مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

جميل الحجيلان بين البارودي والشهابي

محمد بن عبدالله السيف: الرياض

 


في العدد (544) من المجلة العربية، كتبتُ بروفايل عن السفير السعودي سمير الشهابي، وعن أبرز المهام والأعمال التي قام بها طيلة خمسين عاماً قضاها في السلك الدبلوماسي، في عدد من العواصم والمنظمات الإقليمية والدولية. ومن ضمن المهام التي كُلّف بها ترؤسه الوفد السعودي إلى هيئة الأمم المتحدة في نيويورك آخر عام 1979م، وذلك بعد وفاة السفير جميل البارودي،اللبناني الأصل والمسيحي الديانة، الذي عمل مندوباً دائماً للسعودية في الأمم المتحدة لمدة ثلاثين عاماً، وهو الرجل الدبلوماسي المخضرم، المتخصص بالكيمياء، والذي التقاه الأمير فيصل بن عبدالعزيز، وزير الخارجية آنذاك، وعهد إليه بهذه المهمة، وأصبح وجهاً دبلوماسياً معروفاً في أروقة هيئة الأمم المتحدة، واشتهر عنه قوته وصلابته، وعرف بفصاحته وخطابته، التي تأسر المستمعين لها. ومن غرائبه التي لا تنتهي، أنه قضى حياته الدبلوماسية وحيداً في غرفة أحد فنادق نيويورك، وكان الشائع لدى زملائه وأصدقائه ومنسوبي هيئة الأمم أنه غير متزوج.
ولكن بعد أكثر من عقد من الزمان ونصف اكتشف بعض زملائه أنه متزوج، وأن زوجته وأطفاله يقيمون خارج نيويورك، وكان يذهب إلى زوجته يوماً في الأسبوع! وحينما واجهه زملاؤه بمعرفتهم بأمر زواجه، ردّ عليهم بأن هذا شيء لا يعنيهم. ولعلي أفرد صفحات عن حياته ودوره الدبلوماسي في عدد قادم.

 

