مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

عبدالهادي سعدون: من يملك وطنين يكتب برأس منشطر إلى نصفين


حاوره:عذاب الركابي:مصر


عبد الهادي سعدون العراقيّ الروح، الإسبانيّ الهوى والإقامة، يفضّل أن يُدعى الكاتب، من دون تخصيص، فهو متنوع الإبداع، ولكلّ كتابةٍ لديه كيمياء خاصّة، عناصرها همس الروح، وأنين الجسد. وكلّ كتابةٍ لديه حُلمٌ جميل، لا تسرّه بعده يقظة، لا تزعجهُ مفارقات هذا الحلم الآسر، ولهذا ينتمي إلى كلّ نصوصه، ولا يتنصل حتى من بداياته إذ (كلّنا مجموع ما مارسناه بالضرورة).
العراق-الشجرة الوارفة الظلال، التي يعبث بثمرها وأوراقها ويرهب عصافيرها جنود المجهول والغموض، هو الأساس، بكل همومه وأطيافه وذكرياته، وأهله.. الحبر والورق والهواء مهما بدا للقارئ إسبانياً، ولكن الحزن والفرح، والولادة والموت، والحلم واليقظة، وكل المفارقات التي تزخرُ بها نصوصه هي عراقية اللغة والهوية، الكتب بجسدٍ إسباني ولكن اللسان والقلب عراقيان: (نتاجاتي الكتابية إسبانية مئة بالمئة، ومَن يقرؤها بالعراقي يجدها عراقية بحتة).
عبدالهادي سعدون الكتابة لديه تعبير عن الذات، هي كلّ الحياة، حالة عشق صوفي، تترجمه لغة هي بعد الكلمات، وخيال بعد الخيال، هي التجدد والابتكار، وهو بغير الكتابة (كائن مقصوص الجناح).. اقتربت منه كي أعرف سحر أسراره.. في حوار دافئ خليط من هدوء (الفرات)، وعنفوان (دجلة).. وسحر الأندلس، ولديه الكثير مما يقول:
أعمالك الأدبية تتحدّث عن مشوارك الإبداعي-الإنسانيّ بلغةٍ شفافة، من (القصّة القصيرة) إلى (قصص الأطفال) إلى (الرواية) إلى (الترجمة) إلى (الشعر) البوابة الذهبية لكلّ ما ذكرت؛ كيف تختصرُ لي محطات هذه الرحلة-المغامرة، الشاقة-العذبة؟
- أكرر دائماً إنني أفضل أن يطلق عليّ (الكاتب) بدلاً من أن يشار لي بما أنجز في الحقول الكتابية المختلفة، وهذا بالفعل ما أشعر به وأمارسه، التنويعات تقع في الحقل نفسه وليست خارجة عنه. من هنا تجد كتاباتي متنوعة وفي أغلب الحقول تقريباً، ولا أعتقد بفائدة تكرار القول إن كلّ كتاب يجد صيغته المناسبة وفق الرؤية والقالب المناسب، لهذا وجدتني أكتب في كلها عندما أجد الرغبة والقدرة على ذلك. رحلتي مع الكتابة طويلة نسبياً، إذ ربما ابتدأت مع قراءاتي الواعية الأولى، ولكن النشر جاء بعد فترة طويلة نسبياً. قبل كتابي القصصي الأول المنشور عام 1996، هناك نصوص قصيرة تتراوح ما بين الشعر والقصة والمسرحيات نسيت أغلبها ولم أعد لها بالطبع. ما يمكنني إضافته عن هذه الرحلة التي تشكل أكثر من اثني عشرَ إصداراً أدبياً، دون ذكر الترجمات العديدة والدراسات والأبحاث، فقد بدأت برغبة شبابية جامحة في البحث عن الذات، ولتنتهي بالتأكيد على قيمة هذه الرحلة والاستمرارية في البحث عن الرغبة البشرية نفسها التي لازمتني منذ كتاباتي الأولى وحتى اليوم. مع كل كتاب جديد تعلم آخر، الرحلة لا تنتهي إلا بالخمود والتلاشي.
