مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

د. ميسا خواجا: المبدع الحقيقي هو من يكسر أفق توقع القارئ

حوار: عبدالرحمن الخضيري


اختارت المجلة العربية منبراً لتبث من خلاله رسائلها، أولها أن العالمية وهم صعب الاطمئنان لها بسبب ضبابية المقاييس التي يمكن أن نستند عليها لوصف ذاك المبدع أو الناقد بـ(العالمي)، وثاني رسائلها تؤكد من خلالها أن الدراسات النقدية الحديثة في حركية دائمة لا تقف عند اتجاه معين غامزة لضعف النظرية النقدية العربية في مواجهة النظرية الغربية، لافتة في رسالتها الأخيرة أستاذة النقد والأدب الحديث الدكتورة ميسا زهدي خواجا إلى دور مواقع التواصل ومساهمتها في بروز فئة حشرت نفسها ضمن كوكبة المبدعين وهي لا تنتج إبداعاً حقيقياً، ودورها في غياب متذوق حقيقي للأدب.


- كيف تصفين النقد الأدبي العالمي الراهن؟
يمكن القول إنه من الصعب الاطمئنان إلى مقولة (النقد الأدبي العالمي)، فهي تطرح إشكالات متعددة ترتبط بفكرة (العالمية) نفسها، وما هي المقاييس التي يمكن الاستناد إليها لوصف ناقد ما بأنه (عالمي)، هل هي الشهرة أم الانتشار أم الموقع أم أشياء أخرى؟ كما ترتبط أيضاً بنوع من التعميم الذي يندرج تحته وضع عدد من الاتجاهات النقدية في سلة واحدة. إضافة إلى الإشكالية الزمنية التي يصعب معها تحديد العالمية ومتى تبدأ ومتى تنتهي.أعتقد أنه من الأفضل الحديث عن اتجاهات نقدية متزامنة ومتعاقبة وهي في مجملها محاولات للتفاعل مع النص الأدبي أو لفهم ماهية الأدب وما يميزه عن غيره من الخطابات الأخرى. ولعل النقلة الأبرز -فيما أرى- كانت في الانتقال من دراسة ما هو خارج النص إلى التركيز على النص في حد ذاته ومحاولة تفكيك عناصره الداخلية بعيداً عن أية مؤثرات خارجية. وتجدر الإشارة إلى التأثير الكبير الذي مارسته اللسانيات على النقد الأدبي وحضور مناهج تحليل الخطاب بشكل يكاد يلغي المسافة بينهما. كما تجدر الإشارة أيضاً إلى عودة حضور القارئ والالتفات إليه في محاولة فهم النص الأدبي على اعتبار أن لا نص دون قارئ، وأن القارئ يسهم في إعادة إنتاج النص من خلال ما يمكن تسميته (الكتابة على الكتابة)، إضافة إلى النقد الثقافي والنسوية ودراسات ما بعد الاستعمار وغيرها. بشكل عام يمكن القول إن الدراسات النقدية الحديثة في حركية دائمة لا تقف عند اتجاه معين أو نصوص بعينها، في ظل غياب نظرية نقدية عربية حديثة أو ضعف حضورها أمام النظرية النقدية الغربية.
-ما رأيك بالمشهد النقدي السعودي؟ وهل للمرأة دور بارز فيه؟
المشهد النقدي في المملكة العربية السعودية لا يختلف كثيراً -فيما أرى- عن مثيله في المشرق العربي، ففيه أسماء فاعلة وإسهامات مهمة، بل إن فيه أسماء أثبتت حضورها على المستوى العربي، وهو -كما هو الشأن في العالم العربي- يفيد كثيراً من النظرية النقدية الغربية، وفيما أرى فإن عدداً من النقاد يميل صوب النقد التطبيقي ودراسة النصوص الأدبية في حين يخفت حضور النقاد على مستوى النظرية.
