مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

عبدالله السليمان الحمدان

عبدالله السليمان الحمدان
35
عاماً مع المؤسس
وزير المال الأول

 

د. عبدالكريم إبراهيم السمك: الرياض

 

الوزير ابن سليمان مع مصطفى النحاس باشا رئيس الحكومة وطلعت حرب عام 1936م


توفرت لدى الملك عبدالعزيز العديد من عوامل النجاح في سياسته التي اتبعها في بناء الدولة، فكان منها وضوح الرؤية والثقة بالنفس، والقدرة على الحوار، خصوصاً أن الملك لديه مشروع بناء دولة، فحافظ في سياسته على شعرة معاوية فيما بينه وبين الآخرين، ويلحق بما سبق سنام الأمر في سياسة النجاح عند الملك، هو حسن اختيار الرجال وتأهيلهم وفق الرؤية التي يسير عليها، وتحقق للملك في الاختيار ما يريد، وكان من هؤلاء، الشيخ عبدالله السليمان الحمدان -رحمه الله- الذي لازمه في خمس وثلاثين سنة، خلدت ذاكرة التاريخ السعودي اسمه بحروف من ذهب.

المولد والنشأة
في مدينة عنيزة من أعمال القصيم، كان مولد الشيخ عبدالله السليمان، وذلك بتاريخ (1302هـ - 1885م)، ويشير خير من كتب عنه رحمه الله، المؤرخ والأخ الفاضل عبدالرحمن الرويشد رحمه الله، بأن أسرته كانت تقيم في الدرعية، وبعد الخراب الذي نزل فيها سنة (1233هـ - 1818م)، قصدت القصيم واستوطنت عنيزة، واستقرت فيها، وآل حمدان منتشرون في الكثير من قرى ومدن نجد، وفيما هو معني بطلب الشيخ للعلم، فقد تتلمذ في نشأته في الكتاتيب والمساجد، وكان هو النظام التعليمي السائد في ذلك العصر، حيث لم يكن هناك مدارس متوفرة، وكان في نشأته متفتحاً ونبيهاً وذكياً، ولديه رغبة عالية في طلب العلم، فكان لهذه القدرات التي اتصف فيها وعرفت فيه، أن تنمي لديه قدراته في طلب العلم، فيما يساعده في حياته المستقبلية التي يصبو إليها، مثل القراءة والكتابة وعلوم الحساب، فكانت هذه بداية النشأة الأولى في حياته، كما كانت أساساً في رسم مستقبل حياته العامة.
وهنا لابد من الإفادة والإشادة في أبناء القصيم، فالناشئ من أبنائهم، يعيش وكله أمل في طرق باب التجارة فيما هو خارج حدود نجد، فما يسمعه الناشئة من آبائهم، عن أبناء موطنهم ونجاحاتهم في التجارة، تجعل كل شاب ناشئ متلهفاً لبلوغ السن الذي يؤهله للسفر خارج موطنه بقصد التجارة وكسب الرزق، وجرياً على هذه العادة الكريمة عند أبناء القصيم، فقد غادر الشيخ عبدالله عنيزة قاصداً البحرين، حيث كانت البحرين يومها جسر عبور إلى الهند لمن يقصدها. فهذا التواصل مع العالم الخارجي، كان عاملاً مباشراً في انفتاحهم على العالم الذي سيعيشون فيه في دار غربتهم، سواء كان ذلك في الهند، أم بلاد الشام والرافدين، أم مصر وما جاورها.
وهنا لابد من الإشارة بما وقفت عليه في تاريخ هذه الطائفة من أبناء نجد، فجميعهم على السواء أصحاب خصوصية واحدة كريمة، من حيث مساعدة بعضهم البعض، فالمقيم منهم في دار هجرته بابه مفتوح لمن يفد إليه من أبناء موطنه، سواء في الإقامة أو طلب المساعدة أو العمل، وفي هذا الجانب، ضرب النجديون أروع الأمثلة في مساعدة بعضهم البعض، وقد كُتب في هذا الموضوع العديد من الكتب والدراسات، تحت مسمى (العقيلات)، وجميع الدراسات تكلمت عن طيب خلقهم، وحسن معاملتهم ووفائهم لبعضهم البعض، وقلَّ أن تشهد مذمة في أحدٍ منهم، فكانوا بما جبلوا عليه، في طيب المعاملة وحسن الأخلاق، كما لو أنهم سفراء رسالة لموطنهم الذي قدموا منه، وقد كانت دور هجرتهم، من أفضل الوسائط التعليمية في قضايا متعددة ومتنوعة، كالعلاقات العامة والنجاحات التجارية، إضافة لتعلم لغات الموطن الذي يعيشون فيه، فساكن الهند منهم تجده يتكلم الأوردو والإنجليزية وقليلاً من الفارسية.

