مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

علي المسعودي: أتشظى على الورق بكل أشكال الإبداع

حاوره: عذاب الركابي: مصر


علي المسعودي القاص والناقد والكاتب ورهان دائم على الكتابة الحلم..!
كاتب مجرب من طراز رفيع..! الكتابة لديه مغامرة كما الحب.. كما الحلم.. كما الحياة، وهو يدير دفة سفينته في بحر هادئ، زرقته وأمواجه، ونوارسه لحظات تآلف وتماه تام.. من الصحافة مدرسته الأولى في عالم الكتابة.. إلى السرد- سؤال العالم بكليته.. إلى النقد الإضاءة الجمالية للنص.. رحلة شاقة- عذبة!
الكتابة لديه منطاد النجاة، وهو مسافر حالم متماه في إيقاعها الإنساني -الحضاري- الكوني، كأداة مقاومة لغزوات الوحدة والألم!
علي المسعودي كاتب جاد، يكتب وينكتب في الآن، في بوح مضن، يكتب في الحلم، ويعيش الحلم حدساً ويقظة عسيرة، اللغة سكنه الدافئ، والكلمات جسده ونبضه موقوت على ذبذباتها وهي ترتب له سرر الحياة!
لقاؤه الحميمي مع الكتابة- السرد لقاء عشق واحتراق.. الكتابة في أبسط تعريفاته لها، صلاة جسد في محراب مضيء، بخوره ونبيذه عطر الروح المتشظية.!
- صدر له عدد من المجاميع القصصية: (مملكة الشمس 1992 - رجوع 1994 - ذاكرة الجدران 2008 - جلسة تصوير 2018) بالإضافة إلى عدد من الكتب النقدية والسيرة الذاتية.
وهو مع (المجلة العربية) في حديث دافئ.
وأنا أقرأ الكاتب علي المسعودي، وجدتني أمام فسيفساء إبداعية: قصة قصيرة، نصوص مفتوحة، نقد، سيرة أدبية، حوارات، شهادات.. أي مغامرة شاقة- عذبة هذه؟ ماذا أعطتك؟ وماذا أخذت منك؟ حدثني..!
- عندما وضعت القدم الأولى في الكتابة، لم أكن أعلم أن الباب سيغلق من خلفي بسرعة، فلا يعود التراجع ممكناً، وليس من خيار سوى المشي فوق زجاج الزمن المتكسر. والبحث عن قطعة الألماس المفقودة بين الركام. الماسة افتراضية يبحث عنها الجميع في الأرض ويكتشف بعد قطع المسافة الطويلة أنه وصل إلى المكان الخطأ. وأن الطيران هو الحل.
كانت النوافذ كثيرة. كل واحدة أجمل من الأخرى. وفي البدايات شتات جميل يتيح فرصة تذوق الشهد من منابعه. فتخوض في ألوان الكتابة كما تشتهي حتى تتآلف مع لون يحدد هويتك. والدخول غالباً من بوابة الشعر باعتبار أن (في داخل كل إنسان عربي بذرة شاعر).
أعطتني الكتابة الحزن والأمل، فبلا حزن ولا أمل لا يمكن أن تكتب. هما جناحا الإبداع، بقية المشاعر كالفرح والغضب والملل ليست الحبر الذي يمكن أن ينتج الإبداع. هي روافد مؤقتة فقط.
الكتابة داوت جروحي، وآنستني. فقد عشت كائناً وحيداً. غريباً. الكتابة كانت هي أهلي. والحروف أفراد أسرتي. فلم أجد أنيساً سواها، أخرجتني من حال الخذلان.
كانت الكتابة هي الحبيبة. والورقة هي الحضن الآمن الذي أشكو إليه.
كان القلم هو عيني التي تسح الدموع، وصدري الذي يشهق. لقد أعطتني أكثر مما أتمنى.