للمرأة حضور في هذا المشهد النقدي وإن كانت أقل حضوراً من الرجل، ولعل تلك ظاهرة لا تقتصر على المشهد السعودي وحده، فهي موجودة في المشهدين العربي والغربي. ويلاحظ أن معظم الناقدات هن ناقدات أكاديميات، وقد استطاع بعضهن إثبات وجوده وحضوره الواضح في الساحة النقدية.
- مع تسارع النشر والإصدارات الأدبية هل واكب النقد هذا الحراك؟
يمكن الوقوف عند إشكالية أزلية ترتبط بالعلاقة بين النص والمبدع من جهة والنقد والناقد من جهة أخرى، حيث الاتهام القديم بأن النقد لا يواكب الإبداع. وفيما أرى فإن حركية المبدع الدائمة هي ما ينتج حركة نقدية مصاحبة، بل إن المبدع الحقيقي هو من يكسر أفق توقع القارئ ليتجه بالعمل صوب آفاق جديدة تستدعي محاولات مختلفة لقراءة عمله، وهذه الحركة الجدلية هي ما يقيم العلاقة الحتمية -وربما المتوترة- بين الناقد والنص التي يعيد فيها الناقد إنتاج النص مرة أخرى.
يحدث أحياناً بعض التسارع في الإصدارات الأدبية، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن كل ما نشر يمكن أن يكون عملاً أدبياً حقيقياً، أو يشكل علامة فارقة في الإنتاج الأدبي تستحق الوقوف عندها، فتبرز الفجوة بين النقد وعدد الإصدارات. ويختلف التعامل معها باختلاف توجه الناقد، فهناك من يرى أهمية غربلة هذه الأعمال وتفكيكها وتحديد ضعف بعضها. وهناك من يرى أن قراءة العمل الضعيف يمكن أن تشكل تسويقاً غير مباشر لذلك العمل. مثل هذا الموقف قد يستدعي هجوماً عند بعض الكتاب على النقد على اعتبار أنه مقصر في مواكبة الإبداع. وأرى أن مثل هذا الادعاء له ما يبرره أحياناً لا سيما عندما يتجه بعض النقاد إلى تكريس أسماء بعينها، وتسليط الضوء عليها في مقابل إهمال عدد من الأسماء الجديدة وعدم الالتفات إلى تجربتها، كما أن دراسة ما هو مدروس أكثر سهولة من اقتحام مجاهيل جديدة، وتلك ظاهرة ليست جديدة ولا تقتصر على المشهد السعودي وحده. إن ذلك يعني أن النقد يقع أحياناً في التكرار وفي تسليط الضوء على مبدعين بعينهم، أو في التركيز على نوع أدبي بعينه كما هو الحال في التركيز على الرواية على سبيل المثال في حين أن أجناساً أخرى بعيدة عن الضوء والدراسات الجادة إلا ما ندر. وهنا يقع النقد في التقصير وعدم مواكبة الإصدارات الجديدة والحفر على نماذج إبداعية قد توجد في غير المعروف أو المشهور.
- هل تعتقدين أن مواقع التواصل ساهمت في تراجع دور الناقد حيث تحول القارئ إلى ناقد ومروج للأعمال الأدبية؟
لقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في أكثر من ظاهرة منها ظهور أنماط كتابية جديدة، وميل النصوص إلى القصر والتكثيف وهي أشياء إيجابية في حد ذاتها. لكن مواقع التواصل أيضاً ساهمت في إيجاد فئة وسمت نفسها بالكتاب والمبدعين لكنها لا تنتج إبداعاً حقيقياً، بل إن بعض من يكتبون في وسائل التواصل يكتبون بلغة ضعيفة مليئة بالأخطاء، ويظنون أن مجرد رصف كلمات متجاورة ينتج نصاً أدبياً. ونظراً لانفتاح وسائل التواصل فإنها ساعدت في شيوع ظواهر كتابية ووجود قراء غير نوعيين، يميلون أكثر إلى المجاملة وإلى الإعجاب بكل ما يصدره الشخص الذي يتابعونه، كما أسهمت في غياب متذوق حقيقي وظهور من ينتمون للأدب وهو عنهم بعيد. أيضاً ينبغي أن نلتفت إلى أن هناك ما بات يعرف بـ(الأدب الرقمي) وهو أدب له حضوره وله أدبيته لكنه يختلف عن كثير مما ينتج في وسائل التواصل تحت مسمى أدب وما أراه أن دور الناقد لن يتغير فهو القارئ المختص الذي يستطيع التعامل مع النص الأدبي واكتشاف أدبيته، وهو قادر على التعامل مع النص الرقمي كما يتعامل مع النص الورقي على اختلاف في الآلية والأدوات. أما قراء وسائل التواصل فهم درجات وأنواع، منهم المختص ومنهم المتذوق ومنهم المجامل ومنهم القارئ العادي وهؤلاء لا يوضعون في خانة النقد الأدبي.
