مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

أحمد الطباع.. الطبيب الأول للعظام

د.عبدالكريم إبراهيم السمك: الرياض

ما إن تم تأسيس هذه البلاد على يد مؤسسها الملك عبدالعزيز -رحمه الله- حتى وضع د. محمد حمدي حمودة مشروع بناء إدارة الشؤون الصحية من أجل مكافحة الأمراض الوبائية من حُميات وغيرها، وقد تأسست مديرية للشؤون الصحية سنة (1343هـ/ 1925م)، على أن يتولى إدارتها الدكتور بنفسه.
ثم بدأت الدولة في الانفتاح على نجاحات الدول المتقدمة في مجال الصحة، فدفع الملك عبدالعزيز بالأطباء العاملين لديه في التواصل مع المنظمات الصحية الدولية، وبخاصة هيئة الصحة الدولية، وهيئة مكافحة الأمراض الوبائية والحميات، ومقرها باريس. ولم يقف الملك عند هذا، فقد استقدم أطباء من أهل الاختصاص، للنهوض في القطاع الصحي تجاه الأفضل، فحرص على أن يكون في المملكة أطباء من ذوي الاختصاصات المتنوعة، وكان من هؤلاء الدكتور أحمد شاهر الطباع، المتخصص الذي وصل إلى المملكة في سنة (1359هـ/ 1940م)، ليعمل في مجال تخصصه في جراحة العظام.

ولادة الدكتور أحمد الطباع وأسرته
ينتسب الدكتور الطباع إلى أسرة الطباع الدمشقية، ومعظم آل الطباع في بلاد الشام يعودون لهذه الأسرة الكريمة، وهم يعودون في نسبهم إلى محمد بن عيسى بن نُجيح الطباع البغدادي (224هـ/ 838م)، وقد نزح البعض منهم لدمشق واستوطنوا حي القنوات، منذ مطلع القرن العاشر الهجري، وقد كبرت الأسرة وتنامت، وكانوا أهل علم وتجارة، وقد أشارت مصادر الدولة العثمانية، إلى أن أحد سلاطين الدولة العثمانية، أوقف للشيخ جلال الدين الطباع قرية الديماس في غوطة دمشق، وقد أشارت هذه المصادر، إلى أن أبناء هذه الأسرة من الأجداد للأحفاد، أُوكل إليهم مهمة (الصرة أميني) -أمين المال-، والذي كان يُرسل من السلطان العثماني لمرافقة قافلة الحج الشامي والإنفاق عليها. وفي باب التجارة، فقد كان عثمان بن محمد الطباع، من أبناء القرن الحادي عشر للهجرة (شيخ التجار) في دمشق، وخلفه من بعده ابنه الشيخ بكري بن محمد عثمان، وعلى هذا الحال، فقد كانوا من أبناء الوجوه الدمشقية المجتمعية، وقد برز نشاط هذه الأسرة في مسارين في الوسط الدمشقي، الأول: العلم، والثاني: التجارة. ومن العلوم التي دخلت على الأسرة علم الطب، فبرز فيها نخبة من أبنائها. وفي دمشق هناك أسرة ثانية، تحمل اسم الطباع تسكن في الشاغور، ولا صلة لهم بأسرة الدكتور أحمد شاهر الطباع، المولود سنة (1906م) والمتوفى سنة (1978م).

د. الطباع في مؤتمر الصحة الدولية في جنيف عام 1973

نشأته التعليمية ودراسته للطب
في مدينة دمشق موطن ولادته ونشأته التحق الدكتور أحمد في مدارسها، وفيها درس جميع المراحل التعليمية، ومنها حصل على الثانوية العامة، والتحق بكلية الطب في دمشق، وبعد حصوله على درجة الليسانس في الطب، سافر إلى فرنسا بنية التخصص في الجراحة العظمية، وعاد إلى سوريا حاملاً هذا التخصص، وبعدها قصد العراق ليعمل فيها، فأمضى فيها عامين من العمل.
وفي الرياض أدرك عم زوجته الدكتور رشاد فرعون -وهو أخ والد زوجته (محمد صبري الطباع) من أمه- حاجة المملكة لتخصصه في جراحة العظام، فطلب منه القدوم للعمل في المملكة، فنزل على طلب الدكتور رشاد، لكنه قبل توجهه للسعودية تزوج من ابنة عمه نهلة ابنة محمد صبري الطباع، المتوفاة في يوم الثلاثاء 17 / 3 / 2015م في عمَّان، وبعد زواجه سافر عبر بغداد قاصداً المملكة العربية السعودية، فوصل الرياض سنة (1359هـ/ 1940م).