من عنيزة إلى بومباي
قصد الشيخ عبدالله السليمان، البحرين وهو ابن خمس عشرة سنة، وهو السن المرغوب عند بلوغ الناشئ للهجرة سعياً في طلب الرزق، فقد كانت البحرين يومها جسر السفر إلى الهند، حيث قصد بومباي بعد إقامة غير مطولة في البحرين، وكانت بومباي قبلة أهل نجد وأبناء نجد في التجارة، فقد كانت مركزاً مالياً وتجارياً دولياً، كما كانت مقصداً لطلبة العلم الشرعي من أبناء نجد، وهي في مكانتها قاعدة صلة وتواصل مع داخل الهند وخارجها في نشاطها المالي والتجاري، وكان في بومباي عدد من البيوتات التجارية لأبناء نجد، وكان من أحد البيوتات هذه، بيت التاجر عبدالله الفوزان، فقد كان من كبار التجار، كما كان مقصداً لأبناء نجد، وقد قصده ابن سليمان، وبوصوله إلى مكتبه أحسن إليه الفوزان وأكرم رفادته، فكان استقباله ينم عن كرم المضيف، وطيب رفعة ومكانة الضيف، وبوصوله باشر ابن سليمان العمل عند الفوزان، وبعمله هذا حقق نجاحاً جعل الفوزان يمنحه الثقة بالنفس فيما يخدم مستقبله التجاري، وبعد بضع سنوات مارس الشيخ ابن سليمان نشاطاً تجارياً خاصاً فيه، وأناط في أخيه الأصغر حمد إدارته في البحرين، حيث كان يموله في البضاعة من دار إقامته في بومباي.
وبينما هو على هذا الحال، كان محمد السليمان شقيق عبدالله يعمل في ديوان الملك عبدالعزيز آل سعود، وقد أصابه مرض نزل فيه، فقصد الهند للعلاج ولم يتحقق له الشفاء، وعند عودته للرياض اعتذر للملك عبدالعزيز عن العمل، وقد طلب منه الملك أن يرشح له من يكون أهلاً للعمل مكانه، فرشح له أخاه عبدالله الذي يقيم في بومباي، الأمر الذي جعل الملك عبدالعزيز يوجه كتاباً لعبدالله السليمان بضرورة حضوره خلال أسبوعين، وكانت نازلة الوفاة قد نزلت بأخيه محمد، فحمل ابن سليمان كتاب الملك إلى عبدالله الفوزان مطلعاً إياه عليه، فكان جواب الفوزان إن طلب عبدالعزيز عندنا بمثابة أمر، ولا مانع من التحاقك بالديوان، لتحل محل أخيك محمد، وكان الملك عبدالعزيز قد طلب منه أن يأتي كذلك بأخيه حمد ويعمل على تصفية جميع أعمالهم في البحرين والهند، وأمر الديوان بسداد ما عليه وعلى أخيه من دين.
وهنا بدأت المرحلة الثانية في حياة الشيخ ابن سليمان، وذلك من خلال العمل بديوان الملك عبدالعزيز، وسيكون نافذة للملك على جميع أمور الدولة وإداراتها إبان نشأتها، والتي تمثل في حياة الدول، في أنها من أهم المراحل وأخطرها على المستويين إما النهوض أو السقوط، لكن ابن سليمان وصل وكان الملك عبدالعزيز، يسير عسكرياً من نصر إلى نصر، بعد معركة