مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

ذكريات لا مذكرات(١2)

صار للتنافس في الكتابة في الجرائد حضوره عند بعض الشباب ممن استهوتهم القراءة والكتابة، حيث طورت المؤسسات الصحفية بعض المفاهيم النوعية في الجرائد، وكان من ضمن ذلك استقطاب الشباب بنشر ما يكتبونه بطرق مشجعة مثل كتابة اسم الكاتب بشكل بارز مع صورته، ووضع الموضوع في مكان بارز لمن يرى فيه أنه يبدي في كتابته ما يوحي بتطور قدراته الكتابية حسب تقدير المشرف على التحرير، واعتماد من يتقن المراسلة وإجراء الحوارات والتحقيقات الصحفية كمندوب يحمل بطاقة من الجريدة التي فسحت له المجال واستقطبته نظير مكافأة رمزية، على الرغم من أن هناك منهم من يكتب باستمرار دون مقابل، إذ إن ما يهمه هو أن يرى ما يكتبه منشوراً بشكل يدل على العناية به، لكون الكتابة في الجريدة جاذبة للشهرة وللكاتب مكانة تختلف عن غيره، وكان هذا التنافس حافزاً للموهوبين بأن واصل بعضهم في استمرار العطاء حتى صار في عداد الأدباء الشباب الذين لهم من يتابعهم ويعجب بكتاباتهم، وهناك من يدخل في نقاش مع أديب من الأدباء الكبار سناً وثقافة ويكون لكل طرف منهما من يسانده في موقفه، ومثل ذلك ما حصل عندما كتب الأديب الشاب -آنذاك- عبدالله الجفري عرضاً عن ديوان الشاعر حسين سرحان (أجنحة بلا ريش) الذي أشرف على طباعته الشيخ حمد الجاسر في لبنان، وهو الديوان الأول للشاعر، عنون الجفري موضوعه بـ(هذا البدوي بلا ريش) وبطريقته الخاصة في كتابته المتسمة بالرومانسية والهمسات المتضمنة بعض الكلمات التي لم ترق للشاعر أو أن العنوان استثاره، فكتب رداً يتسم بالحدة المطعمة بالسخرية تحت عنوان (أنا والجرادة الصفراء)، وكما ذكرت كان المتابعون من القارئين على فريقين (سرحان/جفري) ولم يكن هذا المثال الوحيد، فهناك ما يشبهه في فترته وما لحقه من بعد بين الأنداد مما أطلق عليه (معارك أدبية).
قدر لي أن أرافق قريبي الأستاذ فهد بن عباس الذي وصل إلى الطائف في طريقه إلى (ينبع البحر) منتدباً من قبل وزارة المواصلات لمراجعة حسابات وتأسيس إدارة محاسبة في إدارة ميناء ينبع. جاء إلى الطائف لتبقى شقيقتي زوجته عند الأهل وترى الطائف الذي غابت عنه أكثر من عشر سنوات، وفي الطريق إلى ينبع مكثنا يوماً في مكة المكرمة أدينا مناسك العمرة، وفي جدة قضينا يومين مستمتعين بجمالها، فهي مدينة منتعشة، ومررت على إدارة تحرير جريدة المدينة، ونصحني الأستاذ محمد صلاح الدين مدير التحرير أن أستغل فرصة وجودي في (ينبع) أن أعمل شيئاً للنشر عنها حيث التوجه أن يتوسع ميناؤها في استقبال السفن التجارية لمساند لميناء جدة، وعندما وصلنا إلى مكان الانتداب ذهبت مع قريبي إلى الميناء وكان مديره المكلف (محمد عون) ومعه من الموظفين ما لا يزيد عن الاثنين وساع وقبطان يوناني مسلم (محمد ناصوف) يقود (زورق قطر السفن) عبارة عن سفينة صغيرة ذات قدرات جبارة مهمتها قطر السفن وسحبها من وسط البحر إلى رصيف الميناء مكان إفراغ المواد التي تحملها تلك السفن، وغالباً ما تكون من مواد البناء أسمنت، حديد، جبس، وبين يوم وآخر تصل بعض السفن، فإذا ما اقتربت السفينة هب القبطان (ناصوف) ومعه بعض البحارة متوجهاً إلى وسط البحر وبيده ما يشبه البوق موجهاً بعض الكلمات المصطلح عليها بين البحارة ويدور بقاطرته حول السفينة الكبيرة ثم يعمل على الإبحار إما معها وهي تتبعه إلى المكان المخصص لها، فإذا ما اقتربت عند الرصيف قطرها حتى تلتصق بالمكان.