سيرتك التي بين يديّ تقولُ إنك بدأت كاتب قصّة قصيرة، ودخلت الساحة الثقافية العربية في مجموعتك (اليوم يرتدي بدلة ملطخة بالأحمر) 1996؛ لماذا القصة وليسَ الشعر؟ وجلّ أدباء العالم بدؤوا شعراء؟ مَن الأكثر تأثيراً وتوصيلاً وانتشاراً لديك؟ وإذا أعيد بك الزمن- المراوغ دورته، بأي فنون الإبداع تبدأ؟ ولماذا؟
- أجهل السبب الحقيقي الذي دفعني لذلك، الإصدار الأول جهزته للنشر عام 1996 ما أن وجدت أن القصص تشكل كتاباً موحداً وهذا ما كان. كنت شجاعاً مع نصوصي القصصية الأولى ومتوجساً من نتاجي الشعري آنذاك، ربما كان ذلك هو السبب! مع ذلك كتبت الشعر متزامناً مع النصوص القصصية الأولى، ولكنني لم أنشر بعضه إلا بعد أن رأيت جدواه، على الرغم من أن الفارق زمنياً قصير بينهما. أول كتاب شعري لي هو (تأطير الضحك) بعد عامين من صدور الكتاب القصصي الأول، وقد كان غرضي أن أنشر أفضل ما كتبته في تلك المرحلة، وهو كتاب ثنائي اللغة بالعربية والإسبانية، ولكي أرى رد فعل الإسبان في قراءتهم لشعري بلغتهم الأم أيضاً. بعد هذا الزمن الطويل نسبياً، أجد من الضروري القول إنها تمثلني كلها لو جمعت كقطع صغيرة لتشكل ما أردته كلوحة كاملة لي، وما يجيء بعدها سيشكل المتبقي بالطبع. الزمن لا يعود كما نعرف، لذا لست نادماً على أي شيء، حتى تلك النصوص السيئة التي كتبتها ونشرتها. كلنا مجموع ما مارسناه بالضرورة.
وكتبتَ الرواية أيضاً؛ هل لتدخلَ هذا السباق حتى اللهاث زمن الرواية؟ وقد ترجح سانت بيف (أنها تكتسحُ كلّ شيء).. هل أنت مع هذا الرأي؟ أهو زمن الرواية كما ينظّر النقاد هذه الأيام؟ قل لي: هل يمكن لفنّ من فنون الإبداع أن يتنازلَ عن كرسيه الوثير بهذه السهولة؟ حدّثني!
- لا أعتقد حقاً بسطوة فن إبداعي على آخر، فكلها مهمة ومجدية ثقافياً، بل إنها مكملة لبعضها البعض. حكايتي مع الرواية بعيدة جداً، وكتبت ما أسميه تجارب في الرواية منذ منتصف التسعينات، وأغلبها مخطوطة في دفاتر ما زلت أحتفظ بها. كما نشرت رواية للفتيان عام 1997، ولكنني في هذا المجال كنت كسولاً ومتأنياً ومراجعاً للكثير من هذه التجارب ولم أنشر أية محاولة فيها، سوى من أجزاء في مجلات وصحف. أي إنني لم الجأ لذلك إلا بعد أن رأيت جدوى روايتي (مذكرات كلب عراقي)، وأحقيتها بأن تخرج للنور، هذا كل ما في الأمر. علينا أن نعترف أن الثورة الروائية (خصوصاً في العراق) لها مسبباتها التاريخية والظرفية، ومن هنا الكثرة في النوعية والكم، وهذا ليس جديداً في كل آداب العالم، كما علينا أن ندرك أن الرواية الغربية ووصولها لنا جاء متأخراً نسبياً والنماذج المهمة فيها كتبت منتصف القرن العشرين لا غير، لذا جاء انتشارها والكتابة في نمطها متأخراً، وعندما تحين الفرصة والأجواء المناسبة، حينئذ تشكل ما يسمى بظاهرة يشار لها، وهذا ما حدث مع الرواية العراقية. ربما لأن الرواية تستطيع الإحاطة بكل الفنون وهضمها داخل شكلها الفني، وهذا ما يجعلنا نكتب فيها ونهيم بعوالمها. صدقني في كل النماذج الكتابية التي كتبت ونشرت، لم أجد واحداً يزيح في داخلي الآخر إلا بضرورة النسق والفهم الفني للنص نفسه. عليه لم أغادر أياً منها، بل متمسك بها جميعاً.