عندما كان مسؤولاً عام 1970

الدكتور أحمد الطباع وزوجته في مجلس الملك عبدالعزيز
كان والد نهلة تاجراً، فقد قصد هو وموسى فرعون نجداً عبر عمَّان، بقصد تجارة الإبل، وقد كان لصبري الطباع والد نهلة نشاط عسكري وسياسي ضد الفرنسيين والإنجليز في بلاد الشام، فترتب على هذا الأمر ملاحقة الحكومتين له رسمياً، وعند وصوله نجد علم الملك عبدالعزيز بملاحقة الفرنسيين والإنجليز له، بعد مشاركته في معركة ميسلون في ( 24 / 7 / 1920م)، فطلب الملك منهما البقاء والإقامة في جواره، ودامت تلك الإقامة ثلاث سنوات.
وفي العودة للحديث عن استضافة الملك عبدالعزيز للدكتور أحمد وزوجته عند وصولهما للرياض، فقد أحسن الملك رفادتهما، وعند لقاء نهلة زوجة الدكتور أحمد بالملك عبدالعزيز، جاءت على ذكر أبيها وحسن ضيافة الملك له حين أقام في جواره ثلاث سنوات، وروت في مذكراتها ما قاله لها الملك عبدالعزيز، حين كانت حاضرة في مجلسه ممازحاً لها: لماذا أنت ضعيفة؟ فأجابته: أنا شق التوأَم لأبي، فرد عليها الملك: (ليتْ أبوك وزوجك يعطونك كل واحد منهم بعض اللحم لكِ)، قالها وهو يبتسم.
وقد حظيا في هذا المجلس بكرم الوفادة والاستضافة والترحيب من الملك رحمه الله، وبعدها تم تكليف الدكتور أحمد بالسفر إلى مكة المكرمة، ليباشر عمله فيها في مجال تخصصه، وقد أقام فيها أربع سنوات، وكان ممن زامله في مكة في العمل كل من الأطباء: الدكتور تيسير رومي، والدكتور أديب جبالي، والدكتور حسن الطاهر، والدكتور نعمان المفتي، والدكتور قباني، والدكتور محمد علي الشواف طبيباً للعيون، وبعدها أدرك الملك ضرورة وجود الدكتور أحمد في الرياض، فتم استدعاؤه للعمل فيها، وعند وصوله تم تكليفه بعمل أول وحدة صحية في الرياض، والتي عرفت بـ(الصحية) في شارع الوزير عند تقاطع الثميري مع الوزير.
وكان هو الجراح الوحيد في الرياض، حيث كان يعمل العمليات بـ(الصحية)، في غرفة ترابية، وكان أكثر ما يعانيه العمليات الجراحية في رمضان، حيث أشارت زوجته في مذكراتها بأنه كان يتصبب عرقاً من شدة الحرارة في فصل الصيف، حيث لا وجود للمكيفات والمراوح في ذلك الوقت من الزمن، ومن الأطباء الذين التقاهم في الرياض: الدكتور مدحت شيخ الأرض، طبيب الملك، وكل من الأطباء: الدكتور رشاد فرعون -عمُّ زوجته-، والدكتور أديب عنتابي، والدكتور بشير عبيد، وكل واحد منهم له مركزه في عمله طبيباً.

