مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

موعد لم يحن

لم أتصالح معه قط، رغم انتصاره على أصدقائي وإخوتي وجيراني في كل معركة خاضها، هو الفائز دون منازع، ولا سبيل لهزيمته ولا حتى مجرد تأخير قدومه، يخيفني، يفزعني مجرد التفكير فيه، أحاول الابتعاد عنه قدر استطاعتي، فيقترب مني أكثر، بأعراض قدومه. حاولت التصالح معه وقبوله، فلم أستطع، كلما فكرت فيه، خفته أكثر.
أتخيل قدومه عليَّ وأنا نائمة، فأنتفض فزعة، أعراضه تتداعى حولي في كل ركن من أركان البيت، في أكوام الأدوية الكثيرة التي باتت تحاوطني بظهور مرض جديد كل يوم، يضاف إلى قائمة أمراضي السابقة، عكازي الدائم الاصطحاب، سنوات عمري التي فرت، ذاكرتي التي باتت تخدعني، خطوط وجهي وبياض شعري.
ورغم كل ذلك، أتجنب التفكير فيه، فيباغت ذاكرتي رغماً عني، ويذكرني بنفسه وباقتراب مجيئه. ليته كان فارساً قديماً يواجه بمروءته قبل سيفه، ولكنه كحروب العصر الحديث يسقط علينا كقنابل هيروشيما ونجازاكي، فلا وجود للمواجهة وربما في أمل الانتصار، ربما يختبئ في ركن مظلم بداخلنا على هيئة خلية سرطانية كامنة متحفزة، أو انسداد تدريجي في شرايين القلب، وربما يختبئ بين عجلات سيارة مسرعة، أو ينتظرنا بين أمواج بحر سحيق، يحيط بنا في كل مكان.
في هذه الليلة، كان الهواء بارداً ككل ليالي الشتاء، يتسرب من النوافذ رغم إحكامهم إغلاقها عليها، والوقت بطيء يمر كسلحفاة مريضة طال بها العمر، فاجتمع عليها المرض والعمر بجانب طبيعتها الأصيلة، وساعات الليل آتية ومعها أفكار وذكريات ويأس، والأشجار حول منزلها ذابلة منهكة في انتظار ربيع ربما يأتي عليها وربما لا يأتي.
كانت جالسة في مكانها على نفس الكرسي الذي شاخ هو الآخر مثلها، وتجعدت أطرافه، وبهتت ألوانه وتغيرت ملامحه بفعل الزمن وجلوسها عليه، أدارت عينيها في السكون الذي يحاوطها، تلمست جسمها، وطبقات البطاطين التي تغطي ركبتيها دائمتي الصراخ في الشتاء، همست لنفسها حتى لا تسمعها نفسها: لمَ أنتظر الموت؟ فماذا لو واجهته واستعجلت أنا مجيئه؟
لن أدعه يستفرد بي مثل كل ليلة، الليلة سأنهي مهزلة الانتظار. ولكن كيف؟ أجابتها نفسها: الانتحار، أمسكت برأسها لتحاوط الأفكار التي انبعثت فيه فجأة، حاولت محاولتين جادتين للقيام بمساعدة العكاز، ولكنها استطاعت بالفعل في الثالثة، اتجهت نحو المطبخ، نحو مفتاح فرن الغاز، وقفت صامتة، ثم عادت هامسة لنفسها: الموت خنقاً بالغاز هو استكمال انتظاري للموت، أنتظر حتى يتعبأ الجو بالغاز فيأتيني الموت، لا، هذه الميتة، مرعبة، لا تليق بي، يجب أن أذهب أنا إلى الموت وأقف أمامه وأنادي عليه فيأتي ويلبي، لا بد أيضاً أن يكون موتي ممتعاً، كفاني من الألم ما ذقت، أطرقت برأسها، وكأنها توافق على اقتراح مقدم لها من داخلها، هزت رأسها بالموافقة، نعم أستمتع وأنا أموت، ما أجمل الموت في متعة. والمتعة هي خروجي ليلاً من البيت، الموت لا بد أن يكون في أكثر شيء نحبه، وأنا أحب البحر، ولكن منذ سنوات لم تطأه قدماي، وليكن! أكملت خطواتها مع عكازها ناحية غرفتها، أسندت العكاز وفتحت دولاب ملابسها، تفحصتها جميعاً ثم أخرجت فستان سهرة قديم، وبعد معاناة ارتدته، نظرت إلى المرآة وتبسمت: نعم، هكذا يكون الموت. تناولت صاحبها العكاز الموافق دائماً على خطواتها، واتجهت نحو الباب وخرجت تعرف وجهتها جيداً، ناحية البحر، لا تبدي اهتماماً بشيء ولا بأحد، تنطوي على نفسها.
كان البحر غاضباً كعادته، ولا أحد يعرف سبب غضبته الدائمة، وكانت أمواجه شديدة ترتطم بالصخور فتحطم الضعيف منها، وترجع فتعود أقوى لتحطم صخوراً أقوى من السابقة، تذهب وتعود تروح وتجيء قوية مهدارة بعد أن اختبرت قوة عدوها في المرة الأولى، لتعرف بأي قوة تواجهه في المرة القادمة.