 لماذا صارَ جلّ كتّابنا ومبدعينا يفضلونَ لقب الروائي على لقب الشاعر والقاص والمسرحي؟ أهي الرغبة المحمومة للانتشار؟ أم هو كمين مسالم ينصبهُ الكتّاب للناشر الذي صارَ لعابه يسيلُ بشكلٍ فاضحٍ للسرد، وللرواية بالذات؟ ماذا تقول؟
- ربما تكون كلها أسباب مقنعة لكاتب عن آخر، فلسنا جميعاً بنفس رغبة الكتابة ولا طريقة الانتشار. من هنا، هناك من يفضل أن يطلق عليه روائي وليس شاعراً، مع حقيقة التأكيد على أن مسألة كتابة الرواية اليوم في عالمنا العربي تكاد تمثل تحدياً يراد به الإشارة أغلب الأحيان على قدرة الأديب في خوضها وهي مهمة شرعية بطبيعة الحال. ولكن لا يمكن وضع كل الروائيين في الميزان نفسه، مثله مثل أهمية الواحد عن الآخر سواء فيها أو في أنماط الكتابة الإبداعية الأخرى. أعتقد أن الإصرار من قبل الكاتب في أي حقل إبداعي هو ما يهمش هيمنة صنف على آخر. لو تمعنا تاريخ الآداب العالمية لوجدنا الصراع ذاته منذ بذرته الأولى، كل حقل له زمنه وتوسعه على غيره، لكن ذلك لم ينهِ ولم يمقت ولم يهمش الحقول الأخرى. هناك ضرورات تاريخية وظرفية محددة لظهور صنف عن غيره. لا مجال لفهم الشعوب وثقافاتها لو نظرنا لها من شق واحد. الجمع هو الحاسم الرئيس في المهم.
شاعر وقاص وروائي ومترجم وصحافي؛ قلْ لي مَن الأقرب إليك؟ أعني مَن الذي يجيبُ عن أسئلتك الحضارية-الإنسانية أكثر؟ ولماذا؟
- الكتابة بحد ذاتها هبة وسؤال كبير وعميق جداً، ولو توسعت في أي من زواياها الكبيرة ووصلت عبر نموذجك الكتابي لتوصلت مع الآخرين للإجابة على جزء صغير منه. قلت إنني أجدني في الكتابة، وكلّ ما أمارسه مكمل لبعضه البعض لأنه خرج من نفس الذهن والكيفية، وطريقة كتابته وطرحه تعتمد على الفنية والشكل لا غير. التمعن بالكون والبشر والمصائر والمعضلات الوجودية الكبرى للبشر هي أسئلتي الكبرى التي حاولت وما أزال أعبر عنها في كل كتاباتي. الأجوبة عنها محض تصور لا غير، لأنك عبرها تحاول المسك بردود مقنعة تكاد لا تشكل الذرة الصغيرة في كون لا حد له. مع ذلك لا بد لي من الاعتراف هنا، وربما قد ذكرته في أماكن أخرى، أجدني أكثر تقرباً من السرد ومن (القص) تحديداً، وأميل للقصة القصيرة وعوالمها أكثر من الحقول الأخرى، وهذا لا أجد له سبباً مقنعاً سوى في أدواتي وقدرتي الكتابية الأفضل والتي قد أجدها قاصرة ذات يوم فأميل لغيرها.
