مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

إيقاع الحياة

تسارَع إيقاع الحياة، وتزايدت الأعباء، واستحال إنجاز كل شيء في قائمة مهامنا الكثيرة، وتسرب الوقت من بين أيدينا دون أن نشعر، أصبح وقتنا ضيقاً ونحن نراقب الساعة ونستعجل الأوقات، نتعامل في كل لحظة مع مشتتات الانتباه المرتبطة بالإنترنت، نعيش في عالم التواصل الاجتماعي الذي يحول دون إنجاز الأمور المهمة ويستهلك أوقاتنا ويقلل من سيطرتنا على ذواتنا، ويتكرر على سمعنا السؤال في نهاية العام مع مشاعر التعجب: كيف مر هذا العام بسرعة يا ترى؟!
يبدو أن الزمن يتدفق بلا نهاية في اتجاه واحد نحو المستقبل، ماضينا انتهى ومستقبلنا قادم في الأفق، وليس لنا إلا هذه اللحظة الراهنة التي ما أن تمر إلا وأصبحت من الماضي هي الأخرى، وكم تمتلئ المكتبات بالكتب التي تقدم النصح حول تنظيم الوقت واستغلاله، فيا ترى ما هو سبب هوسنا بالزمن؟ لماذا دائماً علينا فعل أي شيء وشغل أوقاتنا بكثير من المهام؟ ألا نستطيع التخلي عن انشغالنا والجلوس دون فعل شيء هكذا فحسب؟ هل حقاً يعد امتلاك حياة مزدحمة مفعمة بالأحداث دليلاً على النجاح؟

الزمن والفلسفة
الإنسان أكثر الكائنات وعياً بالزمان، وفي حالة تفاعل مستمر بمساره. فالزمان مشحون بالمشاعر الإنسانية المختلفة، حيث يتشكل بواسطة تلك المشاعر التي تعترضنا في هذه الحياة، فإحساسنا بالوقت نفسه ذاتي ونسبي، والأكيد أننا لا نملك جميعاً تجربة موحدة للوقت، لأن طريقة اختبارنا للوقت تتأثر بالعوامل الثقافية والنفسية والاجتماعية، وقد استرعى الزمان انتباه الجميع وأثار دهشتهم، ولا يوجد فيلسوف ذو اعتبار لم يدلِ بدلوه في إشكاليات الزمان، وكما هو الحال مع الكثير من المسائل الفلسفية يكمن جزء من المشكلة في صعوبة صياغة السؤال المناسب، فنحن قد لا نعلم ماهية الزمن بوجه خاص، فمحاولات فهم الزمن ليست دقيقة، إن ما نلاحظه ونشعر به ويفسره عقلنا هو آثار الزمن حين تتعاقب الأيام والشهور والسنوات، لكن السؤال الأهم عن الزمن ذاته، ما هو الزمن؟ وكيف يكون النقاش في أمر مألوف جداً عن الزمان، وفي ذات الوقت يبدو أمراً نسبياً أو منطقياً، ورغم ذلك لا نفهمه، ولا نعرف عنه سوى الأوهام، وفي الواقع لا أحد يعلم كنهه وجوهره حتى الآن، هل هو شيء مادي محسوس يمكن الوصول إليه والتحكم بمحتوياته أم هو معنى عقلي مجرد يشعر به الإنسان في قرارة نفسه؟
من متاهات إشكالية الزمن هي المشكلة التي أثيرت حوله، هل الزمان حقيقة أم وهم؟ المثالية وهي تيار فلسفي مهم تنكر استقلال الوجود، ويرون أن الزمن عملية منطقية تعتمد على العقل، وكثيرون هم الفلاسفة الذين أنكروا حقيقة الوقت، ولعل أهمهم جون ماكتاجارت، وذلك لأنه استند على السمات الخاصة بالزمان، وليس على الصعوبات المحيقة به، في استدلالات منطقية، حيث يُعد مفهوم الزمن بحد ذاته من أعقد مفاهيم الوجود التي لم يُتَوصل إلى فهمها حتى الآن، وكتب الفيزيائي كارل روفيللي في كتابه (نظام الزمن): (إن الزمن هو القالب الذي نتفاعل بواسطته نحن البشر، ذوو العقول التي تتألف في جوهرها من ذاكرة وتكهنات حول المستقبل مع العالم، إنه مصدر هويتنا).
