في أي حقل معرفي هناك محددات وتعريفات لذلك الحقل، وكذا الأدوات المشكلة لفهم طريقة عمله. عندما يُذكر الحديث عن الثقافة، يتبادر إلى أذهاننا ما هو مكتوب أو مرسوم أو مصوَّر، كالكتب، اللوحات، الصور، والأفلام. لكن ثمة عوالم أخرى، أكثر خفاءً، تخطّ سردها وتتنفس في الظل. عالمٌ من الشمّ، واللمس، والصوت، والمذاق، تُبنى فيه الذاكرة لا بالحبر، بل بالهواء المشبع برائحة المطر، وبصوتٍ عابرٍ من راديو قديم، وبملمس جدارٍ لم يعُد يظلل أحداً.
تلك الحواس التي نغفلها رغم أنها الأشد التصاقاً بالعاطفة، والأعمق حضوراً في الذاكرة؛ جرى تهميشها في خطابنا الثقافي لصالح حاسة البصر، الحاسة التي نصّبها عصر الصورة ملكة متوّجة على عرش ما بعد التدوين. فقطار الثقافة ليس ما نراه من ركاب الدرجة الأولى فقط، بل ما يسكن في قضبانه من أصواتٍ وروائح، ما تمور به العربات الخلفية من ضحكات ولمساتٍ وأذواقٍ تشكل النسيج الخفي، والمخفي في المعالجات التلوينية والتدوينية بخاصة.
ربما آن الأوان أن نصغي لما أهملناه طويلاً، أن نعيد الاعتبار للحواس التي تكتب ذاكرتنا الجمعية بطرق لا يدركها البصر، وأن نطرح أسئلة جديدة عن كيف لرائحة القهوة تنثال من قدرها كحمم تطفئ صقيع الوديان؟ كيف لما يحدثه ملمس الأحجار، ورطوبة الأيام تنساب من الشقوق مثل دموع المدينة؛ أن يتركا أثراً يفوق عشرات النصوص، بل كيف يختزن أزيز موجات الراديو، ذاكرة أجيال كاملة؟
الرائحة.. ذاكرة جمعية
في مجتمعات الهوية، لا تُعدّ الرائحة تفصيلاً ثانوياً في الحياة اليومية، بل تشكّل عموداً فقرياً للذاكرة الجمعية للهوية الثقافية ولغة جمعية تربط الأجيال عبر التجربة الحسية المشتركة. فحين يتصاعد قتار قدر في بيتٍ أو دخان بخور من متجر، فإنه يستدعي حلقاتٍ من الحنين، ويوقظ في الذاكرة صوراً عن مشاعر شكّلت وجداناً جماعياً. وهو ما تفسّره (الذاكرة الشمية)، عن كيف أنّ لرائحة العشب المقصوص والأقلام الملونة أن يرسما لحظة وجدانية غابرة في الطفولة.
في السودان، أصبحت لحظات الاستدعاء هذه أكثر كثافة في الوقت الراهن، بسبب التشرد والنزوح، في كل ما يتعلق بالتفاصيل اليومية، من طقوس الضيافة، إلى الأعراس والمناسبات الدينية، وحتى وداع المسافر واستقبال الضيف، فمع كل نكهة لطعام تعيدك إلى أزقة وحواري (السوق العربي) بوسط الخرطوم، إلى عاشقين يمسكان بأيادي بعضهما تحت طاولة كافيتيريا على الناصية، أو شلة أصدقاء يتجادلون في أيهم أحق بدفع الحساب إلى جوار (كشك ساندويتشات) على هامش الطريق المغلقة.
ومع كل عود بخور تنتقل بك الذاكرة إلى بيت الجدة ونسوة الحي يتحلقن حولها، من تمشط شعرها ومن ترمي بالربل لترى حظها، فالبخور أصبح يتجاوز كونه ترفاً شخصياً يشير إلى النظافة، إلى كونه عاملاً مهماً في تشكيل الثقافة وتبيان الهوية، وأداة تعريف غير معلنة، تُعرّف الناس بأنفسهم وأماكنهم. فالذاكرة الشمية في الثقافة المجتمعية ليست مجرد استدعاء للماضي فقط؛ بل هي ممارسة يومية لاستدامة الهوية، واستمراراً لرواية ثقافية تُروى عبر الحواس، رواية تُشمّ أكثر مما تُروى.
