مجلة شهرية - العدد (571)  | أبريل 2024 م- رمضان 1445 هـ

الشهرة

كان يريد أن يشتهر، أن تسلط عليه بقعة صغيرة من الضوء، لا بأس أن ينساه الناس أحياناً طالما أنهم يتذكرونه بين حين وآخر. رأى في لحظة عابرة لم يتأكد من صفائها أنه قد يكون من المستحسن أن يقيمه العالم على ذلك الأساس، خصوصاً أن الكثير منهم لا يفعل ذلك مع ما يقدمه ويبدعه من قيمة. يؤكد على هذا البعض القليل، والنادر جداً ممن حظي بتقديم نفسه إليهم، ثم نسوه، نسوه تماماً بعد مدة قصيرة، قصيرة جداً.
رمى مراراً عدم تقدير إبداعه إلى الحظ، فللحظ لعنة تصيب الكثير من المتفوقين، تغمرهم في خبءٍ وخفاء، تحجب بطريقة عبثية أعين الناس عنهم. ثم إذا مات بعضهم، أخذت تري الجمهور مواضعهم وآثارهم ليستدلوا بها على كنوزٍ لم يروها من قبل وقد كانت بين أيديهم، وكأنها تسخر من ذلك المبدع الذي رحل. إنها طريقة قاسية ومؤلمة للقيمة المؤجلة التي نحصل عليها بعد فوات الأوان. خشي من تلك الفكرة أن تحدث له حينما بلغ هذه الصورة.
تخطر في باله عبارةٌ ذكرها أحد الأدباء في كتابٍ قرأه يتحدث عن أهمية الموهبة، تشير إلى أن الحظ قد يلعب دوراً كبيراً في بروز أحد وتواري آخر، وأنه -والحديث للكاتب- لم يجد سبباً مقنعاً أو منطقياً لفوز أولئك الذين يملكون موهبة أقل بجوائز، في حين أن من يستحقها بالفعل لا يكاد يستطيع الحصول على الفرصة ذاتها.
لم يجد في ذلك العزاء الحقيقي، رغم أنه شعر بنوعٍ من السكون والتضامن، لكن لحظات اقتناعه غالباً لا تستمر مدة طويلة. حفظ تلك العبارة وآمن بها حيناً من الوقت كمسكن، بل استرجع بها بعض الخيبات السابقة التي تزيد في حجم الضغوطات عليه، لكنه حين شرع في أن يخفف الاعتماد عليها راجعها مرةً أخرى ووجدها تكاد تكون أقل من السطرين اللذين حفظهما، وأكثر إيجازاً من ذلك المعنى الممتد في عقله، كما أنها مكملة لما فوقها، لم تكن تلك الجملة مستقلة أبداً، بخلاف ذلك الانطباع الذي تركته فيه أولاً.
تقتحمه في غمرة تلك الضبابية، صورة واضحة لأبي حيان التوحيدي حينما قرر إحراق كتبه وهو في أواخر عمره. ضن بها عندما اعتقد أنها نفيسة بما يكفي لئلا تمرَّ بمرحلة الشك وتغدو عرضة للتشويه وهي تُهمل ولا يكاد يعرفها الناس. كان يؤمن بكل تأكيد أن ذلك ليس عدلاً. وهو ذاته ما يعتقده كاتبنا الشاب، أجل الشاب، بالرغم من أنه لو كان لاعباً لكرة القدم مثلاً لاعتزل منذ ما يقارب ستة أو سبعة أعوام، بل ربما طالبه جمهور فريقه بالاعتزال منذ عشر سنوات، لكبر سنه.
ليست لديه مشكلة فعلية مع المشاهير، وإن كان يترفع في أغلب الأحيان عن مشاهدتهم. لا يحسبُ أنه مغرور، رغم أن زوجته قالت له ذلك ذات مرةً، وتخاصما خصاماً كان له الأثر الأكبر في تجنب المناقشات التي تطلق أراءً صريحة أو أحكاماً مطلقة عن أي جانب قد يعود إليهما، رغم ثقتهما الكبيرة ببعضهما.
لذلك كان يتحرج في كثير من الأحيان لمجرد أن ينقل لها معلومة سبق أن سمعها، أو قرأها، أو شاهدها، حتى لا يبدو أنه يمس شخصها بذلك، لكنه لا يتحرج من أن يشكو لها بين فينةٍ وأخرى بأنه ما زال مغموراً رغم كل ما يقدمه، ليحظى منها حين ذلك بدعم عاطفي لا يتجاوز الفراغ الذي بينهما، الفراغ الذي لا يبدو صغيراً.
استبعد خواطر عدة توحي بأن ذلك كائنٌ عليه ومقدر، وليس له إلا أن يتعايش معه ويقبل به، بيد أنه غالباً ما يثور كلما شعر بأنه ركن إلى هذا. إن ذلك تسليم، وهو ما لا يحب القبول به، لأنه لم يطلع على الغيب أو يعرف النتيجة ليقرَّ بما ليس في يده، وبما لم يحن وقته. إننا نستبق أقدارنا، ونحنُ لم نتخير بعد. يقول ذلك مراراً، ثم يخفق في الإيمان بذلك أوقاتاً أخرى.
