مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

دراسات علمية أم استطلاعات للرأي؟!

تميل الدراسات الإعلامية العربية إلى أن تكون مجرد استطلاعات للرأي، وليتها تفسح للرأي مساحة كافية ليظهر كرأي إنساني يعبر عن مستوى قائله وخبرته في القضية أو القضايا المطروحة، وينبئ عن اتجاهاته ومواقفه منها، لكن الباحث بدلاً من ذلك يصمم أداة/ استبانة صماء يعمل جاهداً على أن تكون مغلقة من كل جهاتها، فلا تحوي سوى مجموعة من الأسئلة أمام كل منها ثلاثة أو أربعة اختيارات: موافق جداً، موافق، غير موافق، غير موافق أبداً. أو: دائماً، أحياناً.
ويحاول هذا المقال استعراض عدد من الأعراض المرضية التي تعاني منها هذه الدراسات.
ولأنه لا يهدف إلى التجريح والإهانة، فهو مضطر حين الاستشهاد ببعض الأمثلة إلى عدم الإشارة إلى مصادرها، إلا أن أبرزها رسالة الكاتب نفسه للدكتوراه.

1 - الاقتصاد على وصف الظاهرة محل الدراسة لذلك يستخدم المنهج الوصفي أو المسحي مع غياب أو ضعف الجاذب التحليلي.
2 - الاعتماد الكلي في دراسة ظاهرة أو قضية علمية على آراء مجموعة من المبحوثين رغم أن للقضية أبعاداً وعوامل متعددة، وهي تحتاج إلى استقصاء واسع يدرس واقع الظاهرة كما هو فعلاً، لا كما يتصوره مجموعة المبحوثين مهما كانت القيمة العلمية التي قد تحملها آراؤهم. فالوثائق والإحصاءات تكاد تكون غائبة عن البحوث الإعلامية العربية، رغم أنها تسهم إسهاماً فعالاً في وصف كثير من الظواهر المدروسة وتساعد الباحث على تحديد تساؤلاته وفروضه العلمية وصياغتها، كما تساعده على وضع البدائل المناسبة.
3 - عدم التدقيق في القيمة العلمية للمبحوثين، ومدى الإسهام العلمي الذي يمكن أن تقدمه آراؤهم في الظاهرة المدروسة، والأهم مدى قدرتهم على التعبير عن آرائهم بصدق وموضوعية. والذي يحدث في كثير من الدراسات الإعلامية أن الباحث يلجأ إلى فئة طلاب الجامعات، لسهولة الوصول إليهم نسبياً، رغم أن هذه الفئة من أقل فئات المجتمع قدرة على إدراك القيمة العلمية لصدق الرأي وموضوعيته، وهي تجنح إلى اختيار الإجابة التي تعتقد أنها توحي بما هو إيجابي وجميل، وكثيراً ما تتناقض الإجابات في الاستبانة الواحدة.
4 - الحرص الشديد على أن تكون أسئلة الاستبانة مغلقة، ورغم أن لهذا النوع عدة مزايا بحثية، إلا أنه منزلق علمي خطير، فهو يضيق أفق العمل العلمي بشكل كبير ويسطحه بشكل مخل، حتى ليتحول ما يفترض أنها دراسة علمية أكاديمية إلى مجرد استطلاع صحفي للرأي أو ما يطلق عليه دراسة صحفية.
5 - عادة ما تصنف هذه الدراسات كدراسات وصفية أو مسحية، وهذه ظاهرة أخرى تستحق المعالجة، فهل استطلاع آراء مجموعة من الناس المعنيين بظاهرة أو قضية ما يعد بحق وصفاً علمياً لهذه الظاهرة؟ لا يمكن أن تكون كذلك، لعدة أسباب أهمها: أن وصف الظاهرة يحتاج إلى مباشرتها ودراستها من قبل الباحث نفسه، ثم إن الاستبانات الوصفية تلك كثيراً ما تظهر نتائج متباينة يصعب أن يخرج الباحث منها بصورة متكاملة للظاهرة المدروسة. لذلك تتحول دراسته إلى مجموعة من الجداول الصماء، ويكون أضعف جزء فيها هو الجزء التحليلي الذي يجب أن يكون زبدة الدراسة والهدف الرئيس منها، لأن الباحث لم يجد علاقات أو ارتباطات علمية بين مجموعة العوامل التي قارنها ببعضها.
