مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الدائرة

لم يصدق الأستاذ سيد مدير الإدارة عينيه وهو يرى المرآة تلاعبه، أو ربما تسخر منه، حركاتها تلك جعلت قلبه يكاد يتجمد في صدره وتخرج مقلتاه من مكمنهما دهشة قبل أن يكون هلعاً مما يرى.
المرآة لا تعرض صورته كما ينبغي.
يضحك فتعبس له.
يعبس فتضحك له.
أخذ يصرخ طالباً فراش مكتبه عاشور الذي جاءه مهرولاً، طلب منه الوقوف أمام المرآة، لاحظ عاشور أن ملامح الأستاذ سيد تلعب أمامه فلا الفم سكت، ولا الخدود هدأت، ولا العيون ثبتت، ولا الشعر القليل أعلى رأسه توقف عن الاهتزاز، أطاع عاشور الأمر ونظر للمرآة، فإذا بها تظهره ناعماً حليق الذهن متوقد العينين بهي الطلعة كأنه الأستاذ سيد في أوج زينته.
شده سيد من يده وأبعده بقوة وهو يصرخ فيه طالباً منه الابتعاد، وعاد يتلصص على صورته في المرآة.
عجوز أشيب شعر الرأس، ذقنه البيضاء النابتة كإبر مغروزة في عمق الجلد لكي توخزه لا أكثر، بينما العينان رماديتا الأحداق تبخان النار بحقد داهم، تحتهما انتفاخات وجلد يشكو الجفاف.
تحسس وجهه بيديه ومر بهما على شعره وهرول مبتعداً جاحظ العينين لاهثاً يسأل نفسه من الذي دبر هذه المؤامرة، هو يعرف موظفي الإدارة عنده وألاعيبهم، وكان دوماً يقظاً لكل حركة أو لفتة تصدر منهم، لا تمر ملحوظة من بين يديه ولا يغفر خطأ تقع عليه عيناه، ما داموا قادرين على الخطأ فهو أيضاً قادر على الجزاء، لكن أن يصل بهم الأمر لتلك الدرجة فهذا ما لا يجب السكوت عليه. مرآة الحمام الخاص به استطاعوا تجنيدها ضده، لا يدخل الحمام إلا فراش مكتبه عاشور، لابد أنه اليد التي استطاعوا بها الوصول إليه، لابد من رد كيدهم في نحرهم، لن ينتصروا عليه مهما فعلوا، إذا كانوا حواة يرهبونه بألاعيبهم السحرية فهو يعرف كيف يبطل سحرهم ويقلبه عليهم وبالاً، لن ينتصروا عليه أبداً، أبداً.
لقد عاش مستغرقاً في مشاغله وحياته الفارغة من أي مرح وسعادة رغم مظاهر الفرح والحياة الصاخبة التي يعيشها راسماً دائرة حوله اسمها العمل، لا يغادرها ولا يسهو عنها لحظة، حتى الزواج لم يفكر فيه ربما خشية أن يأخذه من العمل ويزحزحه عن تلك الدائرة التي عشق تواجده داخلها، أصبحت حياته العمل صباحاً وهو في الإدارة والتفكير في العمل طول الوقت وهو بعيد عنها، لكن هذه المرآة الملعونة أيقظته على شيء طالت غفلته عنه، أنه لا يبتسم قط، لقد خاصم الابتسام، صارت ملامحه عصية عليه، أو ربما الابتسامة نفسها قررت أن تهجر ملامحه، أنكر هذا الكلام وقرر أن يكذبه عملياً، وقف أمام المرآة وفتح فمه، أصبحت الملامح بشكل البكاء، رفع صوته مقهقهاً، بدت القهقهات كنواح ثقيل، نادى عاشور الفراش رأى البسمة على وجهه وشعر به بسيطاً خالياً من المشاكل التي بلا حلول التي يواجهها، فكر أن يسأله كيف يبتسم، لحظتها مرت به خاطرة لم تمر به من قبل، تمنى أن يرجع بسيطاً ويتخلى عن وظيفته، يتخلى عن مراقبة العمل وتحليل التحركات وتفسير الإشارات وفحص كل ورقة بدقة تكاد تصل إلى الشك.. فهل أدركت المرآة هذا؟
وكيف تدركه، وإذا كانت أدركته بالنسبة له فكيف تظهر عاشور هكذا، هل لأنه ينظفها دوماً، اقتربت منه بحكم العشرة، وما معنى أن تظهر كلاهما بصورة مغايرة للأصل؟ مؤكد هي مؤامرة من هذا العدو الغادر عاشور الذي يظهر الابتسام في الوقت الذي يخفي صدره فيه مشاعر المقت، لابد أن يحاسبه، سيحاوره أولاً، يجبره على الاعتراف بجريمته.