فكَّر في عدد من المرات، أنه ربما يكون لذلك التواري سببٌ يعود إليه، طبعٌ غالب في مزاجه، أسلوبه، صلته بالمجتمع المحيط، يفرض عليه هذا الموضع الذي لا يرتضيه. يميل إلى ذلك كلما اعتلاه اليأس الذي يخبره أيضاً بشكل غير لائق: أن ما يكتبه، أو يخلقه يستحق النظر ولا شك.
مرَّ بكل تلك الظنون والتنبؤات، وأقام في سياق كلٍّ منها مدة طويلة وهو لا يكاد يستقر، يتنقل بينها، يقطع طرقاً غير مرئية بين أقصاها وأدناها ولا يقف لأي لحظةٍ عابرة عند تلك الخاطرة التي تلكزه كلما ضعف أو رقَّ حين تحاول أن تفقده الثقة فيما يقول، يكتب، يفكر. هناك فقط تظهر قوته، ونباهته، وصمته الذي يقوده إلى الأمام.
كم تمنى أن تدوم تلكم السكينة، وذلكم الهدوء والاقتناع، لربما وجب عليه حينها أن ينتقل إلى همٍّ آخر، رغبة أخرى، طموح مختلف، لكنه يتقوقع خلف تلك الرؤية دونما نتيجة، أو تشخيص صحيح يستطيع أن يصل به إلى النهاية، النهاية التي يعتقد أنها لن تأتي.
افتتح حسابات في كل مواقع التواصل، شارك في الأغلبية، أبرز بعض قدراته، أنشأ بعض النصوص، ارتجل القليل من الأبيات. عرض كتبه الثلاثة. نشر بعض الاقتباسات منها، الإطراء الذي نابها من الذين لم يعودوا يتذكرونها أو يعرفونه. أحبَّ أن يريهم نسخها المتبقية. صورها لهم صورةً احترافية استطاع فيها أن يغبش كومة من حطبٍ لا تشتعل سريعاً تشتبك ببعضها، عقب أن أزاح طرف سخان الماء المرقط بالصدى، المتحرر من صندوقه الذي فتحته عوامل التعرية بلا شك. لم يبدُ أنه التقط تلك الصورة في منور شقته. كان يتباهى بها كلما ألقى شيئاً هناك. بعث إثر ذلك بالبريد الممتاز للمهتمين نصيباً من النسخ، ولم يكونوا كثيرين في الحقيقة: ثلاثة متابعين، وصديقتان في (الفيسبوك). إحداهنَّ تقطن في نفس مدينته كما كان واضحاً في عنوان بريدها الذي بعثته، ففضل خشية الكلفة أن يوصلها لها بنفسه عند أقرب متجر من موقعها، فرفضت بحزم لم يستسغه، لتلغي صداقته بعدها بيومين.
كان وهو يتجول بين الحسابات ومواقع التواصل يقرأ ويشارك، ويرد ويسأل، ولكنه لا يجد الوقت الكافي لصنع محتوى خاص بتلك المواقع، وإذا ما أضاف شيئاً ما هنا أو هناك لم يجد تفاعلاً، وكأنه خلق ليتكلم ولا يسمعه أحد. مرَّ على الكثير من التغريدات والمنشورات، ووجد بعضها لا يزيد عن رفيع أسلوبه ولا بديع صياغته شيئاً، بل إن عدداً غير قليل منها ركيك ركاكة واضحة. حاول ألا يجعل لذلك الأمر في نفسه شيئاً له صلة بالمنافسة. استبعد من نفسه أن ينفس على أحدٍ وإن كان يستحق ذلك، لذا آلى ألا يتابع هؤلاء، أو يصادقهم، أو يعترض كل ما يتقاطع معهم، ولما وجدَ أنه بعد مدة يتحرى ذاك الفعل ويكاد يكون ملتزماً به، خشي أن يدخل بطريقة وأخرى في تلك المعمعة. إنه يفرض على نفسه في ذلك الالتزام أن يتعقبهم في فكره وتصوراته. ما يفعل الإجبار على الإقصاء والإبعاد وضوضائهم يصدع رأسه؟ إن في فكرة الإلحاح على الطرد أو التجاهل رغبة متخفية بالمتابعة والاهتمام. وهذا ما لا يريده حقاً. فضل فيما بعد أن يخفت من حدة فضوله بذلك الأمر، وأن يمضي عفو خاطره وطبيعته دون أن توقفه عقبات نفسه قبل الآخرين.
لم يسلم، لم يتركه الوقت لذلك، ولم يؤنس وحدته المكتظة بنفسه، بنشاطه وإبداعه. ارتمت الظروف في طريقه، تكالبت عليه نجاحات الآخرين الزائفة. شقت التعاسة في جوفه طريقاً مظلماً. شاهده حظه التعس، تعاطف معه، لكنه لم يستطع فعل شيء. انكب على الناصع من آماله وأحلامه، انكفأ على ميزانه الذي صنعه بيده، ولم يجد الكفة الأخرى. لمح وهو يسترجع سطري ذلك الكتاب إياه الشهرة وهي تجري بجانبه دون أن تنظر إليه، يتبعها سربٌ من الجراد، لم يكن متأكداً في لمحته تلك إذا ما كان الجراد يتبعها أم يطردها.

ذو صلة