6 - يبالغ هذا النوع من الدراسات في وصف إجراءاته المنهجية، حتى تتحول هي نفسها إلى غاية، ويمعن في تبرير كل خطوة يخطوها رغم أن كثيراً من تلك الخطوات ليس إلا عملاً بديهياً سئمه الباحثون. ولعل مرد ذلك إلى أن معظم الباحثين يجرون دراساتهم العلمية تلك بهدف الترقية العلمية، وهذا يعني أنها ستخضع للتحكيم العلمي. والتحكيم العلمي بدوره يقدس تلك الإجراءات العلمية ويمنحها أهمية كبرى عند تقييمه للبحث والحكم عليه، ربما لأنه يعلم أن نتائج الدراسة وتحليلاتها واستنباطاتها ستكون أقل قيمة علمية من إجراءات البحث.
وفي سبيل الالتزام الشكلي الدقيق بخطوات المنهج العلمي وإجراءاته يأخذ الباحث في شرح أهمية البحث، ثم يعرض لأهدافه، ثم يحدد مشكلته، فيسرد تساؤلاته أو فرضياته، ثم يرسم حدوده الزمانية والمكانية، ثم مجتمعه وعينته، ولن يخرج ما يقوله الباحث في كل واحد من هذه العناوين عما كتبه في أهمية البحث. ولذلك فهو يجهد نفسه في تغيير الأساليب وطريقة العرض، فمرة يستطرد ومرة يوجز، ومرة يعرض الأفكار مرسلة، ومرة يقسمها إلى نقاط، لكن المحتوى العلمي متطابق مكرر.
7 - يغرق هذا النوع من الدراسات في سرد المعلومات الوصفية حول عينة الدراسة، فقد أشغل الباحث نفسه -حين صمم استبانته- باستقصاء عدد من المعلومات التي ليس لها أي أهمية علمية في دراسته، ثم ملأ عدداً كبيراً من صفحات دراسته بعرض جداول تزدحم بالأرقام والنسب المئوية التي تبين عدد المبحوثين، وجنسهم، وأعمارهم، ودخولهم الشهرية، وحالتهم الاجتماعية، جنسياتهم، وأماكن إقامتهم، رغم أن كل هذه المعلومات أو معظمها ليس له أدنى قيمة علمية، فهي لن تؤثر مطلقاً على نتائج الدراسة وتحليلها، لأنها ليست ضمن العوامل المدروسة.
8 - مازالت المراكز العلمية العربية تفترض أن كل موضوع أو قضية أو ظاهرة تدرس فلا بد أن تكون جديدة جدة تامة، أي أن أحداً لم يتطرق إليها أبداً قبل هذا الباحث، وأن أحداً من المتخصصين -فضلاً عن عامة المتعلمين والمثقفين- لا يعلمون شيئاً عنها. وهذا الافتراض جعل الباحثين -خصوصاً في مرحلة الدراسات العليا- يبدؤون بحوثهم من نقطة الصفر في المدخل النظري للدراسة، ولو تجرأ أحدهم ولم يفعل ذلك وخرجت رسالته في أقل من خمسمئة صفحة لعد المناقشون ذلك أعظم مثالب الرسالة. وقد نتج عن ذلك تضخم كبير في أحجام الرسائل العلمية من جهة، وتكرار ممل، وهدر مستمر للجهود والأوقات والأموال من جهات أخرى.
9 - وأخيراً لعل هذه المظاهر المرضية وغيرها هي التي تتسبب في فقدان تلك الدراسات للقيمة العلمية ويجعلها حبيسة الأدراج أو أغلفة المجلات العلمية التي لا يقرؤها إلا كاتبوها، في الوقت الذي يعتمد فيه أساتذة الجامعات وهم الباحثون أنفسهم إلى الاعتماد على الدراسات الغربية وتبني ما توصلت إليه من نتائج رغم اختلاف البيئة وبعد الزمان والمكان.

ذو صلة