الزمان بين النسبية والمطلق
البحث في موضوع الزمن يفرض علينا طرح المزيد من الأسئلة، كيف ندرك الزمان؟ هل هو مكون من التقسيمات التي اتفق عليها في شكل وحدات زمنية متعاقبة؟ أم هو مجرد نمط متكرر من الظواهر الطبيعية مثل تعاقب الليل والنهار وتعاقب الفصول والقمر، والسنة الشمسية والقمرية.. وما إلى ذلك من تقسيمات زمنية، ومن هذا المنطلق أشار طاهر يونس حسين في مقالة بعنوان (المفهوم العام للزمن) أنه لا ينبغي علينا النظر للوقت بوصفه محض وحدة قياس موضوعية مثل المتر والجرام، وإنما بوصفة بنية عقلية تتغير حسب التغيرات التي تطرأ على المتغيرات التي تصاحبه، ويضرب مثلاً على حقيقة علمية مثبتة أن الزمن على كوكب الأرض هو غير الزمن الكوني على الكواكب الأخرى، حيث كان يُظن في السابق أنَّ الزمن مفهوم مطلق وثابت لكل الكون، ولكن تبين فيما بعد أنه شيء نسبي مرتبط بحركة المكان، فلكل نظام حركي زمنه الخاص، مثلاً السّنة على سطح عطارد تعادل فقط 88 يوماً من أيامنا، بينما تبلُغ السّنة في كوكب الزهرة تقريباً 224 يوماً، واليوم الواحد على كوكب الزهرة يعادل تقريباً 243 يوماً من أيامنا على كوكب الأرض، أي أنَّ اليوم على سطح كوكب الزهرة أطول من عامه، فلكُل نظام في المجرة الشمسية زمنه الخاص، وخلاصة القول إن الزمن يحمل صفتين اثنتين متلازمتين تبدوان متناقضتين: فهو نسبي ومطلق معاً، أي متغير وثابت بالاختلاف بين النسبي والمطلق الزماني الذي تحدده طبيعة ونوع المدرك العقلي، أي موضوع الزمن المدرك، ودلالة ذلك أن الوقت يمر أبطأ حين نتعجله، ويمر بسرعة حين نكون في أوج سعادتنا أو قمة انشغالنا.
الزمكان
صاغت الفلسفة قبل نشأة العلم الحديث بقرون عديدة ما هو معطى للحس المشترك للزمان، فذهبت إلى أن العالم الخارجي أو الكون (كوزموس)، هو سلسلة من الظواهر يستحيل منطقياً حدوث أيها خارج نطاق الزمان والمكان، أي أن الزمان والمكان هما القالب الذي صُب فيه هذا الوجود جملة وتفصيلاً، وانتظم بفضلهما على هيئة (كوزموس) أي كون منتظم أو الكون الذي تتعامل معه الفيزياء الحديثة، أو بتعريف آخر هو المادة التي تتحرك عبر المكان خلال الزمن، كما ورد في كتاب الزمان في الفلسفة والعلم للكاتبة الدكتورة يمنى طريف الخولي، وقد أشبع المفكرون بمختلف تخصصاتهم البحث في ماهية الزمن، فقد بدأ الإحساس بتسارع الوقت والتاريخ منذ الثورة الصناعية بسبب تسارع وسائل النقل والاتصال، ومن بعدها الثورة التكنولوجية الحديثة التي عززت هذا التوجه.
ربط عالم النفس والفيلسوف جان بياجيه بين الزمان والمكان فكتب: إن الزمان مكان متحرك والمكان زمان ثابت، وأنهما بالنسبة للتفكير العقلاني والعلمي، وخصوصاً علم الفيزياء لا ينفصلان البتة، فقياس الظواهر يتم بالاعتماد عليهما معاً، بتعبير مجازي اختصره الفيلسوف البريطاني صمويل ألكسندر: إن المكان جسد الكون والزمان عقله، حيث يعتقد أن الزمان والمكان هما المادة الأولية للوجود، بينما ربط عدد كثير من الفلاسفة بين الزمن والحركة مثل أفلاطون وأرسطو، حيث اعتبروا الحركة ما يدركه الزمن العقلي مكانياً ولا تدرك الحركة المكانية للجسم، أي أن الزمان يمثل حركة الشيء وليس الحركة بذاتها، والزمان هو مقدار تلك الحركة حين تنتقل الأجسام من مكان إلى آخر، وهي ذاتها معنى الزمن وماهيته وكيف يؤثر بها، ونحن ندرك الزمن في مقدار حركة الأجسام، ونعجز عن إدراك حركة الزمن مجرداً منفرداً، بمعنى أن كل حركة هي تداخل مكاني زماني، ولا يمكن الفصل بينهما، ولا يمكن الاستدلال بإدراك أحدهما دون الآخر.
