مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

كامل القصاب

كامل القصاب.. ولبنات التعليم الأولى

د.عبدالكريم إبراهيم السمك: الرياض

برقية من الملك عبدالعزيز  إلى الشيخ كامل القصاب في فلسطين


في قرية العقيبة التي تبعد عن دمشق قرابة (50) كم، ولد الشيخ كامل القصاب، وذلك سنة (1290هـ - 1875م)، وهو في أصوله يرجع إلى مدينة حمص، وكان والده قد غادرها قاصداً استيطان قضاء دمشق، حيث ولد الشيخ، ففي موطن مولده عاش وترعرع، وليس فيها تعليم ولا مدارس أو ما شابه ذلك، فاهتم بنفسه لنفسه، فطلب العلم في القرية، واعتكف في غرفة من غرف المسجد في القرية، فحفظ القرآن وتعلم علوم الإسلام والسنة واللغة العربية بنفسه فيها، فتوسعت آفاق العلوم عنده، الأمر الذي دفعه للهجرة إلى مدينة دمشق واستيطانها، وفي دمشق انخرط في وسطها العلمي والتعليمي، وتم له افتتاح المدرسة الكاملية، وفيها مارس التدريس، كما شاركه في التدريس الكثير من الشباب الدمشقي، ومنهم د.عبدالرحمن شهبندر وعبدالوهاب الإنجليزي.. وغيرهم الكثير ممن لم تحضرني أسماؤهم، وكانوا يتمتعون بأهلية علمية أهلتهم للتدريس في المدرسة. والمدرسة في مسماها التي حملته جاءت على اسم الشيخ نفسه. ومن عطاء إدارته لمدرسته هذه برزت شخصيته في الرسالة التعليمية وتعميمها في دمشق.
ونتيجة لانخراطه في مناهضة سياسة التتريك التي سار عليها صبية الأتراك الانقلابيين، من الطورانيين، إضافة لما سبق في مناهضته للسياسات الاستعمارية الإنجليزية والفرنسية؛ فقد ذهبت السلطات التركية في ملاحقته لنشاطه السياسي هذا، فاستطاع التفلت في دمشق من أي مساءلة في هذا الجانب، وقصد السفر إلى الحجاز بقصد الحج، ومن خلال سفره هذا، سيكون له شأن في الوسط السياسي على الساحة العربية، وفي مكة أراد أن ينهض بالتعليم فيها، فاصطدم مع سياسة الملك حسين، الذي كان يحارب التعليم، لأنه كان يرى في مسألة التعليم ضرباً من ضروب وعي الناس وتثقيفهم، مما سيترتب عليه انهيار دولته، فهو يرى في مسألة التعليم سبباً من أسباب انهيار الدولة العثمانية، وذلك عندما مكنت الدولة الشعب التركي في طلبه للعلم، فافتتحت المدارس وتوسعت في علومها، وغدت عاصمتها مقصداً لطلب العلم من قبل أبناء العرب، فجاء هذا الاهتمام بالتعليم ليكون سبباً من أسباب انهيار الدولة العثمانية، على حد زعم الشريف حسين، فقد اصطدمت أفكار الشيخ في مسألة التعليم مع محاربة الشريف حسين لهذه السياسة ، وأمام هذا خرج الشيخ من الحجاز قاصداً مصر، بسبب عدم ثقته بالشريف حسين، وخوفاً منه في أن يدبر له أمراً بقتله.
وقد أدركت الوفاة الشيخ في بلده دمشق الشام، وذلك بعد عودته لها من دار إقامته مدينة يافا في فلسطين، حيث زامل فيها الشيخ عز الدين القسام، وكان الاثنان ينميان في قلوب الفلسطينيين روح الجهاد ضد الإنجليز الذين كانوا هم السبب المباشر في الهجرات اليهودية إليها، والسبب في تهويدها، ولم يطل الأمر بالشيخ القسام فقد واجه الإنجليز في معركة مباشرة في أحراش يعبد، واستشهد في هذه المعركة، وذلك سنة (1935م)، وكان لخبر استشهاد الشيخ القسام أن تشهد فلسطين ثورة (1936م)، حيث عمّت الثورة جميع مناطق فلسطين، وغادر الشيخ كامل فلسطين إلى سوريا قاصداً دمشق، وفي دمشق أنشأ رابطة علماء المسلمين فيها، واستلم رئاستها، وبعد فترة استقال من الرئاسة، واعتكف في منزله رحمه الله، وبقيت ذاكرته في تاريخ ماضيه السياسي والعلمي، في كتب تاريخ العرب وسوريا، كعالم مجاهد خدم تاريخ أمته وبلده في مناهضة الاستعمار، والنهضة العلمية من خلال التعليم لأبناء هذه الشعوب العربية، وبخاصة منها شعب المملكة العربية السعودية.