- يمكن للمتابع أن يلاحظ النفس الصوفي في عدد من الروايات وانتشاره، ما رأيك بهذه الظاهرة وكيف تفسرينها؟
نعم يمكن ملاحظة انتشار النفس الصوفي في عدد من الأعمال الروائية مؤخراً، غير أن ظاهرة التأثر بالأعمال الصوفية ليست جديدة فقد عرفها الشعر العربي منذ فترة، وظهر في شعر عدد من شعراء التفعيلة وقصيدة النثر سمات صوفية وظفت بوسائل مختلفة، حيث وجدوا عالماً غنياً ومساحات يمكن استيحاؤها وتوظيفها بصور فنية وآليات تختلف باختلاف الشاعر. ولعل هذا العالم الثري هو ما دفع عدداً من الروائيين إلى محاولة توظيفه والاستفادة منه، ولعل مما يساعد على ذلك كثافة العالم الصوفي ورمزيته وغنى شخصياته وهو ما يبحث عنه الروائي في كثير من الأحيان. لكن الإشكالية تكمن حين يتحول الأمر إلى مجرد موضة يقتفي فيها كاتب عمل كاتباً آخر، لا سيما حين تنجح رواية بنيت على العالم الصوفي وأفادت من شخصيات الصوفية المعروفة كما في رواية إليف شفق (قواعد العشق الأربعون).
لست ضد توظيف الصوفية ولست ضد استيحاء أي شخصية أو عالم يرى فيه الكاتب غنى لروايته، لكن الكاتب الحقيقي هو من يمتلك هذا العالم ويعيد صياغته وفق رؤيته الخاصة وآلياته الخاصة.
- ما رأيك في برامج مسابقات الشعر وجوائز السرد، هل ترين فيما تقدمه تحقيقاً للأهداف التي تروج لها؟
عادة ما ينظر إلى برامج مسابقات الشعر نظرة سلبية، ويرى فيها بعضهم نوعاً من التسويق التجاري والترويج لشعراء على حساب شعراء آخرين. ويرى آخرون أن بعض تلك المسابقات لا تحمل مصداقية حقيقية وأن لجان التحكيم تجامل الشعراء بغرض التسويق للبرنامج ولا تقدم نقداً حقيقياً. ولعل هذا الكلام لا يخلو من بعض الصحة، لكن أيضاً لا نستطيع أن نغفل أن بعض البرامج قد ساهم في إخراج شعراء حقيقيين أثبتوا وجودهم على الساحة الأدبية كما في برنامج (أمير الشعراء). قد ينجح البرنامج في التسويق لشاعر ما لكنه لن ينجح في صنع شاعر حقيقي والشعر الحقيقي هو ما يبقى.