يقول الناقد الإنجليزي أروين أدمان: (القاص هو فيلسوفك الصادق) لماذا القاص؟ وإلى أي مدى استطاعت القصة القصيرة تجسيد الواقع، والسير بحلم الإنسان إلى اليقظة العسيرة؟
- كنت في المرحلة الإعدادية عندما وقعت بين يدي قصة لطه حسين. قصة من الواقع بأجواء دينية. سحرتني لغة السرد، فصرت أسمع لنفسي فصلاً منها حفظاً عن ظهر قلب، ثم كان لقائي بإبداعات (يوسف إدريس) الذي أخذني إلى عوالم ساحرة في القصة، وعمقت إيماني بهذا الفن الصعب، حتى التقيت بـ(ميلان كونديرا) لأتعلم منه معنى الاحتراق على الورق.
وجدت أن القصة التي تخترعها تخترعك، أنت تصوغها وهي أيضاً تعيد صياغتك من حيث لا تدري، فكان قنديلي الأول عام 1992.
القصة القصيرة، القصة- الومضة، القصة- القصيدة، القصة القصيرة جداً.. يحوي سردك في (ذاكرة الجدران) و(جلسة تصوير) كل فنون الكتابة هذه! من يمتعك أكثر، ويجيب عن أسئلتك الإنسانية؟
- أكاد أقول إنني ضد احتكار الكاتب للكتابة، وضد احتكار الكتابة للكاتب، فالروح التواقة تشعر بنداء ما، لا يتحقق إلا وفق شكل ما، هذه الروح هي الطائر، والشكل الكتابي هو الشجرة، عندما يحط في المكان الآمن، يبدأ ببناء العش، ليس من حق الشاعر أن يقول: الشعر لي وحدي، وليس من حق الجنس الأدبي أن يقول للكاتب: أنت لي وحدي. تزاحمت الفنون وتلاقحت الأجناس الإبداعية، ثم تداخلت الهويات الأدبية فأصبح الشاعر روائياً، وأصبح الروائي شاعراً، ما أوشك أسميه: الفوضى الإبداعية الجميلة.
تسود في فضائنا الثقافي العربي مقولات انفعالية لنقاد لهم حضورهم، كمقولة (زمن الرواية) على سبيل المثال..! ما رأيك بمثل هذه المقولات؟ هل تعتقد أن هناك فناً إبداعياً يمكن أن يتنازل عن كرسيه الوثير لفن آخر؟ أليس لكل فن زمنه؟ وأن فنون الكتابة يكمل بعضها البعض، وتضيف لبعضها البعض جمالاً وديمومة؟
- لست متحمساً كثيراً لهذه المقولة، ولا يخفى عليك أستاذ عذاب ولا على المشتغلين في حقل الكتابة رواج الرواية في هذا الزمن، وتبني عدد من الجهات الثقافية الكبرى جوائز ضخمة والترويج لروادها في كافة المنابر، مما لم يتح للناقد ولا الشاعر ولا لغير ذلك من إشغال الفكر. ومن خلال تجربتي في إدارة العديد من دور النشر الرائدة في المنطقة وجدت الرواية سلعة رائجة جداً في أوساط المثقفين بالنسبة للأعمال الجادة، وفي أوساط المراهقين الذين يبحثون عن رواية حصلت على دعاية كافية أو كتبها أحد مشاهير الإعلام بقنواته المختلفة سواء برامج التواصل أو غيرها، لكن زمن الرواية هو زمن مقتطع من زمن كلي، أشبه بنصف نهار أو نصف ليل، إذ بقي الشعر في مكانه الجليل الكبير، فلم ندع حتى اليوم إلى أمسية روائية، بينما نحضر بين يوم وآخر أمسية شعرية، ولم تجرؤ حنجرة واحدة على التغني برواية، بينما انطلقت مئات الأشعار في الحناجر مثل عصافير الدوري، الشعر يا سيدي في جبل منيع، لن تنال منه السهام.
