مجلة شهرية - العدد (591)  | ديسمبر 2025 م- جمادى الثانية 1447 هـ

هل ثمة خطابٌ ثقافي رقمي معاصر؟

إن من أهم الركائز الأساسية في صناعة أي خطاب ثقافي يضمن هوية الكائن البشري يأتي عبر كمٍّ من المحاور الجدلية التي تكوّن نظامه الاجتماعي، ورؤيته للحياة، واستجابته لأسئلة الواقع الدائرة، ومما لا شك فيه أن هذه المحاور تتشكل عن طريق جملة من الأنساق التي تتناول العِرق وما يتخلله من سمات بيولوجية، والبيئة وظواهرها الطبيعية التي تُعنى بحالة الطقس، ومزية التربة من حيث التكوين والنشأة، والمعتقد وما يلتصق به من اعتبارات غيبية، فضلاً عن العامل الجيني الذي يتدخل في حيوية الأمزجة بتقلباتها التي تقوم على السلوك والتصرف وفاعلية الارتداد الحيوي الذي يتهيأ عبر جهازه العصبي، وقد يستوفي هذا العامل التركيب الفكري والنفسي الذي يرمم قابليته على المقاومة والمداومة في استجلاب أي فعل إنساني كان أم حركي يتولاه أو يتعاطى معه، وقد تشترك مسببات عديدة في إعادة تدوير سياقه العام تبعاً لمستحدثات الأوان بتمثلاتها القارة. ولعلي أجد أن التثاقف الذي يصنعه العالم الرقمي الجديد كشف الغطاء عن كثيرٍ من الأسئلة الحتمية التي أحاطت بنا وتربينا عليها، وأصبحنا جزءاً من مخرجاتها، لتكون هذه المعارف الحديثة من ضمن الروافد التي تهيئ إنساناً عصرياً على اختلاف طبقاته الفكرية.
واقعاً، أجد من الضروري التوقف عند سؤال جوهري أعدّه متناغماً حيال هذه الصناعات البرامجية الذكية التي تعالقت في حقيقتها مع صيرورة الكائن البشري واشتركت في تأهيل مقرراته: هل بإمكان هذه التقانات العالية الدقة أن تحوك لنا خطاباً يؤسس لمرحلة قادمة؟ خطاباً على مستوى اللغة والتشكيل المعني بصياغة الجملة إن كان صورياً أو لسانياً دالاً في مضمونه ومحتواه؟ وهل بمقدورها أن تعمل فارقاً على المستوى الذهني في حال لو استقرّت بنسيج مفاهيمي معين وصارت تحتكم لقانون يضمن حقوقها الملكية والأخلاقية؟ هل إن المسوّغ الوحيد في الاحتكام نحو أسئلة كهذه هو عدم امتلاك الآلة الرقمية وساطة تعريفية تدرك جوانية المفرد وتعي كنهها؟ وإن حفلت بهذه السمة البشرية وامتلكت مدركات حسية عبر تطبيق برمجي ذكي له القابلية على قراءة ملامح الوجه ونقرات الأصابع لتتضح حقيقته عبر بصمته التي يقوم بوضعها، فضلاً عن استقراء أسلوبية الجملة وجرسها حيال انتقاء المفردة وطرحها، هل يثمر ذلك عن تصدير منهجية خاصة ومعتمدة في المؤسسات الحكومية أو المدنية تفضي معاييرها إلى إدارة الشأن البشري؟ هل ثمة مشتركات مهنية بين الآلة الرقمية وبين الإنسان في سبيل تدوير عجلة الحياة والاستحصال على نتائج مختصرة في الوقت وذات كفاءة كبيرة؟ كيف ينظر الإنسان المعاصر إلى صناعة محتوى رقمي يتمثل عبر المونتاج الفِديوي الفاعل الذي يحاول أن يجسد محاورات مرئية عن المعرّفين على الصعيدين الفكري والإنساني عبر إنتاج دوبلاج بصري أو مزامنة صوتية تظهر حيويته عن طريق هيئات بشرية غلبها الموت منذ عقود أو شخصيات جادة في محتواها ليتعاطى معها فيبدي رأياً باتجاهها وكأنها استطاعت أن تخترق ذاته ليتخذها مادة مهمة كونها تثير في داخله نزعات جوانية لها حساسيتها المفرطة من حيث الموقف، على الرغم من إيقانه بأنها مجرد صورة رقمية لواقع افتراضي مهمل؟ هل ثمة خطابٌ محترف يتسلل عبر هذه المدونة له تمرحلاته العلمية التي تنمو بالتتابع ليهيمن على الذهن والذوق والماهية؟