تجربة الوقت
يقول الروائي اليوناني الشهير (نيكوس كازندزاكي): (الحياة ومضة قصيرة لكنها كافية)، فالحياة هي مجموع ما يملأ حيز انتباه الشخص الذي يخوض الحياة ذاتها، فنحن جميعاً نعيش خلال الزمن ذاته ونتحمل المسؤولية الكاملة لكل قرار نتخذه مع زماننا، فمن المهم أن ندرك جيداً حين نقرر الاستلقاء ومشاهدة التلفاز -مثلاً- أننا قد أهدرنا أوقاتنا التي هي أعمارنا الفعلية، وما أن تمضي لا يمكن استردادها بأي شكل من الأشكال، وكما تصفه الخولي بأن الوقت ببساطة شديدة ينبئ الإنسان بموته وعبثية كل جهوده كما يبشره بانتظار القادم، مثل الميلاد الذي سوف يحدث والجديد الذي سوف يطرأ، فالزمان هو الذي يحمل أمل الإنسان ويأسه ومجده وتفاهة شأنه، إنه الكيان الموجد الفاني.
ولا نستطيع أن نتكلم عن فلسفة الوقت والزمن دون ذكر كتابات الفيلسوف الروماني سينيكا، وتحديداً مقالته الشهيرة بعنوان الحياة القصيرة التي كتب فيها: (ليست المشكلة أن حياتنا قصيرة، بل أننا نضيع كثيراً منها)، وهذا واقع نتعرض له جميعاً حين نسمح لأشخاص آخرين بسلب أوقاتنا وكأنها لا تعني لنا شيئاً، مما يجعل حياتنا تبدو أقصر بضياع وقتنا الثمين، ولو تعمقنا أكثر لأدركنا أننا لا نسمح للآخرين بانتزاع ما نمتلكه من ماديات، لكن حينما يتعلق الأمر بالساعات والدقائق يختلف الأمر ونتهاون ببساطة غير مدركين قيمة الوقت الحقيقية، فالوقت أمر لا يمكن الحصول عليه بعد فواته، ولا يشترى بالمال ولا يمكن أن نستعيره من آخرين أو نجده صدفة، وكما قال الكاتب والفيلسوف أنتيفون من أثينا الكلاسيكية: (النفقة الأكثر كلفة هي الوقت).
بالنسبة إلى سينيكا الوقت ينقسم إلى ثلاثة أجزاء: الماضي غير قابل للتغيير، والحاضر الانتقالي، والمستقبل غير المؤكد. وحين نجد أن الكثير من النصائح في علم إدارة الوقت تنصحنا بالتركيز على اللحظة الراهنة والوقت الحاضر؛ إلا أن فلسفة سينيكا تركز على الماضي لجعل حياتنا أفضل، لأن هويتك الحاضرة قد تشكلت في الماضي ووعيك بتجارب الماضي هو الأساس، وفي رأيي أن سبب معاناتنا مع الوقت هو غياب الحدود الواضحة والحاسمة بين ساعات العمل وأوقات الأسرة والراحة، فنحن متاحون دائماً عبر البريد الإلكتروني والتطبيقات، حاضرون في اجتماعات العمل غير الضرورية، نتفقد الرسائل والتنبيهات طوال اليوم وساعاتنا تمضي دون رجعة، إننا لا نتوقف عن العمل حتى عندما نكون خارج العمل، نشعر دائماً وكأن هناك شيئاً ما علينا فعله، وأنه يمكننا العمل لبضع دقائق إضافية. والحل يكون بالانتباه لهذه الحياة، واستخدام وقتنا بحكمة، علينا ممارسة الصوم الرقمي ومعالجة الإدمان الإلكتروني لمواقع التواصل الاجتماعي، والحرص على الفصل الصارم بين العمل المستمر وحياتنا الذاتية، للمحافظة على أثمن ما نملك: ألا وهو أوقاتنا ودقائقنا وأعمارنا.

ذو صلة