كنت طالباً في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة (1989 - 1992م) أدرس في قسم اللغة العربية، لا أذكر أن أستاذاً جامعياً في القسم دعانا إلى فعالية ثقافية في نادي جدة الأدبي، ولا حفزنا على الحضور في مجلس أدبي أو صالون ثقافي مع أننا طلاب في قسم معني بمثل هذا الحراك.
كنت أعلم أنّ هناك أسماء كثيرة لها مواقف أيديولوجية من بعضها، لكنني ما كنت أتصور أن يصل الأمر إلى القطيعة المعرفية ومن ثم الاستعداء.
جئت إلى الجامعة في العام الذي رحل فيه الدكتور عبدالله الغذامي إلى جامعة الملك سعود في الرياض، لكن آثاره ما زالت باقية، فلا يكاد اسمه يغيب عن موقف، أو حدث، أو وجهة نظر، إما من خصم كان له منه موقف، أو من معجب كان له مؤيداً وبه متأثراً، لكنّ الخلافات التي حدثت حول الحداثة وكان للدكتور الغذامي سهم فيها ألقت بظلالها على الوضع داخل قسم اللغة العربية بشكل عام.
في مكتبة صغيرة داخل السكن الجامعي في أبرق الرغامة، وقعت عيناي على اسم الطيب صالح، فقد وجدت مجموعة من رواياته تباع في هذه المكتبة، ولأن اسمه علق في ذاكرتي بالصدفة فقد كانت روايته: (موسم الهجرة إلى الشمال) واحدة من الأعمال الروائية العربية التي كتبتُ عنها بحثاً في مادة الأدب الحديث التي كان يدرسها لنا الدكتور عبدالعزيز السبيل. لا أعلم هل كانت هذه الرواية ومعها روايات أخرى، المدخل الأول لحكايتي مع الأدب، ليس بوصفه مادة دراسية، فقد كنا ندرس الأدب وعصوره، والكتابة وفنونها في مقررات القسم الدراسية، ولكن، بوصفه شغفاً، وامتداداً لحياة الناس وعوالم الأدباء فيما بعد، أم أنها جاءت إلى نفس متعطشة فكانت مصدراً من مصادر الارتواء؟!
بعد تخرجي في الجامعة وعملي معلماً للغة العربية في محايل ورجال ألمع تعرّفت عن قرب على إبراهيم طالع الألمعي في المدرسة التي زارني فيها مشرفاً تربوياً، وتجدّدت علاقتي بالأديب إبراهيم شحبي، معلمي للغة العربية في المرحلة المتوسطة، فكنت أغشى جلسات الأدب في منزله، تأخذنا الكتابة والقراءة والكتب وأسماء الكتّاب وصفحات الثقافة في الجرائد اليومية إلى عوالمها. ساعات يومية كنت أجدد فيها علاقتي بالأدب مع إبراهيم شحبي.
في مكتبته قرأت العديد من الروايات، وقرأت عليه الكثير من كتاباتي الإبداعية والنقدية، قرأ علي قصائد طازجة كتبها، ولم يحفل بها، ومقالات وقصصاً منها ما نشر ومنها ما لم يرض عنه إلى اليوم.
تحاورنا في الكتب والقصائد، ونثرنا على البساطة ووداعة القرى الكثير من الآراء حول ما يعجبنا وما لا يعجبنا.
كنت عاشقاً لأحاديث الأدب، أغشى المنتديات الثقافية، وتصيبني رعشة كلما اهتديت لمجلس أو صالون أو ملتقى أو منتدى فيه حديث عن الأدب والثقافة والكتب، بل أكاد أجزم أن الفائض من وقتي منذ ثلاثة عقود لم يكن يتجاوز القراءة والمشاهدة والاستماع.
لم تبق هذه العادة لنفسي فقط، بل تحولت مع الوقت إلى مذهب من مذاهب العشاق، أخذت على عاتقي مسؤولية أن أشيع هذه الفضيلة في الأوساط التي أعمل فيها، فدعوت الطلاب الذين أدرسهم إلى زيارة المكتبات، وحضور مجالس الأدب، ونصحتهم بالقراءة. كنت أبالغ كثيراً في وصف المتعة التي تجلبها لنا هذه العادة، وأسعد كلما اهتديت إلى طالب يحب القراءة، ويحرص عليها.
في المدارس التي عملت فيها معلماً دعوت الأدباء إلى حوارات مباشرة مع الطلاب، فكان دخول إبراهيم طالع وعلي مغاوي وإبراهيم شحبي وحسن ناصر الشوازي وإبراهيم ماطر الألمعي إلى تلك المدارس حدثاً جديداً وغريباً، فيما كان تنظيم الزيارات الطلابية لأدباء في بيوتهم مغامرة أخرى في حيز اجتماعي ضيق، ومتأثر بالمعطيات المكانية والزمانية، ومع ذلك كنا نختار المتفق عليه، ونمضي.
كانت الزيارة الأولى مع عدد من طلاب المدرسة التي أعمل فيها معلماً إلى الباحث والأديب محمد حسن غريب، لأول مرة يتعرف الطلاب على مكتبة خاصة، ويقتربون أكثر من شاعر كتب القصيدة، واعتنى بالبحث والتصوير والتأليف في تاريخ المكان، وثّقنا تلك اللحظات بحوار مفتوح معه نشر بالصور فيما بعد في صحيفة المدينة. ولأن مذهبي في العشق لم يتوقف عند هذا الشعور فقط، بل دعوت زملائي المعلمين في تعليم اللغة العربية وزملائي المشرفين التربويين في إدارة تعليم رجال ألمع إلى مشروع في القراءة (ادفع واقرأ) نفذ في سنتين، استجاب له من استجاب، وحاربه وقلل من شأنه من قلل، ومع ذلك لم يتوقف هذا العشق، فدعوت صاحب أحد المنتديات الأسبوعية الخاصة في محافظة رجال ألمع في رسالة مكتوبة إلى ضرورة خروج لقائه الأسبوعي المحدود في بيته بفئة معينة من الناس إلى المهتمين بشكل عام، وقد استجاب، فكانت لقاءات منتداه في وقتها حديث المهتمين.
كنت - من أجل هذا المذهب - عضواً مؤسساً في منتدى العميرة الثقافي، وعضواً مؤسساً في مجلس ألمع الثقافي، ومن الأعضاء المؤسسين لجماعة السرد في نادي أبها الأدبي، وصاحب فكرة ومؤسس مجموعة حَرْف في جمعية الثقافة والفنون في أبها، وتطلّعت قبل هذا وبعده لتأسيس (مقهى ثقافي) تحت مظلة نادي أبها الأدبي يجمع الفنون كلها (التشكيل والمسرح والقصة والرواية والموسيقى) قبل أن يكون هناك شريك أدبي، ومقهى ثقافي، لكن هذا التطلّع اصطدم بالسائد في تلك الفترة الزمنية التي رفضت الفكرة المختلفة، وكانت تركن للتعايش مع السائد، والمتفق عليه.
كل ما سبق في هذا المذهب مثبت بشواهد وصور وأعيان، منها ما نشر، ومنها ما ينتظر النشر، لكنني آثرت كتابتها في هذا المقال، ليس من أجل تضخيم الذات، ولكن، لأثبت أن لي مذهباً في مذاهب العشاق، أحببته وأخلصت له.