مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

عبد السلام بنعبد العالي.. تأملات في مختبرات الكتابة

تستهدف هذه القراءة الحفر في خلفيات ومرجعيات مشروع الكتابة والراهن، عند المفكر والمترجم عبدالسلام بنعبدالعالي، بغية اكتشاف ما يطرحه من أسئلة وآفاق، تحثنا على إعادة التفكير في الكتابة الفلسفية، وعلاقتها بالذات والوجود واليومي، وقضايا النقد والأدب.
ينطوي المؤلف الأخير (مُسَوَّدات) على تمثل مجموعة من الأسئلة من قبيل: هل نحن كقراء مطالبين بتنقيح وتشذيب، وتصويب الزيف المؤقت الذي يطال الكتابة، وإعادة إنتاج النص المكتوب؟ هل كل كتابة تتمثل بمثابة مقاومة للتزييف المؤقت الذي يطال الحقيقة؟ هل الكتابة بالفعل بتعبير جاك ديريدا إرجاء للحقيقة وتأسيساً للاختلاف؟ أليست فكرة (مُسَوَّدات) حنيناً رومانسياً من أجل العودة إلى الطبيعة في مواجهة الثقافة، ثقافة العصر والاستلاب الذي تمارسه التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي بالخصوص، ومن ثم مقاومة للسلطة والهيمنة؟ وهي أسئلة لا تنفص عن الخلفيات التي يصدر عنها الكتابين المذكورين في العنوان.
لقد جاء العنوان نكرة على صيغة الجمع ليدل على هذه الخفة التي تتحول إلى استعارة للحياة، وشكل للتفكير الفلسفي، لأنه في البدء كان التزييف، كما يؤكد في بداية المؤلف، وليحيل على مرجعية اللامحدود، ويسائل مركزية الحقيقة، مفككاً الثنائيات المضمرة التي تؤسس الوجود اليومي للذات الإنسانية اليوم. ولعل العنوان يحيلنا على رمزية فكرة كتابه (القراءة رافعة رأسها) من حيث كون القراءة لا تنفصل على الكتابة كما جاء في الكتاب السابق الذكر، مما يجعلها إنتاجا وتحويلاً. (ص:10)
لا نعدم إشارات ضمنية تتأمل الثنائية الأنثروبولوجية في بطن المؤلف، كما نستشف من خلال استعارة الطرق التي (تعكر صفو الطبيعة) في أحد مقالات الكتاب، كما لا نعدم خلفيات ومرجعيات متباينة ينطوي عليها خطاب (مُسَوَّدات) تتوزع بين فكر الاختلاف والإرجاء، ونقد المركز وخطاب الهيمنة، بالإضافة إلى هاجس نقد السلطة وإنتاج المعرفة، ونقد الحداثة وما بعد الحداثة.
إن كتاب (مُسَوَّدات) لعبدالسلام بنعبدالعالي استمرار لما نحته في كتابه (بريكولاج) من حيث التفكير بصيغة الراهن. فالعنوان اسم نكرة يحمل رمزية الكتابة بوصفها اللانهائي والمنفتح، مما يدل على أن أنساق الكتابة تقاوم مركزية وأحادية التفكير، وتحفر في إنسانية الهامش، وتؤسس لفعل الاختلاف من خلال أسلوب يتمثل إنسانية الذات، ويخلق جواً من (الندم الفكري).
شكل الأسلوب في هذا المؤلف كما في المؤلفين المذكورين، نسقاً يتجاوز نطاق اللغة ذاته. فالأسلوب هنا هو الشخص ذاته إذا استعرنا عبارة جورج لويس بوفون، من حيث ما يضمره (مسودات) من مرجعيات فكرية، بدءاً من الفلسفة اليونانية، ومروراً بديكارت وهيدغر ونيتشه، وإدموند هوسرل، ووصولاً عند جاك ديريدا. إذ يمكننا أن نتحدث داخل خطاب (مُسَوَّدات) عن أنساق فلسفية مضمرة ملغومة بجمالية أسلوب يستجيب لتطلعات القارئ المعاصر.
هكذا يمثل خطاب (مُسَوَّدات) دعوة للتفكير الفلسفي في اليومي عن طريق فكر الاختلاف، والكثافة الأسلوبية. ومن ثم، تراهن الكتابة في (مُسَوَّدات) على استقطاب القارئ الراهن، من خلال التخلص من مجزرة القراءات الصحفية التي تبتر روح النص أحياناً، وتختزل مضامينه، وتَجنُّب تشويه روح الفكر التي تبعث الحياة في حياة النص في أحايين أخرى، وذلك، عبر التحرر من ثقل القراءة الأكاديمية، وما تُسَبِّبه من ضيق في التنفس، قد تؤدي إلى موت النص. فهو استمرار لما بدأه في (بريكولاج) من حيث بناء لغة فلسفية جديدة تواكب الراهن وتحاور المخاطب وتتأمل في الفكر الفلسفي، بوصفه مختبراً لإعادة تدوير الأفكار والقضايا، بحيث يشتغل بالفيلسوف بما توفر له من أدوات. ففي البريكولاج لا يذهب الفرد بعيداً، بل يتأقلم مع ما يتوفر له كي يخوض غمار البحث، ويتفاعل مع تحولات المعطى ومخاض الكتابة، إن لم نقل غمار الحياة ذاتها.