السياسة التعليمية للشيخ كامل في الحجاز بين عهدين
وتلك هي القصة كما أفاد بها الشيخ كامل القصاب للصحفي أمين سعيد، وذهب بالذي سمعه، ونشره في مجلته الشرق الأدنى التي تصدر في مصر، وفي العدد الأول من المجلة، الصادر في 1 أكتوبر 1927م، ووثقت صحة هذه الرواية جريدة أم القرى في أعداد متتابعة، ابتدأت في العدد (90)، من السنة الثانية (25 /2 /1345هـ - 3 /9/ 1926م)، وابتدأت القصة بحديث الشيخ كامل لأمين سعيد عن أول زيارة قصد فيها الشيخ مكة في عهد الشريف حسين.
قصد الشيخ كامل الحجاز فاراً من سياسة جمال باشا، وفي الحجاز ظن بأن الشريف حسين سيبارك له جهوده في دفعه للعمل بتأهيله التعليمي في مكة المكرمة، وقد افتتح مدرستين في مكة، وفيهما التحق أبناؤها، وفي ذات يوم أراد أن يقدم للشريف حسين شيئاً من إطلاعه على المسيرة التعليمية التي تعيشها مكة من خلال رسالته -أي الشيخ، وكان قد أعد حفلاً يحضره الشريف حسين، وتخلل الحفل عرض مسرحية قام بها الطلاب في المدرسة، وعندما شاهد الشريف حسين المسرحية، أمر بإيقافها فوراً وإغلاق المدرستين، عندها أدرك الشيخ كامل لما يعرفه عن طبيعة الشريف حسين أن وجوده في مكة يمثل خطراً على حياته من قبل الشريف حسين، وذلك بعد أن أسمعه بعد طلبه منه إغلاق المدرستين، عبارة: (أنتم يا الشوام الترك ما قدروا عليكم)، وبعد هذا الموقف، أبرق الشيخ كامل لأخيه الشيخ محمد رشيد رضا في مصر برقيةً، يطلب منه فيها أن يرسل له برقية على أن أهل بيته بحاجة له، حتى يحيط الشريف حسين علماً بضرورة سفره إلى مصر للوقوف على حال أسرته، وقصد الشيخ مصر بعد وصول البرقية، وخرج من الحجاز ولم يعد لها ثانية، إلا بعد بعد توجيه الملك عبدالعزيز الدعوة له بالسفر إلى مكة، بقصد حضور مؤتمر إسلامي دعا إليه الملك عبدالعزيز علماء المسلمين ، فقصد الشيخ مكة المكرمة، وحظي هو وإخوانه العلماء المدعوون بتكريم الملك لهم، وذلك سنة (1345هـ - 1927م).
قصد العلماء المدعوون الحج من خلال هذه الدعوة، ولدى حجهم شاهدوا ترتيبات الحج وأعماله، مع تأمين سبل الراحة للحجيج، وفي تحريم البدع التي استحدثت في الحج، كضرب الدفوف والأبواق وغير ذلك من المحرمات التي منعها الحكم الجديد، فأقروا جميعاً للملك عظيم أعماله وأفعاله في سياسة الترشيد للحج الصحيح الذي يقوم على منهج النبوة، ولم يقف الأمر عند هذا، بل أوقفهم على عدد من القضايا التي تهم الحاج في حجه وزيارته لهذه البلاد، وكانت على الشكل التالي: الأمن الذي كان معدوماً في عهد الأشراف، ونشر المراكز الصحية، وتوفير المياه، وغير ذلك من القضايا التي تخدم الحاج من يوم وصوله إلى يوم مغادرته، وانتهى المؤتمر على مباركة علماء المسلمين للملك عبدالعزيز بسدانته الحرمين الشريفين.
وفيما يخص السياسة التعليمية في الحجاز، فلم يكن الشيخ كامل يدور في خلده بأن الملك عبدالعزيز، سيكلفه في بناء هيكلة وإدارة التعليم في الحجاز، ولإيمان الشيخ كامل بمكانة الرسالة التعليمية في نهضة الأمم، فقد قبل التكليف تلبية لطلب الملك عبدالعزيز رحمه الله.