لم أركب سفينة في حياتي من قبل، فقد طلبنا من القبطان عندما هم مرة بالتوجه لاستقبال إحدى البواخر الكبيرة أن نرافقه ولم يمانع سوى أن اشترط أن نظل أثناء الإبحار في المكان الذي حدده لنا للوقوف فيه أو الجلوس، وحذرنا بأن لو حصل مع أحدنا دوار البحر أن لا نتحرك من مكاننا، وبقينا كما طلب منا، ينادي ويصرخ على البحارة ويتنقلون من مكان لمكان وكأنهم فوق الأرض يمازحون بعضهم ويدخنون وأنا وقريبي شبه ملتصقين بكابينة القيادة التي يقف فيها (القبطان) ويوجه القريبين والبعيدين منه، ويخاطب القبطان الآخر، كان الوقت ليلاً ولكن سريعاً ما انقشع الظلام، إذ سطعت الأنوار من السفينتين القاطرة والمقطورة، التفت وسط الأنوار وأصابني الفزع من ارتفاع الموج ودققت النظر فإذا بقارب صغير يعلو ويهبط مع الموج وبه ثلاثة أشخاص كما يخيل إلي، وفي العودة وعند وقوف القاطرة توقف القارب (لنش) بقربها ونزل من فيه يتقدمهم شخص بجسم رياضي لافت قالوا اسمه (عنيبس) يعمل مرشداً بحرياً في الميناء وهو من أهل البلد له خبرة طويلة في البحر، رجل لطيف المعشر كما غيره ممن أقمنا معهم مدة طويل نتسامر ونتنقل في مدينة ينبع الصغيرة في ذلك والوقت، وكانت لنا ومدير الميناء (محمد عون) والقبطان (ناصوف) وبعض الموظفين -نسيت أسماءهم لطول المدة- زيارات لأمير ينبع (نايف السديري) الذي أوصى بالعناية بنا جميعاً وتحقيق ما نحتاج من دار الضيافة، وكنا نستأنس بمجلسه الخاص، حيث يضم مدير المطافي (الملازم أول فاروق خشيم ومساعده الملازم إبراهيم باتي) ومدير الميناء محمد عون، ومحمد ناصوف، والموظف توفيق، شاب من أهل جدة، وآخر منتدب من الوزارة يعمل محاسباً اسمه عبدالرحمن، وبعض من أعيان ينبع، ولم تتوقف الرحلة عند السمر، فعندما يذهب الموظفون للعمل كنت أقضي وقتي في القراءة في السكن حيث إني قد حملت معي بعض الكتب وكان أهمها (وحي الرسالة) للأديب أحمد حسن الزيات المكون من أربعة مجلدات، وقد قرأته كاملاً في ينبع مع كتب أخرى منها دواوين شعر إيليا أبي ماضي الجداول، الخمائل، تبر وتراب، ورواية البؤساء لفيكتور هوجو، في وقت انفرادي بالكتب في المنزل، وبعد انتهائهم من العمل الرسمي وأخذ قيلولة قصيرة تكون هناك جولات على المدينة الصغيرة التي يلفت النظر فيها المنازل القديمة المكونة من عدة أدوار مزينة بـ(الرواشين الخشبية) ذات النقوش الفنية الرائعة، بعضها شبه مهجورة، إذ توحي بما كان لينبع من مكانة في فترة قد توصف بالذهبية -مشاهدتي كانت قبل أكثر من 40 عاماً- وما أجمل الساحل في مكان يسمى الشرم رمالة ناعمة صافية والشاطئ لا توجد به حراشف ولا نتوءات.
المدة التي قضيتها في المدينة الساحلية الجميلة استغرقت شهراً، كنت وقريبي، وناصوف، وتوفيق نذهب أسبوعياً إلى جدة لأخذ التموين اللازم، إذ نعتمد على الفواكه والخضار المعلبة، لأننا ألفنا أكل السمك وأدمناه، فبائع السمك الشهير هناك سحرنا بالطعم الذي وجدناه في ما نبتاعه منه من سمك يطهوه ويتبله بطريقة أخاذة، حتى صارنا يخيل لنا بأننا نأكل ولا نشبع (سمك حجمه صغير قد تأكله بشوكه الذي يتفتت وقت يقترب من الأسنان).