القاص علي المسعودي لم يكتب الرواية، لماذا؟ وقد أصبحت مشاعاً للشاعر والناقد والفنان والصحافي.. بل هناك من يلهث وراء لقب الروائي؟ ما تفسيرك لذلك؟ أهي الجوائز أم صرعة الناشرين؟ أم ماذا؟ حدثني!
- أنجزت في العام 1996 رواية بعنوان (زمن الملح) نشرت على حلقات في مجلة اليقظة الكويتية، ولم أتحمس لطبعها لأنها كانت خاضعة أكثر لشروط العمل الصحافي، ولم أشتغل على تنقيحها لتكون موافقة للشرط الروائي المتقن، أحسست أنها تجربة أولية، وقنطرة عبور لفكرة روائية يجب أن تولد حقيقية أو أن تموت وهي في رحم التكوين. عندما أطلعت الأصدقاء على مخطوطة كتابي (مذكرات طالب حلم) نصحوني أن تتحول إلى رواية، وذلك كان يمكن أن يتم بسهولة، لأنني أسمي هذا العمل (سيراية)، وأحببت أن يبقى كما هو. مشروع رواية ظهر في شكل سيرة ذاتية، لأنني لو انحزت إلى العمل الروائي فيه لخنت ذكرياتي وقتلت الطفل وحطمت طائرته الورقية، فقد كانت هناك قيم في الإصدار يجب أن تصل. والرواية ترفض أن تكون عملاً وعظياً. وهنا في الكتاب شيء من ذلك. أحلم بعمل روائي مختلف وجديد وصادق ومبهر.
في كتابه الرائع (فن الرواية) يقول التشيكي ميلان كونديرا: (أنا تجريبي).. وفي أكثر من مناسبة يصرخ بورخيس: (طوال حياتي وأنا أجرب)، وأنت في قصصك القصيرة تجريبي بامتياز! أليست الكتابة الحداثية كلها تجريباً؟
- الفن في أساسه مغامرة، إذا لم تغامر فأنت تعيد كتابة الرتابة، إن لم تكسر حاجزاً جديداً أو تشعل حريقاً في غابة مجهولة.
في قصصي الأخيرة كتبت عن البداوة ومجاهيلها. وهو طرح مفقود في قصص العقود الأخيرة، لن تجده حتى عند الكاتب البدوي الذي نزع بداوته وانشغل بمدنية لاهثة، ربما كان لـ(ميرال الطحاوي) مبادرتها الشجاعة في طرق عالم البدو في روايتها (الخباء) وبعض التجارب الروائية التي تلتها. يسحرني في الأدب اللاتيني انغماسه الشديد في واقعه. تقرأ فتلفحك رائحة السمك في السوق، وتجتاحك ضوضاء الشارع، وتشاهد بين صفحات الرواية مشاهد الجمهور المتكدس وهو يشاهد صراع الديوك.
في كتابه القيم (التاريخ الكوني للخزي) يقول بورخيس: (إنني أنا الحالم)، ويرى السيميائي غاستون باشلار أن (الحلم منسق الحياة)، ويكتب علي المسعودي (مذكرات طالب حلم).. أي حلم هذا؟
- بناء الواقع يبدأ ببناء الأحلام. شخصية الإنسان هي مجموعة أحلامه. الأحلام التي لم تتحقق بعد هي مادة الكتابة، أما الأحلام التي ماتت فهي مادة الإبداع. فكأننا نكتب عن الأحلام التي دفناها حتى لا تدفننا الأحلام التي نحياها.
في كتاب (مذكرات طالب حلم) ضاع مني طفل فأحسست باليتم، لاحقته على الورق علي استعدته. لا تتصور مدى سعادتي بالكتاب وبالطفل. سعادة حقيقة لا مجازية.