إننا في هذا الكتاب، بصدد كتابة مختلفة تقترب بالفلسفة من الأدب من جهة، وتبني جسور الصلة بين الفلسفة واليومي. فيتحول التأليف إلى (خفة الكائن التي نسير حولها)، واستعارة للحياة التي تغرينا كلما تحررت من ثقل الوجود، ومورس فعل التفكير بالخفة.
لا يحاكم الفيلسوف التزييف في الواقع، ولا ينهض بدور الواعظ بقدر ما يعري الحقيقة بوصفها (وجوداً سلبياً ومؤقتاً) تنكشف من خلال الاختلاف والإرجاء ص: 24 فـ(طريق الحقيقة ليس دائماً طريقاً مستقيماً، وليس هو (أقصر بعد بين نقطتين)؛ فغالباً ما نتوصل إليه في (جو من الندم الفكري)، وبعد طعن في المباشرة) ص: 40 وهو الجو والبيئة الجديدة التي يخلقها كل من عبدالسلام بنعبدالعالي وعبد الفتاح كيليطو كل من موقعه.
إننا أمام بداية تشكل بوادر اتجاه في الكتابة. فعلى عكس ما أشار إليه مؤلف هذا العمل، ليست المقالات الخفيفة الظل، الثقيلة في ميزان القراءة، تمثل شتاتاً من المواضيع وأجزاء متفرقة، فما يفرقها هو ما يوحدها وهو جمع الشتات عن طريق التحايل.
إن لغة (مُسَوَّدات) لا تنطوي على سلطة تُكرس المركز، وتعكس أحادية الخطاب، بل تنزع إلى طَرق الهامش وتَعْرية تَرسُّباته، كما لا حظنا من خلال نقد موقف بعض الفلاسفة الألمان من حرب غزة -وبخاصة هامبراس- بوصفه مَثَّل موقفاً ينقض مبدأ الاختلاف الذي يقوم عليه التفكير الفلسفي، فضلاً عن نزوع الكاتب إلى نقد مركزية تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والتي فشلت حسب الكاتب، في أن تحل محل العقل الفلسفي الإنساني، وأن تحاكي عواطف الذات الإنسانية.
يجادل الكاتب ويحاور ويحاجج في هذا العمل، القارئ المعاصر الذي حاول تغييب ذاكرته لصالح الآلة وبعض المظاهر الحديثة، دون أن يعي ويفكر كما هو الأمر بالنسبة لمقال حول لباس الجينز. فالجينز ارتبط (بالعمال اليدويين ورعاة البقر الأمريكيين والعمل اليدوي وقساوة العيش.. لما يتمتع به من قدرة على التحمل، فكان رمزاً للروح الشعبية التي تسودها المساواة) 58.
إن الجينز نسق ثقافي واجتماعي، يتجذر في الذاكرة، فضلاً عن كونه رمزاً للتمرد والهامش، قبل أن ينتشر ليصبح لباس جميع الأعمار والطبقات والأجيال. هذا الاستقراء التاريخي والتفكير في قضايا الراهن والذي يتقاطع فيه الأنثروبولوجي بالتاريخي، يجعل الكاتب ينتهي إلى أنه لباس يكتسب أبديته، انطلاقاً من كونه ينطوي على تناقضات، فهو لباس المهمشين والمتمردين. وفي الآن نفسه لباس الطبقات البورجوازية -يؤكد الكاتب. وهي مقاربة تكشف المضمر الفكري، متمثلا في كساد الفكر البنيوي وأهمية (لغة المُسَوَّدات).
يكفي أن نتأمل القضايا التي أدخلها الكاتب إلى مختبر (مُسَوَّدات): الطريق، الجسر، اللباس الجينز، الكوفية المسافة صفر، مواقف الفلاسفة من حرب غزة، المطرقة التكنولوجيا، الذكاء الاصطناعي، اللعبة الكروية، الشعر، الجسد الخوف، الغرب والعرب، عوائق الفلسفة في العالم العربي، الإعلام وصناعة الرأي في ظل حرب غزة؛ لكي ندرك بأن الأمر يتعلق بإيقاظ حس التفكير، والتأمل في ظواهر اليومي، وإعادة صياغة تصور للكتابة يتماشى مع لغة القارئ المعاصر، وبالتالي (لا يمكن للفلسفة اليوم أن تكون إلا تفاعلاً مع نبضات الحياة المعاصرة بهدف مقاومة ما يسودها من أشكال البلاهة، لخلق المسافات التي تفصلنا عنها، وهي تستدعي، تبعا لذلك، كتابة أقرب إلى الاستجابة اللحظية لما لا ينفكّ يتجدّد)، كما أكد على ذلك في كتاب (بريكولاج).