تربة ضد قوات الشريف حسين، حيث قادها الشريف خالد بن لؤي، وقد حقق انتصاراً باهراً على قوات عبدالله ابن الحسين، الذي نجا من الموت بأعجوبة، وغدت قوات الملك على أبواب الحجاز، ثم جاء بعدها انتصاره على ابن رشيد وفتح حائل في (29 / صفر / 1340هـ - 31 / 10 / 1921م)، وبعد هذا فقد كان الملك عبدالعزيز، في سباق مع الزمن متطلعاً إلى اليوم الذي يتم له فيه توحيد الحجاز بنجد، والانصراف إلى بناء الدولة، بعد أن تكون قد اكتمل له رسم جغرافيتها التي أقامتها الدولة السعودية الأولى.
ولما لمسه الملك عبدالعزيز من محمد السليمان من فهم وأدب وأهلية في ديوانه؛ فقد أدرك الملك بأن عبدالله، سيكون مثل أخيه محمد إن لم يكن أفضل، وعلى هذه الصورة جاء تعيين الشيخ عبدالله السليمان وأخيه حمد في ديوان الملك عبدالعزيز، فحفظت له ذاكرة التاريخ السعودي الكريم، أسمى الصور في العطاء والوفاء لولي أمره ولبلاده، مخلدة ذكراه وذكرى أسرته الكريمة في جليل خدماتهم.
الدولة السعودية الحديثة في مولدها ونشأتها ونهضتها على يد الملك عبدالعزيز
جاء تاريخ ولادة الدولة السعودية الحديثة، مع فتح الملك عبدالعزيز لمدينة الرياض، وذلك بتاريخ 5 / 10 / 1319هـ - 15 / 1 /1902م، وبعد قرابة ربع قرن من فتح الرياض، أنهى الملك عبدالعزيز أعماله العسكرية في سياسة توحيد البلاد، عاملاً دون كلل أو ملل، وجاءت آخر المراحل في التوحيد، بسقوط الحكم الهاشمي في الحجاز، وخروج علي ابن الحسين منه، وبخروجه هذا دخل الملك عبدالعزيز جدة في 7 / 5 / 1344هـ - 23 / 12 / 1925م، وترتب على ذلك بيعة أهل الحجاز للملك، فحمل لقب (ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها)، وبقيام المملكة الحجازية النجدية هذه، يكون الملك قد انتهى من تحديد حدود مملكته جغرافياً على أرض الجزيرة العربية، قارياً وبحرياً، وبعد أن اطمأن على استقرار الوضع في الحجاز، من خلال نجاح سياسته فيه، عاد إلى الرياض، وفي الرياض أخذ البيعة من أهل نجد، وأصبح
لقبه بعد البيعة (ملك الحجاز ونجد وملحقاتها).
وكان الملك قد توج سياسته الناجحة في الحجاز، بتولية ابنه الفيصل حاكماً له على الحجاز بتاريخ 8 / 6 / 1344هـ - 13 / 1 / 1925م، فكان بذلك أول حاكم للحجاز في الدولة السعودية الحديثة، وفي السنة نفسها تم تعيينه نائباً للملك على الحجاز، وتبع ذلك سياسة تنظيم إدارة الحجاز، فكان الفيصل رئيساً لمجلس الشورى، وقد حقق المجلس نجاحات جيدة في إدارة شؤون الحجاز، من خلال أنظمة القضاء الشرعي، والبرق والبريد، والصحة العامة وشق الطرق وتعبيدها، والمياه وتحليتها ووفرتها إضافة لإرساء المضي قدماً في نشر التعليم في أقاليم الحجاز.