كان أفق البحر كله مهجوراً من الناس إلا بعض المنقذين الواقفين بعيداً، المنتظرين جثة غريق آت من بعيد، أو قدراً أصاب سابحاً كان أمله اجتياح البحر ليلاً كسباق مع أصدقائه.
اقتربت أكثر من البحر وأسندت ذقنها على قمة عكازها، وأخذت تتفحص في مياهه وفقاعاته البيضاء، دائماً ما كان يخيفها في الليل، ولكنها الليلة، قررت مواجهة كل ما كان يخيفها.
للحظات، أحست وكأن أصداء الأمواج تحاول أن تثنيها عن قرارها، أنينها الداخلي تسمعه طيور النورس، وصخور البحر والمياه.
كان قد أوحشها صخب الأمواج بعد أن فقدت سماع أي صخب، هذا الاتساع الرحب من المياه والأمواج يسعها، بعد أن ضاقت بها كل السبل.
همست في نفسها: الماء أحن من ألم الحرق، ومن شنق الحبل، ومن انتظار سريان سم في الوريد.. نعم، الماء.
اقتربت أكثر من البحر، فانزلق العكاز فوق الطحالب الخضراء التي تحته، وكادت تقفز بها في المياه، لكنها تماسكت، تصاعدت أنفاسها وزادت ضربات قلبها من اقتراب أجلها المختار، رجعت للوراء خطوة، خطوتين، وبدأت تستعيد اتزانها وتحسست بيمينها وجهها، خطوط طولية وعرضية وفجوات تحت عينين تعبتا من النظر في الأحوال مرة ومن الدموع على ماضٍ قد كان جميلاً.
اقتربت خطوة للبحر، الموت على بعد خطوة أو خطوتين، وبعده راحة من الوحدة ومن انتظار الموت أو انتظار ولد من أولادها ظنته جاء لأجلها، ففاجأها أنه جاء ليأخذ كتاباً قديماً له من مكتبته التي كانت قبل أن يتزوج ويتركها، أو بنت من بناتها خافت من ملام الناس من تركها أمها حين ماتت وحدها ولم يدلهم على موتها إلا رائحة تعفن جثتها.
ألقت نفسها فاصطدمت رأسها بالصخور فأصيبت، ولكنها لم تكن إصابة كافية لحضوره أمامها، وتكون النهاية، ابتلعت الماء وابتلعه أنفها وأذناها معها، تشبثت بالصخور التي أصابتها منذ قليل.
صرخت: لا أريد الغرق، الموت غرقاً جنون لا أتحمله، الموت يسحبني للداخل ليواجهني هناك، وصوت الأمواج يقتلني فزعاً قبل الغرق.
أنقذوني، أنا أغرق.
بدأت في الاستسلام، وبدأت اليدان المتشبثتان في الانفلات من الصخور، وبدأت المياه في ابتلاعها، وإذا بصوت رجل عجوز آت من بعيد مع رجلين من رجال الإنقاذ: ها هي، أظنها ما زالت حية. أسرعوا إليها.
كان صوته كفيلاً بتمسكها بآخر نفس في صدرها للحياة.
وبسرعة قفز الرجلان في المياه، وأخرجاها على الشاطئ متعبة مغمضة العينين بالكاد تخرج أنفاسها، فيأتي صوت العجوز مرة أخرى: أنت بخير يا سيدتي، اطمئني.
غادرها المنقذون بعد أن تأكدوا من أنها سليمة ليس بها شيء، حين سمعوا صفارة الإنقاذ تستدعيهم للعمل في إنقاذ غرقى آخرين لا أحد يعلم حالتهم.
فتحت عينيها على صورته، عجوز في الثمانين من عمره، تكسو وجهه تجاعيد شديدة يلبس نظارة ويرتدي بلوفراً من الصوف الثمين الأسود يشي عن أناقة وهندام قديمين. جلس بجانبها قائلاً: لم تستطيعي مواجهته، أليس كذلك؟
أجابته والدموع تملأ عيونها:
وكيف عرفت؟
ضحك وقال: لأني ما جئت الليلة إلا لمواجهته أيضاً، وبنفس طريقتك، كنت قد أقدمت على مثل ما أقدمتِ عليه، ولكن تشبثك بالحياة بعد أن اختبرتِ الموت، جعلني أعيد النظر في الأمر، وأفكر لماذا نهرب بالموت؟ الوحدة هي السبب، أليس كذلك؟
صرخ بصوت عالٍ، ملعونة الوحدة، ملعون اليأس الذى ألقى بنا لنكون طعاماً لأسماك البحر، نترك كل هذا البراح، لنُسجن داخل بيوت بنوافذ حديدية أغلقوها علينا، علينا أن نُحيي الأمل بداخلنا وبعدها: فليأتِ الموت كما شاء.

ذو صلة