الجوائز الأدبية تظل إشكالية غير منتهية في المشهد الأدبي، فهناك أيضاً الكثيرون من المبدعين الذين يشككون في مصداقيتها، وأنها تعمل وفق قواعد وقوانين قد تكون غير أدبية، وأن لجان التحكيم قد تكون غير دقيقة في أحكامها بل إن بعض أعضائها لا يحملون الخبرة أو المؤهل الذي يخولهم للحكم على الأعمال المطروحة. وقد أثير حول جائزة البوكر في نسختها العربية الكثير من هذا الجدل، والكثير من الجدل حول الأسماء المرشحة أو الأسماء الفائزة. قد تروج بعض الجوائز لأهداف كبرى لكن لا يتحقق ذلك في اختيار محكميها أو الفائزين بها، بل إنها قد تعطى لمن لا يستحق لدوافع شخصية ومجاملة أو أهداف سياسية أو تجارية وغير ذلك. لكن فيما أرى لا ينبغي وضع كل الجوائز في سلة واحدة فهناك من يحاول التصرف بمصداقية ومنهجية وأن يؤسس مشروعية لعمله. وهناك من ينشئ جائزة لأهداف شخصية وعوامل غير أدبية. واستمرارية عمل هذه الجوائز هي ما يكشف مدى مصداقيتها ومشروعية أهدافها ويمكن القول إن وجود مثل هذه الجوائز قد يكون محفزاً للمبدعين لا سيما حين تخصص لدعم المبدعين الشباب إذ يجدون فيها وسيلة لبدء مشوارهم الإبداعي والمساعدة على نشر أعمالهم.
- ما مدى صحة انتشار مقولة (إن النقاد غير آبهين بتحولات النص الإبداعي)؟
لا أعرف إن كانت هذه المقولة منتشرة أم لا، لكني لا أعتقد بصحتها إذ إن تحولات النص الإبداعي هي ما ينبغي أن يلتفت إليه الناقد، ومنذ زمن أقر (ياوس) وهو أحد رواد نظرية التلقي أن النص العظيم هو ما يكسر أفق توقعات القارئ، كما تحدث بارت عن نص المتعة وعن لذة النص الذي يفاجئ القارئ ويجعله يعيد إنتاجه. والتفت عدد من النقاد إلى أهمية التحولات الإبداعية وإلى النص الذي يحفز قارئه على قراءته والانتقال إلى الكتابة عنه وإعادة إنتاجه إن كان القارئ مختصاً.هنا يمكن القول إن تحولات النص الإبداعي هي ما يولد النظريات النقدية المختلفة التي تأتي محاولة لقراءة مثل تلك النصوص، أما الناقد الذي يسكن للنص المألوف وللنظرية الثابتة فسيظل يعيد إنتاج نفسه ومن ثم سيموت إنتاجه بمرور الزمن.
-انشغال بعض النقاد بالتنظير وبالمصطلح وبالمناهج أكثر من الانشغال بالنص، بم تفسرينه؟
للنقد وجهان أساسيان أو جانبان متكاملان، أولهما ما يعنى بالنظرية الأدبية وثانيهما ما يعنى بالنص نفسه. وانشغال الناقد بالنظرية والمصطلح ليس عيباً بل إنه أمر ضروري جداً من أجل تهيئة أرضية التعامل مع النص الأدبي. الناقد الذي يعنى بالنص لا يستغني عن المصطلح والنظرية، وإن كان هناك من ينادي بالنقد الانطباعي والتذوق الفردي فإن ذلك لا يعني إلغاء المنهجية وعلمية المصطلح. الدراسات والمعاجم التي تعنى بتحديد المصطلحات الأدبية وتعريفها مهمة للناقد المبتدئ والمتمرس على حد سواء شرط ألا تتحول المسألة إلى تطبيق آلي وحرفي للمصطلحات ينسى معه روح النص وخصوصيته. وما زال تاريخ الأدب يحفظ أسماء عدد من المفكرين والنقاد الذين عنوا بالنظرية الأدبية، بل إن السؤال الأزلي عن طبيعة الأدب وماهيته وما يجعل منه أدباً ظل قائماً، واختلاف الرؤى حوله أنتج نظريات عدة وآليات متنوعة في التعامل مع النص الأدبي. هذا الاختلاف من شأنه أن يثري النص الأدبي وأن يفتح مجالات كثيرة للإبداع وللتأويل في الوقت نفسه، ومن ثم فإن النص يحتاج الناقدين معاً.

ذو صلة