وأمام سياسة الملك الناجحة هذه، فقد اعترفت ثمان دول أوربية بدولته، فكلف الملك ابنه فيصل وذلك من قبيل سياسة الانفتاح على العالم الخارجي، بالسفر لأوروبا وتقديم الشكر للدول التي اعترفت بدولته الوليدة، وقد سافر الفيصل بتاريخ 8 / 3 / 1345هـ - 15 / 9 / 1926م، فكانت هذه الزيارة هي الثانية للفيصل إلى أوروبا، وقد هيأت سياسة الملك في الانفتاح على العالم الخارجي- الأوربي، الالتحاق بعضوية (عصبة الأمم)، وذلك سنة 1928م، وعندما قدموا له كرسي الدولة الهاشمية بصفته وريثها، رفضه الملك طالباً استحداث كرسي باسم المملكة، فنزلوا على طلبه، وانضمت المملكة إلى تحالف تحريم الحروب (كلوج- بريان) في باريس وذلك بتاريخ 27 / 8 / 1928م، كما شاركت المملكة عن طريق سفيرها في لندن حافظ وهبة، بمؤتمر تجارة المواد المخدرة، حيث أقيم المؤتمر في جنيف، وشاركت فيه (24) دولة، كما انضمت المملكة للاتفاقية الدولية لمحاربة تجارة الأفيون، واعترضت سياسياً على المادة (22) من ميثاق العصبة، التي شرعنت الانتداب على دول المشرق العربي، ومن عباءته كانت كل من بريطانيا وفرنسا قد استعمرت هذه الدول، وكل هذا يشير إلى أن المملكة لم يمض عليها وقت إلا وغدت ذات مكانة دولية في عضويتها في عصبة الأمم، وشراكتها في قراراتها واجتماعاتها، وهذا الحال الذي آل إليه حال المملكة دولياً، كان نتيجة لسياسة الملك عبدالعزيز الناجحة، لكن سياسة الملك الخارجية هذه لم تبعده عن الاهتمام بشؤون بلاده الداخلية، ومواكبة للنظم الإدارية الحديثة التي وقف عليها الملك وابنه الفيصل، فقد حدث الإدارات وأدخل نظام الوزارات في مؤسسات الدولة، فاستحدث وزارة الخارجية، وكان الفيصل أول وزير خارجية للمملكة سنة 1349هـ - 1930م، كما استحدث الملك مجلس الوكلاء سنة 1350هـ - 1932م، وكان الفيصل رئيساً له، وكان المجلس هذا النواة الأولى لاستحداث مجلس الوزراء، والخطوة الأولى لتحقيق الوحدة الإدارية لأقاليم الدولة السعودية الناهضة، ولم تكن الشؤون المالية بعيدة عن اهتمام الملك عبدالعزيز، فالاقتصاد وفي أي دولة هو عصبها الأساسي ويأتي في أعلى هرمية الإدارات والمؤسسات في الدولة، وذلك لارتباط جميع مؤسسات الدولة فيه، وأمام هذا الواقع النهضوي، فقد ذهب الملك في إنشاء (المديرية المالية العامة)، حيث كلف الشيخ عبدالله السليمان في إدارتها وذلك بتاريخ 17/ربيع الآخر/1346هـ - 1927).