مدة الشهر كنت أسجل في كراسة بعض مشاهداتي وملاحظاتي، وحاورت مدير الميناء، ومسؤول المطافي، وندمت على عدم اصطحابي لكاميرا أصو ربها بعض المشاهد.
لقرب المدينة المنورة من ينبع نصحنا أحد المهندسين، اسمه نعمان، أن نقوم بزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوكلنا على الله.
قضينا فيها يومين وتجولنا، بعد زيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، في شارع العينية، وحارة الأغوات، والمناخة والبقيع، وغيرها من معالم المدينة، وكم كان الطبخ المديني لذيذاً، فقد استضافنا المهندس (نعمان) وهو من سكان المدينة وقريب لكاتب القصة السعودي الشهير (لقمان يونس)، مؤلف المجموعة القصصية (من مكة مع التحيات) الذي كانت له كتابات تتسم بالسخرية، كما زميله الأديب (سيف الدين عاشور)، وكان لمجلة قافلة الزيت نصيبها الوفير من كتاباتهما حيث يعملان في المنطقة الشرقية، ومن استضافنا دعا جاره، وكان جلوسنا في (القاعة) وهي جزء من المنزل ترتفع مع ارتفاع المنزل وزيادة بشكل حلزوني وفي أعلاها فتحات تهوية يصل الهواء إلى أسفل وكأنه من مكيف مباشر، كان الجو صيفاً ولم نحس بحرارة الجو المعهودة، لقد كانت دعوته للجار لها سببها، حيث كنا ثلاثة؛ أنا، وقريبي، وتوفيق، والجلسة في القاعة تحتاج إلى وسيلة تسلية، والتسلية الشائعة والمعتادة هي لعبة (البلوت) هو يريد أن يمعن في الكرم حيث يقوم بين حين وآخر بإحضار ما يقدم من أهل المنزل، والجار سيكون الرابع مكملاً نصاب هذه التسلية الرباعية الأشخاص، وقد كان الجار من اللطف بمكان رفيع في الحديث والتعامل، مثقف يحب الشعر ويحفظ منه الكثير، فقد يترنم بصوت مسموع ببعض الأبيات مما دعانا إلى أن نطلب منه السماح بالتحول من (البلوت) إلى متعة سماع ما يجود به علينا من محفوظاته، فسر بذلك، وكان هذا من بعض ما شدا به بصوت جلي ولغة سليمة تنم عن تمكن، هذه الأبيات من شعر الشاعر حسين عرب:
تركتك مسلوب الفؤاد مجافا
مضنى الهوى تتعجل الإنصافا
هيفاء ذابلة الجفون كأنما
تسقيك من نظراتهن سلافا
إن العيون إذا تضاءل نورها
رأت اللآلئ في الضحى أصدافا
وللشاعر اللبناني فارس سعد:
فُتِحَ البابُ بعد قرع لجوج
عن فم هش للسلام وحيّا
قلت من أْنتِ فاستعار وقد
جَفَّ جواباً من ناظريه نديا
أنا ليلى ألست تعرف ليلى
من ترى خلتني هدى أم ثريا؟!
قد كفاني سؤال من أنت
فلا تقس بالسؤال عليا
فتفرست في معالم حسن
طامس حسنهن وكان جليا
قلت ما لي لديك حاجة قلب
ما الذي تطلبين أنت لديا
وكانت (ظُهرية شعرية) ورد فيها الكثير مما لا يتسع المجال لذكره في هذا الحيز المحدود. شكرنا مستضيفنا على حفاوته وقفلنا عائدين إلى لينبع مفعمين بالمتعة الروحانية التي قضيناها في المدينة المنورة.
عندما عدت إلى الطائف كتبت المشاهدات واللقاءات تحت عنوان (أيام في ينبع البحر) وبعثت بها للجريدة (المدينة) دون صور، وقد فوجئت بعد أيام بموضوعي منشوراً مع صورتين كبيرتين عن ينبع -بعض المنازل ورصيف الميناء مع سفينة- واسمي قد كتب بخط بارز، وكان المنقذ في ذلك هو الأستاذ محمد صلاح الدين الذي أخبرني في وقت لاحق عندما سألته عن الصور وكيف أمنت، ولحظتها كتب للإدارة موصياً بتزويدي بآلة تصوير تسجل في ملفي كعهدة علي أن تعاد عند تركي العمل في الجريدة هي وبطاقة (مراسل/ مندوب).

ذو صلة