يقولُ بورخيس (إنّ الترجمة خيانة للأصل)؛ أنت مترجم ومشهود لك بأسلوبك الشعري الراقي في الترجمة، وتؤدّي دوراً حضارياً في هذا المجال بلا شك؛ كيف تقرأ عبارة بورخيس؟ لماذا عدد المترجمين الجيدين والموثوق بهم قليلون، ولا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة؟ أهي الشروط التي يجب توافرها في الترجمة؟ أم ماذا؟
- الترجمة ضرورة لا بد منها لفهم الآخر. وسبق لي أن عرفت الترجمة بالخيانة المُحببة، إذ بدونها سنكون في عالم لا يفهم ولا يدرك. الترجمة عملية شاقة، متعبة ولكنها مغرية بنفس الوقت وضرورية، عليه فإن أية محاولة في ذلك هي جديرة بالتقدير والمتابعة والمعاينة الجادة، فالشعوب والثقافات تطورت وتتطور اليوم بفضل التواصل والتقابل الثقافي، والترجمة واحدة من أهم الأدوات قبل قرون مثلما عليه اليوم. أقول هذا لأؤكد تواطؤ المترجم في العملية كاملة وفي تدخله الكلي في النصوص المنقولة من قبله من لغة معينة إلى لغته الأم. وهذا التواطؤ والمشاركة الحميمة مثلما لها دوافعها في نقل نمط معين دون غيره، له تدخله المباشر في صيغة النقل وطرقها الممكنة. المترجم على الأقل في حالتي أعتبره شريكاً في عملية إعادة الكتابة للنص المنقول، وهو ما يجعلني مشاركاً دقيقاً في التغيير والمقابلة وفي حرفية إيجاد بدائل عن المعضلات التي تتقابل وإياها في كل نص مترجم. لست مع الترجمة الحرفية الجامدة، ولا أعتقد أن مترجماً واعياً يقبل بها، بل أنا مع النص المترجم الحي والذي تبحث له عن صيغ بديلة ولغة خاصة وكيان يضمّه في بدلة جديدة هي اللغة المنقول لها. عليه أذكر أيضاً بأن المترجم مسؤول عن إيجاد بدائل وحلول للنص المترجم، ولا أقول إن عليه إنشاء نص آخر بعيد عن النص الأصلي. الترجمة الحقيقية الوافية بالنسبة لي هي تلك التي تستفيد من كل الإمكانات المتاحة كي لا تخل بروحية النص وخصوصيته السرية المكتوبة بلغته الأصل. من كل هذا الذي قلت يمكننا بلورة رأي عن قلة المترجمين وكذلك الانتباه لأسماء مجيدة في حرفتها الترجمية عن أسماء أخرى.
وأنت صحافي ومؤسس لمجلة ثقافية مهمة في أسبانيا، وهي (ألواح) مع صديقنا المشترك الشاعر-الروائي محسن الرملي؛ كيف تقيّم صحافتنا الثقافية؟ هل هي مواكبة لهذا التفجّر الإبداعي (شعر، قصة قصيرة، رواية) أم أنها كما يراها أغلب المبدعين صحافة مجاملات وعلاقات، وتبدو لهم أشبه بمرآة مهشمة. ماذا تقترح لصحافة ثقافية جادة.. هادفة.. ومنافسة؟
- لقد حاولنا عبر مجلة (ألواح) أن نصنع نموذجاً معيناً من الصحافة الثقافية المغتربة، وحاولنا بشكل صادق أن نكون حياديين ومهمومين بالثقافة بعيداً عن الشللية وتكتلاتها. ولكن أن نكون قد نجحنا فيها بالكامل، فهذه مجرد أمنية لا غير، لأننا لا بدّ أن نكون قد وقعنا في كل ما يمكن أن تقع بها تجارب المجلات من معضلات وعواقب. والأمر على أية حال متروك للباحثين ولكل من شاركنا في التجربة، كي يضعوا ما يمكنهم من نقاط حول التجربة ككل. ما أريد أن أضيفه وهو ما لا يعرفه الأغلبية عن (ألواح) بأنها تجربة نبتت وتكاملت في ذهنية اثنين لا غير، واستمرت عشر سنين دون أن يكون خلفها أية دولة أو مؤسسة أو دعم خارجي معين، في زمن لم يكن للوسائل المعلوماتية والإنترنت فيه تلك القوة والترويج كما هي عليه اليوم. هذا من جانب، أما عن الصحافة الثقافية عموماً، فأنا أعتقد أننا نمنح الصحافة الثقافية ثقلاً كبيراً وقدرة سحرية خارقة ليست فيها. لو تمعنا النموذج الغربي لرأيناه يدور في النسق نفسه والغاية منه التعريف والترويج لا غير. لا يمكننا أن نمنح الصحافة الثقافية أكثر مما لها من دور مواكب للنموذج الثقافي في عوالمنا. من الصحيح أن الكثير من صحافتنا الثقافية قد شكلت وما تزال ثقلاً لوبياً مهيمناً على العملية، ولكن كل هذا يشيخ وينتهي لمجرد فهم الدور وأسبابه. ثم إن كل الصفحات الثقافية تقوم بمكانة المكمل في الساحة الثقافية، ونعلم أسبابها وقدرتها الترويجية لجهة عن جهة أخرى، وهذا هو الثقل الحقيقي لوجودها، لأن من ورائها مؤسسات وأسماء كفيلة بها وبسياساتها الداخلية. مع ذلك فهي جزء لا يمكن فصله عن العملية الثقافية حتى لو كانت من السوء وعدم التخطيط الحقيقي أو عدم الفهم الواضح لها. في كل العالم ومن يعش في الغرب ويتقن لغاته يدرك كل ما قلته سابقاً، ويعرف كل خيوط العملية. يبقى أن تجد صحافة ثقافية هادفة وجادة ومنافسة، فذلك وارد وموجود رغم قلته، لأن المحيط يكتنفه كل شيء، وهذا هو السحر الحقيقي للممارسة البشرية، فلا شيء مكتمل ولا شيء يمكننا أن نرتضي به كله.