 

الشيخ عبدالله السليمان مديراً للمالية العامة

كان قد مضى سنوات ست على الشيخ عبدالله السليمان في ديوان الملك عبدالعزيز، حتى تم تعيينه مديراً عاماً للمالية، حظي فيها بثقة الملك، فقد وجد فيه الصدق والأمانة، والذكاء والنجاح في الأداء، فمع قيام الدولة المتحدة، كان الملك قد ذهب في تطوير إدارات الدولة والنهوض بها، كما وأن اسم الدولة المتحدة أصبح (مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها)، بعد أن كانت تحمل اسم (مملكة الحجاز وسلطنة نجد وملحقاتها)، ولكون الشؤون المالية تمثل في أي دولة عصبها، فمن باب تطوير هذه الإدارة، فقد حول هذه الإدارة (المديرية المالية العامة)، إلى وكالة، وذلك بتاريخ 1348هـ - 1928م، وأصبح الشيخ عبدالله السليمان يحمل لقب (وكيل المالية العام)، وعلى واقع تغيير الاسم للمملكة إلى (المملكة العربية السعودية)، بتاريخ (21 جمادى الأولى 1351هـ - 1932)، فقد نسخ هذا الاسم، الاسم السابق عليه، بحيث كان الاسم الأول يحمل في دلالته اسم إقليمين، كما لو أنهما منفصلان، ويجمعهما اتحاد فيدرالي، وجاء تغيير هذا الاسم على هامش زيارة الأمير فيصل إلى تسع دول أوروبية، فوقف على بعض اتحادات هذه الدول على شكل فيدرالي، وقد تقدم الفيصل لأبيه بطلب تغيير الاسم إلى اسم المملكة العربية السعودية، وأناط الملك يومها الفيصل بتلاوة بيان تغيير الاسم.
وصاحب هذا التغيير والتطوير، في إدخال نظام الوزارة في إدارات الدولة، وكان منها وزارة الخارجية، التي كان وزيرها الأمير فيصل بن عبدالعزيز، فكان فيها أول وزير للخارجية السعودية، وكذلك فإن وكالة الشؤون المالية، خصها الملك بأن تصبح وزارة، ومن يومها حمل ابن سليمان لقب وزير المالية، وذلك سنة 1351هـ - 1932م، وجاء تحويلها إلى وزارة والمملكة تعيش ضائقة مالية شديدة، في أعقاب انهيار سوق المال الأمريكي (وول ستريت) سنة 1929، ويومها أصاب هذا الانهيار العالم بأسره، والمملكة جزء من هذا العالم، ولم تكن زيارة الأمير فيصل الثالثة لتسع دول أوروبية إلا بقصد تحريك هذه الدول في الاستثمار في المملكة، ولم يحصل من هذه الزيارة على شيء، لأن العالم وبخاصة منه الأوروبي الصناعي نزل فيه ما نزل بالولايات المتحدة الأمريكية، وهنا ذهب ابن سليمان بفطنته وحسن إدارته، في السعي لتجاوز هذه الأزمة المالية التي نزلت في المملكة، حيث تراجعت صادرات التمور إلى الخارج، واستطاع الوزير ابن سليمان تخطي هذه الأزمة بنجاح.
وخير من عاش هذه الأزمة، عبدالله فيلبي، فتكلم عن ابن سليمان كلاماً عظيماً عن نجاحه في تخطي الأزمة، في الوقت الذي كان يعمل جاهداً على سياسة البدائل في تنمية الاقتصاد السعودي، من خلال التنقيب عن المعادن والنفط، ولم يخب مسعاه في هذا الجانب.
النظام المالي السعودي وتطوره بين توجيهات الملك عبدالعزيز وحسن أداء ابن سليمان