دق الجرس بجواره، أقبل عاشور مبتسماً:
- ما رأيك فيما رأيت؟
- مرآة مجنونة.
- هل هناك مرآة مجنونة وأخرى عاقلة؟
- منذ أيام انتبهت لصورتي الجديدة عليها لكني لم ألق لها بالاً.
- لماذا؟
- محال أن يحدث هذا، من أين، وكيف؟
صرفه وعاد للمرآة، وجهه الذي يظهر عليها يبدو له بعيداً عن سيطرته، يحادثه كأنه وجه ليس له.
- ما رأيك في حياة أخرى؟
- أي حياة؟
- حياة خالية من المتاعب التي تعاني منها؟
- كيف؟
- حياة بسيطة، مشاكلها سهلة.
- هل يمكن هذا؟
- نادى الفراش
- حاضر
ذهب إلى المكتب وضرب الجرس، أقبل الفراش عاشور فوراً
- تعالى
- تحت أمرك
كلم المرآة
- نعم؟
- ادخل
- حاضر
راقب الفراش وهو يقف أمام المرآة من جديد، بدا ناعماً حليق الذهن متوقد العينين بهي الطلعة كأنه مدير الإدارة في أوج زينته.
صرخ الأستاذ سيد وهو يمسك بكتفيه ويقرب وجهه للمرآة أكثر فأكثر:
- لماذا؟
- اسألها
خطرت له خاطرة رضي عنها فوراً ورأى فيها رداً قاسياً على تلك المؤامرة المحبوكة التي أرادوا صيده بها، قال لنفسه منتصراً أنا الذي سأصيدهم بسلاحهم، وطلب من عاشور أن يحمل المرآة ويضعها في صدارة الإدارة على أن توجه الكاميرات المتصلة بمكتبه بالمرآة مباشرة ليرى كل من ينظر فيها، وجلس بمكتبه يراقب الناظرين إليها، النساء يقفن ليضبطن زينتهن دون تذمر، الرجال يختلسون لحظات يطمئنون فيها على لياقتهم، لا شكوى ولا تذمر، هب واقفاً مواجهاً الصمت والقنوط من حوله، هي مؤامرة عليه، اتفقوا ألا يعلنوا الحقيقة، هو يعرفهم ويعرف تدبيرهم، سوف يظل يراقبهم حتى يضبطهم متلبسين.
انتبه أن الحمام بلا مرآة ولن يثق بأحد من الإدارة ليشتري له أخرى، نزل بنفسه واشترى مرآة جديدة وعاد بها للإدارة، وضعها مكانها ونظر إليها.. عجوز أشيب شعر الرأس، ذقنه البيضاء النابتة كإبر مغروزة في عمق الجلد لكي توخزه لا أكثر بينما العينان رماديتا الأحداق تبخان النار بحقد داهم، تحتهما انتفاخات وجلد يشكو الجفاف. صرخ بقوة:
- المؤامرة أكبر من المرآة، لقد استمالوا الحمام كله.
كتب مذكرة فوراً بتغيير كل ما في الحمام، مقسماً بأغلظ الأيمان أنه أبداً لن يسمح لهم بهزيمته.

ذو صلة