مجلة شهرية - العدد (572)  | مايو 2024 م- ذو القعدة 1445 هـ

جاسم الصحيح: القصيبي أطلق علي صاروخ الأحساء الشعري

حسين السنونة: الدمام


يؤكد الشاعر السعودي جاسم الصحيح أن القصيدة تنبثق من رؤيةٍ فكريَّةٍ نابعةٍ من حالةٍ إنسانيَّةٍ محضة تتكثَّفُ فيها تلك الدهشة وتتحوَّل إلى نبعٍ مخزونٍ في الأعماق سُرعانَ ما ينبجسُ على وَقْعِ أقدامِ المشاعرِ الوثَّابةِ ويبدأُ نهرُ الصُّوَرِ تَدَفُّقَهُ في محاولةٍ جادَّةٍ كي يشقَّ لهُ قناةً عبر صخورِ اللغة.. وهناكَ على ضفافِ القناة تلك، يقومُ النهر بكتابةِ الزهور الفنّيّة وإطلاق طيور الدلالات كي تحومَ في آفاقِ المعاني المفتوحة على المطلق.. وحول الشاعر والقصيدة كان هذا اللقاء:

 تحضر المرأةُ بشكل كثيف في شعرك، وربما لا تخلو قصيدة منها، فكيف تنظر لها في داخل القصيدة؟ وهل تقصد إليها حينما تكتب، أم تأتيك بعفوية؟
- المرأة في القصيدة تختلف عن المرأة في الحياة بمقدار ما تختلف الحياة عن القصيدة، فالشعر ليس صورة فوتوغرافية من الواقع، ولكنَّ الواقع والشعر مرتبطان بحبلٍ سريّ يغذِّي أوردةَ القصيدة بدماء الحياة. لذلك، من حيث الجوهر، المرأة هي هذا الكائن الحي، وحضورها في الحياة حضور واقعي، بينما حضورها في القصيدة غالباً ما يكون مثالياً وكأنها الملجأ الأخير والمخلِّص الأبدي.
قال عنك الدكتور غازي القصيبي رحمه الله تعالى إنك «صاروخٌ شعريٌّ قادم» منذ ما يقارب ثلاثين عاماً، واستدرك أنك تطيل القصائد، وهو ما يُعرف بالإطناب، فهل ما زلت ترى الإطناب صفة تميز لديكم؟
- رحم الله الدكتور غازي القصيبي فقد كانت كلمتُهُ «الأحساء تطلق صاروخاً شعرياً» كلمةً تشجيعيةً مهمة، وعنواناً لافتاً للمقالة التي كتبها عن ديواني الأول (ظلِّي خليفتي عليكم). وقد سطَّر مجموعة من الوصايا في تلك المقالة، كانت عدم الإطالة واحدة منها، بعد أن لاحظ أن بعض قصائد الديوان تخسر شاعريتها بسبب طولها.
أعتقد أنني الآن، وبعد تجربة شعرية طويلة، أصبحتُ أقلَّ كتابةً على العموم، وليس فقط في طول القصائد. وأصبحت الكتابةُ الشعرية لديَّ حالةَ تأمُّلات، وليس فورة حماسة وانفعالات.
يقال إنّ (مدينة الجفر) بالأحساء، والتي تنتمي لها، هي مدينة الثقافة والشعر، برزت فيها أسماء لها حضورها الإبداعي مثل الشاعر علي النحوي، الشاعر جاسم عساكر، الشاعر جابر الجميعة، كيف ترى هذا الطغيان الشعري في خصوص هذه المدينة؟
- وُلدتُ ونشأتُ في مدينة (الجفر) عندما كانت قرية صغيرة تشبه حوضاً من النخيل والأشجار والماء، وبقيتْ علاقتي بها هي علاقتي بمسقط الرأس والطفولة حيث البئر الأولى التي يستقي منها الشاعر أحلامه، لذلك فالشعر هو دائماً طريق يعود بي إلى القرية، وإلى كل شيء حقيقيّ يُشعرني بطفولتي.
وأعتقد أنها صُدفة جميلة أن أنطلق مع تلك الأسماء الشعرية البارزة الآن في المشهد الشعري السعودي، وقد ساعد في بَلوَرة هذه الأسماء على ما انتهتْ إليه أنَّنا جميعاً أصدقاء منذ الطفولة، وأبناء زقاق واحد، ووعي واحد، ونشأة واحدة. لذلك، كانت الموهبة تعضد الموهبة إلى درجة أنَّ قصائدنا أصبحتْ ذات مستوى فني واحد، رغم تفاوت الأعمار الطفيف بيننا.