التعليم في الحجاز
إدارة التعليم في الحجاز واحدة من الإدارات التي اهتم فيها الملك عبدالعزيز، حتى هيأ الله له الشيخ كامل القصاب، فهو صاحب دراية في بناء المؤسسات التعليمية، بسبب ماضي خبرته في هذا الجانب، وكانت الدولة بحاجة إلى كوادر متعلمة، وبالعلم يتحدد مستقبل أي دولة من الدول، والملك عبدالعزيز يريد أن يتجاوز المرحلة التي هو فيها تجاه مستقبل أفضل، بعد أن فرض عليه واقع التوحيد هذا الانفتاح على العالم رسمياً، ودخلت دولته في نادي الدول الحرة، بعد الاعترافات الرسمية التي انهالت على الدولة الوليدة، فجاء هذا الواقع النهضوي لبناء المواطن الذي هو أساس بناء الوطن، فقد فتح الملك عبدالعزيز كل الأبواب على الشيخ كامل لينطلق برسالة التعليم، فبعد نجاحها في الحجاز، سوف يذهب الملك عبدالعزيز لتعميمها على كل مناطق المملكة.
هذا وقد وثقت جريدة أم القرى، كل ما هو معني بمسألة التعليم والرعاية الملكية له، ومنه المرسوم السامي بتكليف الشيخ كامل القصاب، وحملت الأعداد التالية، (90 /91 /92 /97) إفادات وبيانات عن أخبار الإدارة التعليمية ونشاطها ونجاحاتها، فالعدد (90) حمل خبر وصول الشيخ كامل لمكة للاجتماع بنائب الملك على الحجاز والتشاور معه في موضوع السياسة التعليمية، والعدد (91) حمل خبر مقالة للشيخ كامل عن التعليم في الحجاز، أما العدد (97)، فقد حمل خبر صدور أمر سامٍ من الملك عبدالعزيز بتشكيل نظام الهيئة التعليمية، وحمل الأمر السامي في سياق العرض بندين: الأول يقضي بتشكيل الهيئة التعليمية برئاسة قاضي القضاة ابن بليهد، وبمعيته عدد من الأسماء من أصحاب الأهلية العلمية والوظيفية؛ والبند الثاني من المرسوم الملكي يتضمن الإشراف على الدروس في الحرم المكي. والعدد (92) حمل خبر موافقة مجلس الشورى على البرنامج الذي قدمه الشيخ كامل عن السياسة التعليمية.