اختفاء أو توقف صدور عديد من المجلات الثقافية مثل (الآداب) و(الناقد).. وغيرها؛ إلى أي شيء يعود برأيك؟ هل لتراجع دور الثقافة والأدب في بلداننا التي أصبحت مثقلة بأعباء التطرف؟ أم للقارئ الباحث عن رغيف الخبز في اللاوطن؟ أم هو قصور في المؤسسات الراعية لهذه المنابر؟ أم ماذا؟ حدّثني!
- المجلات الثقافية تبدأ بزخم وأسباب وتنتهي بأسباب مقنعة لتوقفها. يجب ألا ننسى أن كلّ تجربة تحكمها ظروف مغايرة عن الأخرى. كما أن تجارب مجلات تشكلت من قناعات فردية أو تجمعية محدودة، وأخرى وراءها مؤسسات كبرى أو دول تدفع بها نحو الاستمرارية أو التوقف والاختفاء. كلّ أسباب التواصل والاختفاء تكمن خلفها مسببات مؤسساتية أو تعطل فردي أو اقتصادي معين، وربما يكون الاكتفاء بالمنجز السابق وعدم وجود جدوى من التواصل بظهور مشاريع أخرى من ضمن الأسباب الواجبة. لست متشائماً إطلاقاً، لطالما وجد المشروع الثقافي وتطور الفنون والآداب، سيكون هناك خيط متوازٍ معها ومشروع موازٍ لها يحاكيها ويروج لها ويتحدث فيها. الرغبة البشرية في تجدد، والمشاريع أيضاً، وهذا لا يختلف في مسألة المشاريع الثقافية أيضاً.
تؤدي المجلات الثقافية العربية والخليجية بالذات دوراً يراه القارئ مهماً في نشر الكتاب مثل (دبي الثقافية- الرافد- نزوى- الدوحة- المجلة العربية).. وغيرها؛ كيف تقيّم هذه التجربة؟ وما رأيك بحركة نشر الكتاب في بلداننا؟ عديد المبدعين يشكون من صعوبة النشر بل تعذره، ما الأسباب برأيك؟
- شيء جميل أن ترى العديد من المجلات والمشاريع الثقافية تتبنى مسألة النشر، وهذا سابق لنا في الغرب، حيث تجدها تنافس في أغلب الأحيان هي والمؤسسات الجامعية دور مؤسسات النشر الأهلية، وكلها تخدم الهدف الأسمى من عملية النشر نفسها. وهذا بحد ذاته يجعل دور النشر التجارية تتنبه للمسألة بعدم استغفال المؤلف في حقوقه وطرق النشر المتبعة عادة. لقد وضعنا أيدينا على العلة وعديد المعوقات بدأت بالتلاشي، ودور النشر العربية بدأت اليوم تنتبه لأهمية المؤلف والترويج له واحتضانه، هذا طريق طويل ولكن الخطوة الأهم قد بدأت منذ فترة ليست بالقصيرة.