(منتدى خيمة المتنبي) الأحدث في منتديات الأحساء الشعرية، فهل يمكن أن تحدّثنا عنه؟
- نشأتْ خيمة المتنبي في غمرة (تسونامي) المطبوعات الذي يجتاح المشهد الثقافي بأمواج الكتب المتلاطمة التي طغى الغثُّ منها طغياناً ساحقاً على السمين، وهما يتجاوران على رفوف المكتبات.
ومن باب المسؤولية الوطنية والإبداعية تجاه الثقافة الشعرية، قامت خيمة المتنبي كمرحلة أولى من نشاطها الثقافي، بالبحث عن المواهب الشابة في مجال الشعر وطباعة أعمالها بعد خضوع هذه الأعمال لرقابة فنية دقيقة، والحصول لها على فسح من وزارة الثقافة.
هذا ما تمثَّل فيه المشروعُ الحقيقي للخيمة، وهو طباعة الديوان الأول للشعراء الأحسائيين الشباب.. إنه المشروع المنفتح على مستقبل الشعر في الأحساء، وبالتالي في كل الوطن.
هذه الكائنات الشاعرة الشابة هي هدفنا الذي وجَّهنا إليه منظار تصويبنا منذ نظرة البحث الأولى. وقعنا على مجموعة من التجارب الإبداعية الأحسائية التي يُزهر في قصائدها الوعدُ الشعري، وأدخلنا هذه التجارب في مختبر الإبداع عبر لجنة خاصة وَضَعَتْهَا على محكّ الفحص، وهكذا تم اختيار الدواوين الأولى التي تمَّت طباعتها، وما يزال باقي الدواوين خاضعاً للفحص في ذلك المختبر.
في مفهوم الرؤية الشعرية العميقة، يرى الشاعر جاسم أن القصيدة هي عملٌ جمالي لترتيب الخراب والفوضى «لوجه الأرض الذي كثرتْ فيه التجاعيد» كما تقول في إحدى قصائدك، فما هي فلسفة الجمال والقبح عندك؟
- الجمال والقبح أمران معنويَّان، يتمظهران في حضور القيم الإنسانية وانحسارها عن العالم، وما يشكِّله ذلك من تغييرات على تضاريس النفس البشرية. ومهمة الشعر هي استقراء هذه المعاناة البشرية عبر اللغة بكل ما تحمله اللغةُ من عناصرها الفنية، وكأنَّ الشعر نافذةٌ تطلّ على الحقيقة في حديقتها، وهو بذلك مجاز الواقع.
التساؤلات الكثيرة والكبيرة في العشق والحب والألم والهوية والانتماء... هذه التساؤلات تخلق صراعاً يمزق الذات الشاعرة داخل جاسم الصحيح، والإجابة عنها تحتاج للجرأة، فما منشأ هذا الصراع الخفي الذي نتلمسه في نصوصك؟ وما هو انعكاس كل ذلك عليك؟
- الوعي هو منشأ الصراع، فكلَّما نما هذا الذئبُ في رأسي، دفعني للعواء الذي لا أستطيع أن أبتلعه، فأطلقه في فضاءات القصائد على شكل غناء جريح.
والجرأة قدر من أقدار الشاعر فلا يمكن له أن يفلت هذا القدر مهما حاول، لأنَّ اللغة لها غواياتها التي تستدرج الشاعر إلى متاهاتها في كل حقول الحياة. كما أنَّ الشعر عبارة عن رؤية جديدة تجاه الوجود، وكلُّ رؤية جديدة تحتاج إلى جرأةٍ. ولا يفوتني أنَّ الشعر هو حالة من حالات الخروج من كهف الضيق الأيديولوجي إلى فضاء الوعي الإنساني، وهذا الخروج يشبه الولادة العسيرة التي تحتاج للجرأة الاجتماعية أيضاً.
أمَّا النصُّ فهو ميداني الوحيد الذي تستدرجني إليه تساؤلات الحياة لأخوض فيه معاركي، وأستعيد ذاتي من قبضة الموروثات والمسلَّمات والأفكار السائدة. في ميدان النصّ فقط، تنتابُني شجاعة مفرطة للتعبير، ربَّما تكون قادمة من حيثية الرغبة في الكتابة، وربَّما من إيماني العميق بمسؤولية الكتابة، فأندفع للمواجهة، ولكن بأسلوبٍ جماليٍّ يروض شراسة الصراع.

ذو صلة