النهضة التعليمية في الحجاز
من خلال مجلة الشرق الأدنى كان لأمين سعيد الشأن الكبير في تقديم صورة النهضة العامة في المملكة، وكان للتعليم شأن على صفحات هذه المجلة، وكما سبق وتمت الإشارة، فقد كانت هذه المجلة الصوت الإعلامي الوحيد الذي اعتنى بأخبار الملك عبدالعزيز وأخبار مملكته.
أما فيما يخص الإفادة التي أملاها الشيخ كامل على أمين سعيد، فقد تم نشرها في العدد الأول من المجلة، وكان فاتحة خير في أخبار المملكة، وقد صدر في (1 أكتوبر 1927م)، وفيه قال الأستاذ الشيخ: إنه لم تكن في الحجاز معارف قبل العهد الجديد، وإن الحكومة الحاضرة خصصت في ميزانية السنة الماضية (3800) جنيه للمعارف، ثم زادتها (2200) جنيه، أنفق منها لتجديد الأدوات وإصلاحها (1300) جنيه فقط.
وأنشأت مديرية المعارف في السنة الماضية مدرسة ابتدائية وأربع مدارس تحضيرية في مكة، ومدرسة ابتدائية واحدة، ومثلها تحضيرية في كل من جدة والمدينة المنورة، ومدرسة ابتدائية ذات أربعة صفوف في كل من الطائف وينبع والوجه، وفتحت في قرى جدة ثلاثة كتاتيب، وزادت رواتب المديرين والمعلمين لتتناسب مع جهودهم.
ويبلغ عدد التلاميذ في هذه المدارس نحو (1200) تلميذ، منهم (400) في مكة، و(290) في جدة، و(150) في المدينة، وينتظر أن يزيد عددهم في العام الدراسي الجديد، فيبلغ الألفين، وأنشأت أيضاً المعهد الإسلامي السعودي في مكة، ليكون منهلاً عذباً لطلاب العلوم الدينية وعلوم اللغة العربية والرياضيات وسنن الكون الطبيعية والعلوم الاجتماعية، وافتتحت الحكومة فيه صفين حتى الآن، وفيه قسم ليلي تلقى فيه الدروس والمحاضرات.
وفي المسجد الحرام بمكة عشرة مدرسين تابعين للمعارف، يتناول كل منهم راتباً كافياً، وهم يلقون الدروس على الطلاب بشكل حلقات، فيدرسون في الصباح التوحيد والتفسير والحديث وفروع الفقه وأصوله على المذاهب الأربعة، ويدرسون بعد الظهر العلوم العربية، من نحو وصرف وغيره، ويعظون الناس من صلاة المغرب إلى العشاء، وفي الحرم المدني أيضاً مدرسون كهؤلاء.
وقد أُدخل تعليم اللغة الإنجليزية في مدرسة جدة هذا العام، ويفكرون بتأسيس مدرسة لتعليم البنات في مكة، إذ لا توجد مدارس للبنات فيها، والكتاتيب أنشئت إنشاءً جيداً وجديداً، لتكون مطابقة للنظام الصحي الحديث، بحيث يجلس التلاميذ اليوم على مقاعد خشبية، بدلاً من تلك الحصر البالية، والشروط الصحية مستوفاة في الدور الجديدة والمباني.
وقد أمر جلالة الملك بتشييد مدرسة في الرياض لنحو 300 تلميذ، بوشر بإنشائها، وربما تفتح قريباً. وختم الأستاذ -أي الشيخ كامل- حديثه للمجلة بقوله: وفي استطاعتي أن أقول لكم بأن حركة التعليم في الحجاز تسير بخطى واسعة بفضل مساعدة جلالة الملك، وسهره على كل ما يرتقي بشعبه ويسمو به.

الأول من اليمين شكيب أرسلان ،الشيخ كامل القصاب ، إحسان الجابري، شكري القوتلي، في حفل الشاي الذي أقامته لهم محافظة مدينة دمشق سنة 1937م

الشيخ كامل في فلسطين
بعد أن وضع كل شيء في موضعه، ورسم خطوط بناء السياسة التعليمية في المملكة واطمأن لنجاحها؛ قصد العيش في فلسطين، إلى جانب أخيه الشيخ عز الدين القسام رحمه الله في يافا، وتعاون الاثنان على تأليف كتاب تحت عنوان (السلفيون وقضية فلسطين)، وكان الشيخ كامل يتنقل بين سوريا وفلسطين في عيشه، ومن خلال وجوده في فلسطين، كانت هناك رسائل بينه وبين الملك عبدالعزيز، وكان الملك عبدالعزيز في رسائله للشيخ كامل يخاطبه بالأخ كامل، وقد حوت أعداد أم القرى أخباراً عن وصول الشيخ كامل مع شكري القوتلي على الباخرة (ساسري) الإيطالية، وفي العدد (663) قدم الشيخ كامل وبرفقته المهندس خالد الحكيم، حيث تشرفا بالسلام على نائب الملك في الطائف، وكانوا قادمين من مصر، وفي العدد (631) قدم الشيخ كامل مع وفد فلسطين، وكان برفقته عوني عبدالهادي، ومعين بك الماضي، وزار الوفد الرياض والتقوا بالملك عبدالعزيز أثناء إقامتهم فيها عدة أيام، ثم عادوا لفلسطين بعد وداع الملك عبدالعزيز. فالصورة للشيخ كامل تثبت أنه وحتى وفاته رحمه الله كان على صلةٍ دائمة بالملك عبدالعزيز.
وطويت سيرته رحمه الله بوفاته في بلده دمشق، وفيها قضى في خدمة أمته في قضاياها الوطنية قرابة نصف قرن، وحفظت لنا ذاكرة تاريخ المملكة العربية السعودية هذه الصورة عنه في صدق وفائه وولائه لها ولشعبها ولمليكها الملك عبدالعزيز آل سعود رحمهما الله تعالى.

ذو صلة