وأنت كاتب وشاعر مقيم في إسبانيا منذ سنوات، ماذا أعطتك الغربة وماذا أخذت منك؟ لو ترسم لي (بورتريه) للعراق وأنت بعيد عنه، بأي ريشة تبدأ؟ وبأي ألوان؟
- العراق منحني المنبت وبذرة الوجود والطلوع للعالم، وإسبانيا بعد هذه السنوات الطويلة بمثابة وطن ثانٍ لي، وليست غربة كما عليه في حالتي مع أعوام التغرب الأولى. لم أتخلَ عن العراق ولم أتطفل على أرض جديدة. فيهما تكمن ذاتي وحياتي وكتاباتي. الحق أن الأصل هو العراق، ولكن الأرض الجديدة هي المستراح. من يملك وطنين يكتب برأس منشطر إلى نصفين، أنا دائماً أقول هذه الجملة وأكررها، أنا أمضي برأس منشطر، جزء عراقي وجزء إسباني، وأحاول طوال إقامتي وطوال فترة كتاباتي الماضية والجديدة أن أوازن بينهما، لذلك وجدت حلاً هجيناً، أن أتحدث عن العراق والوضع العراقي في رقعتي الجغرافية التي أقيم فيها اليوم في إسبانيا وكل مدن إسبانيا ومناخها ولغاتها، ولكن بهم عراقي وشخصيات عراقية، نتاجاتي الكتابية هي إسبانية مئة بالمئة ومن يقرؤها بالعراقي يجدها قصصاً عراقية بحتة، حتى لو كانت تدور في مناخ إسباني، لماذا؟ إنها المزاوجة. أعتقد أن النجاح بشكل أو بآخر هو الحديث عن مواضيع إنسانية دون الوقوع بشرك مسألة الجغرافيا ومسألة الوطن لأن القصص بكل الأحوال هي قصص إنسانية، وممكن أن تكون مجردة من أي بلد، إذا كان لها هدف وغاية معينة وحبكة درامية جيدة فمن الممكن أن تنجح. أعتقد أن إسبانيا قد أثرت جغرافياً وإنسانياً وأسلوبياً وموضوعياً في كل كتاباتي وإلا فما نفع وجودي بينهم لأكثر من عشرين عاماً. لست كائناً مسيجاً ومنعزلاً عما يدور من حولي، مثلما من الصعب عليّ أن أقتلع جذوري العراقية بالمرة. إنها المراوحة والمران والتعلق والمجازفة مثلها مثل الحياة نفسها التي لا تستكين على وجهة محددة. من المؤسف القول إن اللون الرمادي هو المسيطر على صورة العراق اليوم في داخلي، ولكنني لا أعدم أن أجدني ألونها بين حين وآخر بما يشي بالأمل نحو غد مختلف قد أراه أو لا أراه.
تقولُ الروائية باسكال روز: (الكتابة محاولة اكتشاف، توازي الحياة ذاتها)؛ قل لي: لماذا الكتابة فعل مقدس لهذا الحد؟ ألأنها حاجة روحية.. متنفس.. أداة مقاومة للبلادة.. والحروب.. والكراهية.. وغدر الأوطان أم ماذا؟ قل لي: لماذا تكتب؟
لا شيء مقدس برأيي سوى الحياة نفسها. ولكن للحياة مقدرات وتبعات أخرى تجعل من البشرية قيمة معينة، وواحدة منها هي القراءة، فهي الاكتساب الروحي الكبير، والأخرى هي الكتابة، وهي التعبير الأسمى عنها. لذا أستطيع القول إنني أكتب للتعبير عن ذاتي لطالما أنها الصنعة الوحيدة التي أعتقد أنني أتقنها وأستطيع الإضافة فيها. لولا الكتابة لما شعرت بحياتي مثلما أشعر بها اليوم. أعتقد أن الكتابة قد خلقت في داخلي رغبة التجدد في الحياة عن طريقة الابتكار والخيال والتداخل مع الذوات البشرية التي تحيطني في الواقع وفي الكتابة. في النهاية أعتقد أنني أستطيع العيش من صنعة أخرى في حياتي هذه، ولكن سأكون كائناً مقصوص الجناح أو برغبة مهيضة وحياة تنقصها المتعة الكبرى وهي الكتابة.

ذو صلة