قد لا نبالغ في القول إننا بصدد تشكيل بوادر لغة مدرسة تتقاطع داخلها الخفة (بالمعنى الفلسفي)، من خلال تحرير الكتابة من سلطتها الأكاديمية عن طريق نقعها بملونات الفكر المرح عليها. المدرسة التي يمكن أن تتشكل على ضوء كتابات عبدالسلام بنعبدالعالي وعبدالفتاح كيليطو. فالأول يفكر بالنقد، ومن خلاله، عن طريق الأسلوب بوصفه فضاء لتشكل هوية النص. والثاني يفكر في الفلسفة عن طريق الأسلوب بوصفه مدخلاً لاكتشاف اليومي من خلال لغة فلسفية، تنهض على (الاستعارات التي نحيا بها). فـ(الفلاسفة الكبار هم بالضرورة أسلوبيون كبار) ص: 87، وهذا يعني أن بناء العالم سيستند على هندسة تروم التفكير في بيئته، وتحولاته.
يتحول الأسلوب إلى رؤية تُخصب فعل التفكير الفلسفي، وتشتغل على تضعيف البحث في الوجود. ورغم المرجعيات الثقافية والفلسفية التي ينطوي عليها هذا الأسلوب في التفكير في العالم، والتي تنهل من الثقافة اليونانية بالإضافة إلى مرجعيات ما سمي إلى وقت قريب بالنقد الجديد بنوعيه الحداثة وما بعد الحداثة، كما عاينا مع رولان بارت، وموريس بلانشو، وجاك ديريدا؛ فإن عبدالسلام بنعبدالعالي ما فتئ ينشغل برؤية جديدة في مجال التفكير في الموجودات، وقضايا اليومي تنصهر داخل الكتابة الفلسفية.
إن حضور توابل الأسلوب في خطاب (مسودات) جاء ليضفي نكهة (لذة النص) على الدرس الفلسفي. ومن ثم، تمثل الأسلوب بوصفه قضية وسؤالاً وتجاوزاً لحدود الأسلوب الضيقة، كما يظهر في الأدب، وكما رأينا مع البلاغة المعممة والبلاغة الجديدة بشكل عام في النقد الأدبي الحديث.
في هذا الإطار، يستشهد الكاتب بعبارة (الحدود لا حد لها) والتي تُلخص فعل الكتابة ذاتها بما في ذلك الكتابة الفلسفية بوصفها (مُسَوَّدات). ذلك أن (مسودات) كتابة تستعصي على التصنيف كما نلمس من خلال العنوان وقول الكاتب (فلا سبيل إلى إحاطة تامة بمعانيه.. لا يتمكن من بسط سلطته على النص لحصر معانيه وضبطها والتحكم في المتلقي). ولعل كتابة الـ(مُسَوَّدات) حسب عبدالسلام بنعبدالعالي، تتقاطع مع تصور الترجمة بوصفها عملية البحث عن نواقص النص الأصلي، من خلال التفكير في نقل المعنى.
إن الترجمة التي أولاها الكاتب في هذا العمل اهتماماً خاصاً من زاوية كونها شكلت حواراً فلسفياً، وإعمالاً للفكر من وجهة نظر الكاتب نفسه؛ فهي قضية لا تنفصل عن التفكير الفلسفي، تساير رؤية كاتب (مُسَوَّدات) للعالم من خلال عين الفيلسوف المفكر. فتتحول الترجمة إلى عملية قراءة فلسفية (مُسَوَّدات) نصوص عصية على الحقيقة. وفي هذا الإطار، يحاول الكاتب قراءة القراءة عند رولان بارت باعتبارها مفتاحاً من مفاتيح الأنساق التي ينطوي عليها فعل الكتابة كما تتصوره (مُسَوَّدات). تجدد هذه الأفكار إلقاء الضوء على قضايا القراءة في كتاب (القراءة رافعة رأسها) وفكرة الكتابة من حيث كونها فعل بريكولاج أي لغة تقترب من اللحظة الراهنة لكي تعيد تدويرها وتحويلها عبر الحجاج الفلسفي.
مثّل خطاب (مسودات) تَطَلُّعاً لمواكبة ذهنيات القارئ المعاصر، وفضاء للتفكير في أنساق الكتابة بوصفها لغة التفكير في اليومي ونقد المركزية، والهيمنة والانفتاح على النقد الأدبي كما تجلى في الاتجاهين مع: الحداثة وما بعد الحداثة. ففكرة خطاب (المُسوَّدات) تنطوي على هاجس استعادة الهامش، والتفكير في قضاياه، وصياغة لغة فلسفية تتأسس على أسلوب يجسد مواقف مما يجري في العالم.

ذو صلة