الطباع في  كلية الطب عام 1934 في دمشق

بعثات طبية علاجية في أرياف نجد
وجد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - أن كثيراً من أبناء القرى النجدية، يقصدون الرياض للعلاج، فأصدر الملك توصياته بإنشاء بعثات طبية علاجية تزور مناطق وقرى ومدن نجد، وتم تشكيل البعثة بقيادة كل من الدكتور أحمد الطباع طبيب جراحة عظمية، والدكتور محمد علي الشواف طبيب العيون، مع مساعدَين هما: يوسف عابد، وكمال يوسف، واثنين من الممرضين السودانيين: بكر وعبدالله. وكُلف هذا الفريق بالمهمة التي أوكلت إليه، في تفقد أوضاع الناس الصحية، وعلاج المحتاجين للعلاج والرعاية الطبية لهم، ومثل هذه البعثات العلاجية كانت تستغرق من الوقت قرابة الشهرين والثلاثة شهور في زياراتهم للمناطق الريفية.
ويشير الدكتور أحمد الطباع بأن العمليات الجراحية كانت تتم في البيوت، بعد أن يتم تغطية جدران المنزل وسقفه وأرضه بالقماش الأبيض لمنع تناثر الغبار بهدف تعقيم الغرفة التي سيتم فيها العمل الجراحي، ويشير الدكتور أحمد إلى أن بعض العمليات كانت تتم على أنوار السيارات.
وعلى واقع إشاعة وصلت للملك عبدالعزيز عن وجود مرض وبائي في شمال المملكة، أصدر الملك عبد العزيز على الفور أمراً بإرسال بعثة طبية جواً، للوقوف على الأمر، كما أصدر توجيهاً لوزير الصحة والداخلية الأمير عبدالله الفيصل -رحمه الله- لمتابعة الأمر بتاريخ 16/ 2/ 1373هـ، الموافق 4/ 11/ 1952م، وجاءت تقارير البعثة الطبية للملك عبدالعزيز بأنها سلبية، بعيدة عن أي مرض وبائي، وأن الأمر لا يتجاوز أن يكون نزلات برد.
ومن الأعمال التي قام بها الدكتور أحمد  الطباع أنه كان عضواً في المجلس الاستشاري لبناء مستشفى الشميسي، وقد أصدر ولي العهد سعود بن عبدالعزيز أمراً بإنشاء مستشفى كبير يتسع لـ(400) سرير، وتبرع سموه بالأرض بعد شرائها، وهي الأرض القائم عليها المستشفى اليوم.
وفي الحديث عن مهام الدكتور الطباع، فقد تم تكليفه كملحق صحي- استشاري- في السفارة السعودية في لبنان وذلك بقصد إرشاد المرضى السعوديين وتقديم المشورة لهم، وقد أقام مدة ثلاث سنوات في بيروت.
والذي يتابع مسيرة الدكتور الطباع يجد بأنه عاش على رأس عمله قرابة الخمسة عقود، قضاها في العديد من المهام التي تحقق له النجاح فيها، وقد وجد فيه القائمون على الشؤون الصحية، وبما يتمتع فيه من مكانة علمية ودولية، فقد تم تكليفه مديراً للصحة الدولية في المملكة، فقبل التكليف الذي أُوكل إليه، وقد أحسن من اختاره لهذا الأمر، فقام به على الوجه المطلوب، وقد سمت مكانته بنجاحاته عند القائمين على وزارة الصحة، فتم تكليفه من جديد في الإشراف الصحي على شؤون الحج الصحية، وقام بهذه الإدارة الصحية في الحج لعدة سنوات، وذلك بسبب نجاحاته في هذه الإدارة.
والدكتور الطباع بصفته مسؤولاً رسمياً عن الحج، فقد كان في نهاية كل حج، هو من يخرج على التلفاز السعودي، ليقدم البيان المعني في الشأن الصحي لموسم الحج، وفيه يتوجه إلى العالم الإسلامي والعالم أجمع، مهنئاً الجميع على نجاح موسم الحج وسلامة الحجيج.

تكريم  الدكتور أحمد الطباع
في أول لقاء للدكتور أحمد حظي هو وزوجته بتكريم الملك عبدالعزيز لهما، كما سبقت الإشارة لذلك، ولم يقف الملك عبدالعزيز عند هذا، فقد تم منحهما الجنسية السعودية. وعلى واقع وفاة الدكتور أحمد  سنة 1978م، في عهد الملك خالد، أمر الملك خالد -رحمه الله-، بعوائد سنوية تقدم لأسرته وبشكل دائم، تكريماً ومبرة ووفاءً لأبيهم الدكتور أحمد الطباع على خدماته التي قدمها للمملكة في مسيرة خمسة عقود عاشها في المملكة طبيباً تاركاً أجمل الصور والذكريات، في خدماته الطبية، حتى نال شرف التكريم هذا هو وأسرته، وقد أشارت زوجته السيدة نهلة في مذكراتها لهذا التكريم الذي حظيت به أسرتها من الملك خالد -رحمه الله.

 

ذو صلة