ذكرتُ أنه بعد وفاة جميل البارودي في مارس 1979م، عيّنت السعودية سمير الشهابي مندوباً دائماً لها في الأمم المتحدة، وقد فاتني أن أذكر أن هناك دبلوماسياً سعودياً رفيعاً قد صدر الأمر الملكي بتعيينه مندوباً للسعودية في هيئة الأمم، رغم أنني قد قرأت هذا الخبر وحيثياته وملابساته في مذكرات هذا الدبلوماسي العتيد، التي سترى النور قريباً، بإذن الله.
هذا الدبلوماسي الذي وجّه الملك خالد بن عبدالعزيز بتعيينه مندوباً دائماً للسعودية في هيئة الأمم المتحدة هو الشيخ جميل الحجيلان، الذي كان يعمل وقتها سفيراً للسعودية في فرنسا. وذات يوم من أيام مارس عام 1979م، بُعيد وفاة جميل البارودي، كان السفير الحجيلان مع الأمير سعود الفيصل في سيارته، مغادريْن قصر الملك خالد بن عبدالعزيز في طريقهما لوزارة الخارجية في الرياض. وكان الصمت مخيّماً على الموقف، فقطع الأمير سعود هذا الصمت ليقول للسفير الحجيلان إن الملك خالد أصدر أمره بنقلك إلى نيويورك مندوباً دائماً للمملكة العربية السعودية لدى منظمة الأمم المتحدة.
يقول جميل الحجيلان: (لم أعلق بشيء، نظراً لطابع المفاجأة الذي تم به نقل هذا الخبر. لم يحدثني أحد من قبل بهذا الأمر. ولم يؤخذ رأيي فيه، كأن الأمر لا يعنيني! استقبلتُ هذا الخبر بشيء من الاكتئاب، وسألت الأمير سعود عن دواعي هذا القرار فقال إنها رغبة خاصة من الملك خالد وقرار منه... لقد أسعدني أن أكون على هذا القدر من ثقة الملك وحسن ظنه فيّ. وأسعدني أيضاً أن يكون هذا الاختيار تواصلاً لما أسنِدَ إليّ من مناصب عالية. إلا أنني، كما قلت، استقبلت هذا الاختيار بشيء من الاكتئاب لسبب عائلي. كان الأبناء عماد وفيصل قد أنهيا لتوّهما تعليمهما الجامعي في أمريكا، وعادا إلى الرياض. وكنت أفكر جدياً بالاستئذان من حكومتي لإعفائي من عملي في باريس كي أعود إلى الرياض وأفتح مكتباً للمحاماة وأكون بذلك قريباً من أبنائي. لذا جاء قرار تعييني في نيويورك ليبعثر كل ما بنيته من آمال العيش مع أبنائي في الرياض).
يواصل الحجيلان قائلاً: (تملَّكتني الحيرة فيما يجب أن أواجه به قرار الملك خالد. ويبدو أن الملك الطيب، يرحمه الله، أراد أن يقطع عليَّ طريق المراجعة في الأمر فما كاد يمضي أسبوع على إبلاغي بهذا القرار إلا وكانت أوراق اعتمادي قد وصلت إليَّ في باريس، وصورة منها للأمين العام للأمم المتحدة في نيويورك. واتصل بي الأستاذ جعفر اللقاني، القائم بأعمال وفد المملكة لدى منظمة الأمم المتحدة، كي يخبرني أن التعليمات قد وصلت إليه بأن يعمل على تهيئة ما هو أساسي تمهيداً لوصولي إلى نيويورك).
***
حينما أصدر الملك خالد أمره في الثاني من أبريل 1979م، لم يكن قد مضى على عمل جميل الحجيلان سفيراً في باريس سوى عامين ونصف، تمكَّن خلالها من إنجاز عدد من المهام الموفقة في بناء علاقات واسعة مع عدد من المثقفين والإعلاميين ورجال الدولة الفرنسية. وإنفاذاً لأمر مليكه، وخدمة وطنه؛ قرر الحجيلان وزوجته أن يكون اليوم الأول من أغسطس موعداً لسفرهما إلى نيويورك، رغم ما اعتراه من حيرة وارتباك في أمر مفاجئ كهذا الأمر الذي سينقله من باريس إلى نيويورك، في مرحلة أخرى من مراحل الاغتراب الطويل.
غير أن رياح جميل الحجيلان جاءت بمراكبه إلى حيث ما يشتهي، فقد اتصل به الأمير (الملك حالياً) سلمان بن عبدالعزيز، وعلى غير انتظار منه، من منتجع مدينة (مربيا) في إسبانيا، ليسأل الأميرُ السفيرَ عن رأيه في تعيينه في نيويورك، وعما إذا كان مرتاحاً لهذا التعيين؟.
ردّ الحجيلان على سؤال الأمير الملك قائلاً: إن ثقة الملك خالد تشريف أعتز به، وأنا في طريقي إلى نيويورك.
فردّ الأمير، بما عُرف عنه من اهتمام ورعاية ومتابعة، قائلاً: أنا أعرف ذلك ولكن ما هو رأيك، بصراحة، هل تود البقاء في باريس؟
فقال الحجيلان: أنا لا أريد البقاء في باريس تعلقاً بباريس، فأنا منقول أيضاً لمدينة عظيمة ومنصب مهم، ولكني أعتقد أنه ربما كان في مصلحة العمل أن أبقى في باريس بعد ما بنيته من علاقات.
كان رد الأمير: إن شاء الله ما يصير إلا اللي يرضيك، ونحن قادمون إليكم بمعية سمو الأمير فهد، ولي العهد، بعد غدٍ إلى باريس.
يسرد جميل الحجيلان الموقف الذي كان مع الأمير فهد بن عبدالعزيز، ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء، أثناء زيارته لدولة فرنسا، قائلاً: (كان لدى الأمير فهد بن عبدالعزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء موعد مع الرئيس الفرنسي السيد فاليري جيسكار ديستان، في قصر الأليزيه في باريس. في السيارة التي أقلّت سمو الأمير فهد صباح اليوم المحدد لاجتماعه بالرئيس الفرنسي، وقد كنتُ معه، قال لي أنت تعلم يا أخ جميل بصدور أمر الملك خالد بتعيينكم في نيويورك، وقد اختارك أنت بالذات لهذا المنصب كأول سعودي يمثلنا في الأمم المتحدة، وأنا كان لي رأي في الموضوع، ولكني آثرت التريث، إلى ما بعد إرسال أوراق اعتمادك، كي أتحدّث مع الملك خالد، يحفظه الله، فقد كان حريصاً على اختياره لك. وقبل مغادرتي الرياض قادماً لباريس انتهزت المناسبة وتحدثتُ معه حول بقائك في باريس. وقلت له يا طويل العمر نحن لدينا عدة قنوات اتصال مع الأمريكان، سفارتنا في واشنطن، والسفارة الأمريكية في الرياض والأمير تركي الفيصل رئيس الاستخبارات العامة. ونحن في باريس ليس لدينا قناة اتصال مع الفرنسيين إلا الأخ جميل وصار عنده علاقات طيّبة مع الفرنسيين وأصبح معروفاً لديهم، لو تأمرون توافقون على بقائه في باريس ونحن إن شاء الله نشوف شخص آخر لنيويورك، وأن الملك وافق على ذلك.
شكرتُ سمو الأمير فهد رحمه الله على ما تفضل به عليّ شكراً يتناسب مع ما شعرتُ به من راحة وانفراج نفسي).
ويذكر جميل الحجيلان، في سيرته المنتظرة، أن رئاسة الجمهورية الفرنسية، من خلال مصادرها الخاصة، كانت على علم بصدور أمر نقله من باريس، وتعيينه مندوباً دائماً في الأمم المتحدة.
ويضيف أن الأمير نايف بن عبدالعزيز، وزير الداخلية، كان على موعد مع الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان، أثناء زيارته الرسمية لفرنسا، بعد زيارة الأمير فهد لها. وخلال اجتماع الأمير نايف مع الرئيس الفرنسي في قصر الأليزيه لتناول الشاي التفت الرئيس الفرنسي إلى جميل حجيلان وقال، ملاطفاً: إذن، السيد السفير ستبقى معنا؟ وقبل أن يجيب خاطب الرئيس الفرنسي الأمير نايف بقوله: إنني أشكر حكومة المملكة العربية السعودية على إبقاء السفير لدينا. فأجابه الأمير نايف قائلاً: الواقع نحن في حاجة للسفير للعمل داخل المملكة ولكننا أبقيناه في فرنسا نظراً لعلاقتنا المُتميّزة معكم.
يختم السفير جميل الحجيلان مُعلقاً على كل ما دار وصار: (حمدتُ الله على ما قضى به من تغيير، وعاد إليَّ هدوء نفسي، واستأنفت نشاطي في باريس بعد ما مررتُ به من مشاعر الارتباك بل والجزع مما كنتُ فيه. وما زلتُ أحتفظ بأوراق اعتمادي الموجَّهة للأمين العام للأمم المتحدة السيد كورت فالدهايم، واحدة من الوثائق التي سجلت تاريخ مسيرتي في خدمة بلادي).

ذو صلة