الصوت.. نسيج اجتماعي
ليست الأصوات مجرّد اهتزازات في الهواء، بل هي خيوط دقيقة تنسج بها الجماعة حضورها في المكان. فكما تخلّد المباني شكل المدينة، يخلّد الصوت روحها. يكفي أن يصدح الأذان في فجر بعيد، حتى ينهض في الذاكرة حشدٌ من الأزقة والأبواب، تُفتح على ميقات الصلاة. أسواق المدينة القديمة، تتشابك أصواتها كأقمشةٍ ملونة بنداء الحمّالين، والباعة، صياح الأطفال للحلوى، وحفيف النقود على الخشب. تلك الأصوات هي منهاج حياة، يعلّم الناس إيقاع العيش قبل أن تكتب الدساتير أو تُرسم القوانين. وحين ترحل الأصوات، لا نفقدها فحسب، بل نفقد المعنى الذي كانت تُلبسه للأشياء. فالصوت، في جوهره، ليس حدثاً عابراً بل نسيج اجتماعي، يربط بين الأفراد كما تربط الأغاني بين القلوب. بهذا المعنى، يصبح الصوت حارساً للهوية، ووسيلة لاستعادة ما تبعثر من ملامح المكان في زحمة التسارع والحداثة.
الطعم واللمس.. عناصر ثقافية
والطعم ليس مجرّد تجربة حسية، بل هو ذاكرة متجسّدة، تحتفظ بالزمن في نكهةٍ، وبالمكان في قضمة. فكل مطبخٍ هو سجلٌّ اجتماعيّ يروي حكاية جماعةٍ من خلال ما تأكل، وكيف تطبخ، وبأي يدٍ تُقدَّم الموائد. نكهة القهوة ولفافة التبغ، أو طعم (اللقيمات) مع شاي الصباح، ليس طقساً يومياً فحسب، بل يختزن هويةً كاملة تشهد على جذور الناس في بقاعهم. وحين يتغيّر المذاق وتحل النكهات الصناعية محل البهارات القديمة لا يتبدّل الطعام فقط، بل تتبدّل طريقة الإحساس بالزمن والانتماء. فالطعم ذاكرةٌ تنقلنا إلى البيت الكبير، إلى مأدبة رمضان، إلى دفءٍ نسيه الجسد لكنه يعود بطرف اللسان.
وحينما نلمس شيئاً يعني أن نُصدّق وجوده، أن نقيم معه علاقةً تتجاوز البصر، فاللمس هو الحاسة التي تشهد على الألفة الإنسانية. كأن يعرف النسّاج في الأسواق القديمة خيوط قماشه كما يعرف الأمّ طفلها، أو كما تحدد أمي جودة عجينها من لمسه قبل الخبز. حينها كانت المصافحة والمعانقة -قبل أن تُختزل في رموز إلكترونية- عقداً اجتماعياً صامتاً للثقة والانتماء. بذا أصبح تهميش الحواس المنسية هذه، لا اللمس وحده، عنواناً لفقدان الاتصال بالعالم المادي، ولعجزنا عن اختبار الحياة خارج تلك الوسائط الافتراضية. الصوت تحوّل إلى إشعار، والضوء إلى إشعاعٍ، واللمس إلى نقرةٍ، والطعم إلى علامة تجارية، والرائحة إلى ترفٍ تسويقيّ. كلّ شيء صار نسخة رقمية من ذاته، بينما الأصل يبهت في الخلفية.
إعادة الاعتبار لثقافة متعددة الحواس
في مواجهة زمنٍ مفرط في المرئي، تستيقظ دعواتٌ جديدة لإعادة الاعتبار إلى الحواس المنسيّة، تلك التي همّشتها الشاشة حين جعلت العين سيّدة الإدراك، والضوء وسيطاً وحيداً بين الإنسان والعالم. لهذا، تتقدّم اليوم مبادراتٌ فنية وثقافية تعيد للحواس المهمشة حقّها في المشاركة في إنتاج المعنى. ففي المتاحف ودور العرض الحديثة، لم تعد المعروضات حبيسة الزجاج، بل صُمَّمت بحيث تُلمس، وتُسمع، وتُشمّ، وتُسمع. في (متحف الروائح) ببرلين، على سبيل المثال، تُعرض العطور بوصفها وثائق تاريخية، تربط الذاكرة الجماعية بوقائع الشمّ اليومية. وفي الفنون، يُستخدم الصوت بنيةً معمارية يسمع فيها الزائر خريطة المدينة، وغيرها من المحاولات المبتكرة. هذه المحاولات لا تُعيد الحواس إلى واجهة الثقافة فحسب، بل تعيد تعريف الثقافة ذاتها بأنها منظومة حسّية متعددة، ثقافة تُدرَك بالأنف والأذن والجلد، لا بالبصر وحده، ودعوة إلى ثقافة تشاركية، يتحوّل فيها الفنّ من موضوعٍ يُشاهَد إلى تجربةٍ تُعاش، ويصبح الجسد نفسه وسيطاً للمعرفة والذاكرة.