري لفحص سؤال: ما هي الفلسفة؟!