يأتي الحديث هنا عن تحرير النقد السعودي واستقلاله بذاته، من خلال فك ارتباطه بالنقد الخارجي الذي كان سائداً في التداول، وحول هذه المسألة فقد أدرك الملك عبدالعزيز، أهمية استقلال النقد وطنياً، وأن إدارة الشؤون المالية في ظل إدارة ووزارة الشيخ ابن سليمان كفيلة بالنهوض في النظام المالي، والارتقاء فيه، وفي فترة تحويل (الوكالة) إلى (وزارة)، كان قد نزل بالعالم نازلة سوق المال في أمريكا سنة (1929م)، والمعروف يومها بـ(وول ستريت)، والمملكة واحدة من دول العالم نزل فيها ما نزل بغيرها من الدول، والمملكة كانت بحاجة للمال، لاسيما وأنها كانت تسير في سياسة التطور والارتقاء بالمؤسسات الخدمية للمواطنين، كتحلية المياه والخدمات الصحية، والتعليم وشق الطرق، حيث كان دخل المملكة لا يتجاوز في السنة (150) ألف جنيه ذهبي، وفي هذه الفترة كان الفيصل قد زار تسع دول أوروبية، بقصد دفع هذه الدول للاستثمار في المملكة، لكن الدول كان حالها كذلك تعاني من أزمة مالية، ولم يحقق في رحلته الحصول على شيء، وكانت رحلته هذه سنة (1932م).
وأمام هذا الحال فقد مضى ابن سليمان في سعيه لتجاوز الأزمة من خلال النهضة بالاقتصاد، في تحريره من التبعية النقدية الخارجية، كالريال المجيدي، ومثله الريال الفرنسي والنمساوي (ماري تريزا)، حيث لم يكن لهم سعر ثابت في الصرف في الأسواق السعودية، فقد رفع للملك طلباً بسك ريال خاص في المملكة، بحيث يكون هو الوحدة الكبرى للعملات المتداولة في الأسواق، وكان قد سبق للملك عبدالعزيز، أن طلب من ابن سليمان بسك أول عملة وطنية من فئة القرش، وذلك عام (1344هـ - 1925م)، وتم سكها يومها في لندن، وكانت الكمية في حدود مليون قرش، أما العملة الورقية، فلم تكن شائعة بين أفراد الشعب السعودي، إلا في جهة السواحل، حيث يتداول فيها الروبيات الهندية، والأوراق النقدية المصرية، وغير من العملات الورقية.
وتمشياً مع سياسة سهولة التداول النقدي، فقد سكت مؤسسة النقد السعودي، أول عملة ورقية، بتاريخ (1372هـ - 1953م)، تحت اسم سندات الحجاج، من فئة وحدات (العشرة ريالات والخمسة والريال)، عوضاً عن تداول عملات بلادهم، فكانت هذه العملية، البداية في تداول العملة الورقية، وقد تم طبع (150) مليون ريال من هذه الإيصالات، كما كانت تعرف يومها. ومع هذا التطور في النقد الوطني السعودي، جاء بناء (مؤسسة النقد العربي السعودي)، وذلك بعد أن كاتب الشيخ ابن سليمان سنة (1371هـ - 1951م)، رئيس البعثة المالية الأمريكية (آرثر يونج) لوضع دراسة للمؤسسة، وقد وضع بذلك تقريراً، وحظي تقرير (يونج) بالقبول بعد تنقيحه، وصدر الأمر السامي بتنفيذ المشروع، وجرى له حفل رسمي افتتحه ولي العهد الأمير سعود، وتكلم في الحفل وزير المالية عبدالله السليمان، وكذلك كل من المستر (بلوزر) والمستر (آرثر يونج)، وكان أول عمل للمؤسسة هو إصدار (الجنيه السعودي الذهبي)، الذي يساوي في قيمته (40) ريالاً، ودخل سوق التداول في ( 3 / صفر / 1372هـ - 1953م)، فهو يعادل الجنيه الإنجليزي قيمة، وكانت الحكومة السعودية قد اشترت (2) مليون جنيه إنجليزي لدعم سياستها النقدية.
وتركت وفاة الملك عبدالعزيز -رحمه الله- في نفس ابن سليمان شيئاً من الأسى عليه، الأمر الذي دفعه إلى الاستقالة، فقدم استقالته للملك سعود، وذلك في (يوم الاثنين الأول من شهر محرم لسنة 1374هـ - 20 أغسطس 1954م)، وجاءت استقالته وهو بمرتبة وزير للمالية، قضى ما يربو على (35) سنة في خدمة ولي أمره الملك عبدالعزيز، وبلده المملكة العربية السعودية، في أشد مراحل عمر المملكة صعوبة وقسوة، ولهذا فهو في جميع أيام ملازمته للملك عبدالعزيز، كان رجل عطاء.