أولاً علينا أن نفصّل المقومات التي باستطاعتها أن تصنع خطاباً تقانياً إن جاز لنا التصريح بذلك على وفق المفهوم والمعيار لتلك الصناعة. أجد أن قوام هذه الصناعة يتركز على عنصر مهم ألا وهو اللغة أو لغة الحاسب الآلي (computer language). فاللغة عامل ديناميكي متحرك بل وظيفي ناقل يتردد باتجاهين (المرسل والمستلم) غرضه إيصال الفكرة، وهنا يظهر لنا أن البرامج الحوارية الذكية والآلات التقانية ذات المعالجة العالية لها لغتها العلمية الخاصة والمكتوبة تبعاً لمهامها البرمجية وغرضها المعني بتنفيذ أمر مستقل، وبحسب الحاجة الفعلية التي تترتب على ذلك الأمر. ففي حال لو أبدى برنامج حواري مثل (deepseek) أو (chatgpt) استعداداً لفتح نقاش مع رفيق بشري له أو إسداء رأي بشأن ما، يتعين عليه أن يبيّن الوسيلة الدالة للتعبير والمشاركة. وهنا من المفترض أن أشير إلى تعريف اللغة التقانية للآلات الذكية وبيان أوجه التشابه مع اللغة البشرية التي تتداول بها المجتمعات؛ فالاثنان أداة تصريف المهام والمشكلات، لكنهما يختلفان عن بعضهما من حيث الجذر والبنية التي تكوّن السياق النصي، فاللغة التقانية جذرها مجرد وبنيتها العلاقات الكمية، وهذا لا يمنع من أنها قادرة على أن تخلق لنا مدونة من الحكي عبر التوالد الناجم من سلسلة البيانات التي تُزوّد بها الشبكة، على الرغم من أنها لا تستطيع أن تنتج تراكيب لغوية عالية كونها خالية من الإدراك الذي يفي حقيقة المفردة، لكنها تستجيب لأغلب الأسئلة الكونية التي يطرحها الإنسان.
العامل الآخر في ماهية إعداد الخطاب هو الرؤية (vision)، ولعلي أجد أن هذه السمة تحتاج إلى بصيرة كونها سمة مفكرة ذات فاعلية سامية تولد عبر اشتباك المحاور الجدلية لتخرج لنا بمحصلة موجزة، لكنها محصلة قائمة على خوارزمية تتعامل على وفق إحداثيات لتهب لنا حقائق ذات دقة عالية. نعم، إنها حقائق سليمة لكنها لا تحمل سمة ماهوية؛ فالجملة المنطقية الرياضياتية في استقرائها للنظام الآلاتي تختلف اختلافاً كلياً عن الجملة المصاغة على وفق النمط الهجائي، فالأول طرح لا يقبله التفاوت يُفصح عن نفسه بتعبير جبري، أما الثاني فملتزم بجوهر المفردة.
العنصر الثالث والأخير هو التكهن والاستشراف (prediction and forecasting)، وهذا الأمر لا يثبت في حال عدم تحقق الرؤية، كون المنظومة البرمجية بعموميتها لا تستطيع أن تبادر بتوليد أسئلة من تلقاء نفسها أو تتفاعل ضِمناً في وحدتها الآلاتية إلا إذا طُلب منها ذلك، لتحتكم إلى علاقة اللغة مع المستخدم فقط. فلو استقرأت ذلك عبر مخرجاتها فإنها حصيلة لتثاقف بيانات وليس رأياً ناجماً عن فكر مستقل بذاته، كونها مذكرة معلوماتية لا تعالج السؤال الإشكالي بل لا تنتجه إلا على وفق مقررات بشرية، فهي أداة داعمة وليست منتجة مفاهيم. وفي حال لو سُئِل أي برنامج محاور ذكي له القابلية على التجاوب بصورة واعية مع الكائن البشري عن طريقة تفكيره وماهية القواعد التي عن طريقها يمتثل للأجوبة التي تطرح عليه، سيجيب بكل صراحة بأنه كائن تقني لا يصل إلى مستوى الإدراك الحسي والشعوري الذي يصله الإنسان، وهذا واقعٌ محض لا يخالف الحقيقة، إذ ليس بإمكانه أن ينتج مصطلحاً فكرياً أو معرفياً على وفق فاعليته هو من دون تنويه أو إشارة من قبل المستخدم البشري.
حقيقة الأمر، أجد أن البرامج الذكية المشكلة عبر الذكاء الاصطناعي بمحتواها الرقمي على اختلاف اشتغالاتها في المعالجة، استطاعت أن تنتج لنا خطاباً ثقافياً، لكنه خطابٌ بيني متداخل في محتواه بل هجيني -فلنسمّه هكذا- في صفاته ومعارفه، وذلك بسبب التأثير الكبير على جميع شرائح المجتمع. ولعل طبيعة العوالم الرقمية التي أنتجتها الثورة الصناعية الرابعة وثّقت لحياة مغايرة بدءاً من الشريحة التي تدّخر سجل الإنسان الشخصي مروراً إلى أفلام الخيال العلمي التي تصنعها البرامج الاستشرافية العالية في مجال ابتداع الأفكار وتنفيذها على أرض الواقع لتصل إلى مرحلة عالية من الدقة، فضلاً عن الابتكار الأكثر أهمية في تاريخ الكائن البشري وهو الروبوت الذكي الذي تناصف مع حقيقة الإنسان ووجوده. ولعلي أصل إلى نقطة غاية في الأهمية حول مضمون العوالم الرقمية التي تنص على أن كل هذه الانقلابات العلمية أصبحت تمثل سياقاً حياتياً لتحدث تحولاً مهماً على المستويات كافة، لذا علينا أن نتوقف كثيراً عند المعجم الثقافي الذي وُلد في هذا الزمن المتداخل في الهوية والمتعالق في الطرح بين الكائن البشري والرقمي.

ذو صلة