كناقد لك حضورك في الساحة الخليجية والعربية.. كيف تقيم الحركة النقدية في فضائنا الثقافي؟ لماذا ترتفع أصابع الاتهام للنقد والنقاد، على أنه نقد مجاملات، وعلاقات، ومنافع متبادلة، وقد أضحى ألفاظاً وعبارات مترهلة في فضفضات صحافية؟ كمبدع هل أنصفك النقد؟ من ناقدك الأمثل خليجياً وعربياً وعالمياً؟
- لست متأكداً إن كنت قد أخذت حظي من النقد أم لا، وحده الموت هو الذي قد يبقيك على قيد الحياة!
ما قبل الموت، كل كتابة لا تخلو من محبة أو مجاملة أو انحياز. أما النقد فمازال يتجول في الخريطة العربية عبر عربة تعمل على الفحم. هناك استثناءات مدهشة منها: الغذامي، المسيري، شكري عياد، جبرا إبراهيم جبرا. وأحب المبدعين عندما يكتبون عن تجاربهم الإبداعية، كما فعل حنا مينا ونزار قباني في (تجربتي مع الشعر).
تؤدي مؤسسة سعاد الصباح الإعلامية دوراً مهماً للرقي بالثقافة والإبداع، ونشر المعرفة والكتاب الجاد، وتكريم الرواد من المبدعين من شرق الوطن ومغربه. نحن في ظمأ للمزيد في أجندة هذه المؤسسة الفاعلة إعلامياً وإبداعياً وثقافياً؟
- لعلها تفعل ذلك.. لعل نوراً يولد هنا أو هناك..!
أهم من دعم العمل الإبداعي ما تقوم به الدكتورة سعاد من دعم للمبدع ذاته. دعمه في فرص التعلم والابتعاث إلى أرقى الجامعات. ودعم الكثير من المشاريع الثقافية والتعليمية، تكاد تكون مواساة لمن تعثرت به الحياة، وباباً يفتح لمن ظن أن الغرف كلها أحكمت الإغلاق عليه.
ككاتب وإعلامي لاحظت ومعي عدد من المبدعين العرب اهتمام مؤسسة الصباح الإعلامية بالنشء.. بالكتابات الشابة، ورعايتها، ونشر إبداعاتهم، بل وتخصيص جوائز تشجيعية قيمة، وهي بادرة حضارية غير مسبوقة.. كمدير لهذه المؤسسة الكبيرة كيف تقيم ما وقع تحت يديك من إبداعات الشباب؟ ما المميزات؟ وما النصائح؟
- أفخر بهم أنهم استطاعوا العبور من خط الظلام الطويل، وخرجوا منه إلى ظلام آخر، فقاموا باختراع أنوارهم وإشعال إشعاعاتهم. أشفق وأخاف وأمتلئ بالإعجاب، أشفق عليهم لما عانوه وهم يحاولون الخروج من ركام الحياة، وتجاوزهم كل الهزائم والخيبات، وأخاف عليهم من أن يصطدموا بواقع عسير قد يحبطهم ويعيدهم إلى المربع الأول.
آخر ما وصلني من إبداعك، وأنت تتفجر نثراً راقياً (مذكرات طالب حلم) 2018.. ماذا ننتظر ومعنا القارئ في الأيام القادمة من جديد؟
- هذا الكتاب بخلاف ما أصدرته سابقاً، أظنني سأتوقف عنده طويلاً، ففيه براءة طفولتي ونزق شبابي، أحلامي المتكسرة، ودموعي التي جفت دون أن يلتفت إليها أحد. فيه وجه الكويت القديمة. الكويت عندما كانت تبتسم بصدق وتحضن القادم إليها وتمسح دموعه، قبل أن تنشغل بجراحها وأحزانها وتتلقى رشقاً من النبال لا تعرف من أين جاءتها من الداخل أم من الخارج!
أفكر برواية وبديوان شعر وبأن أتشظى على الورق بكل صنوف وأجناس الأدب. أفكر بأشياء مجنونة خارجة عن المألوف الكثير منها لا يليق بسني!

ذو صلة