الوزير ابن سليمان في ذاكرة الصحافة
كثيرة هي عطاءات الشيخ عبدالله السليمان، ولا يمكن حصرها وإحصاؤها لسنوات طالت مدة خمس وثلاثين سنة، وكلها عطاء، فقد وجدت في مجلتي أمين سعيد، عنه الشيء الكثير، واللتين هما مجلة (الشرق الأدنى والرابطة العربية)، وكان يصدرهما من مصر، الأولى أصدرها سنة (1927م) والثانية أصدرها سنة (1936م)، ولا يخلو عدد من أعداد المجلتين إلا وفيه خبر عن المملكة العربية السعودية، ومن الأخبار التي تحسب لابن سليمان، قضية كسوة الكعبة، التي كانت تصلها من مصر، لكن المصريين امتنعوا عن إرسال كسوة سنتها،وذلك سنة 1348هـ 1928م ما دفع ابن سليمان وبطلب من الملك عبدالعزيز إلى بناء مصنع لثوب الكعبة، وقد تحقق ذلك بسرعة عجيبة، وأقيم حفل بذلك تكلم فيه الشيخ إبراهيم المعمر، والشيخ أحمد الغزاوي، وتم عرض الكسوة أمام الملك في حفل كبير، وفيه عقب الملك بحديث جيد في الحفل الذي شهده ضيوف الحج على الملك، وحمل خبر حفلة الكسوة. العدد (35) من مجلة (الشرق الأدنى) السنة الأولى 27 يونيو 1928م، الصفحة (13 - 14)، وكأني بصاحب المجلة أراد أن يقدم للمقاطعة المصرية في كسوة الكعبة، بأن مقاطعتكم لن تجدي شيئاً، ولا حاجة للكسوة من خارج المملكة بعد اليوم.
وفي قضية شراء سرب من طيران إيطالي وبعثة الطيارين إلى إيطاليا، فهذا الخبر حملته الجريدة الرسمية أم القرى، وفي خارج المملكة حملت الخبر بشكل وثائقي بالصورة، مجلة (الرابطة العربية) لأمين سعيد، في العدد (29) وتاريخه يوم الأربعاء 25 / رمضان /1355هـ 9 ديسمبر سنة 1936م.
مع بيان الأسماء لأفراد البعثة، واحتوى العدد (119) من المجلة المذكورة، مقابلة صحفية لوزير المالية الشيخ عبدالله السليمان، تحت عنوان (شؤون المملكة العربية السعودية) وكان منهم مراسل الرابطة العربية، وتاريخه 4 / شعبان 1357هـ 28 سبتمبر 1938م، الصفحة (36).
وجاء هذا اللقاء بمناسبة مهمة، وهي إصدار النشرة السنوية الرسمية عن المملكة.
وفيما يتعلق بالنفط ودور ابن سليمان في صناعته واكتشافه؛ فقد حملت العديد من أعداد المجلة الحديث عن النفط بين مندوب شركة (تكساس أويل كومباني)، والتوقيع على التنقيب مع المهندس لويد هاملتون في (يوم الاثنين الرابع من صفر 1352هـ - 29 / مايو / 1933م)، مع الوزير ابن سليمان، وعن تصدير أول شحنة نفط كان الملك عبدالعزيز يشهدها ويباركها، فقد حملت مجلة الرابطة العربية، في عددها (129) الصادرة في القاهرة يوم (الأربعاء 27 ربيع أول سنة 1358هـ - 17 / مايو /1939م)، الصفحة (4)، بحضور أمير البحرين الشيخ حمد الخليفة.
وفي الختام هذا غيض من فيض عطاء خدمات الوزير عبدالله السليمان رحمه الله، التي يصعب حصرها وإحصاؤها، وما تم سرده كان بمثابة إشادة وإشارة إلى مكانة هذا الرجل في ذاكرة التاريخ السعودي.

 

ذو صلة