في عام 2016، وخلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية، انتشرت آلاف المنشورات المضللة على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي كانت نتاج عمل شركات تسويق رقمي ومراكز إعلامية تابعة لجهات خارجية. استهدفت هذه المنشورات فئات محددة من الناخبين برسائل مصممة بدقة، تستند إلى اهتماماتهم ومخاوفهم الأساسية كالهجرة والأمن والوظائف. لم تعتمد هذه الحملات على الكذب المباشر فحسب، بل وظفت التلاعب بالمشاعر والمعلومات لتحقيق أهدافها، إذ كان الغرض ليس إقناع الناس بحقيقة معينة، بل إثارة مشاعرهم لدفعهم للتصويت بما يخدم مصالح محددة. وكشفت التحقيقات لاحقاً أن هذه الأساليب نجحت في التأثير على نتائج التصويت في بعض الولايات المتأرجحة والحاسمة.
في مثال آخر، أثارت إحدى شركات الملابس الرياضية العالمية جدلاً واسعاً عام 2020، حين كشفت تقارير عن استخدامها خوارزميات رقمية لتحليل الحالة النفسية للمستخدمين بالاعتماد على بياناتهم من وسائل التواصل الاجتماعي. كانت الشركة تستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي لمتابعة منشورات المستخدمين وتحديد اللحظات التي يعاني فيها أحدهم من الإحباط أو تدني الثقة بالنفس، لتعرض عليه إعلانات لمنتجات رياضية بشعارات تحفيزية مثل: (كن أقوى من ظروفك) أو (ابدأ الآن لتثبت للجميع من تكون). قد تبدو هذه الرسائل إيجابية وتحفيزية للوهلة الأولى، لكنها في الواقع كانت مصممة خصيصاً لاستهداف لحظات الضعف النفسي لدى الفرد والتلاعب بالعواطف والرغبات الداخلية. لاحظ المستخدمون في كثير من الأحيان أنهم أجروا عمليات شراء غير مخطط لها بعد مشاهدة هذه الإعلانات، فقط لأنهم شعروا بأن المنتج (سيُغيّر حياتهم) أو (سيجعلهم أكثر نجاحاً).
وفي يوليو 2024، انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي أنباء عن تحرش شاب سوري بطفلة في ولاية قيصري التركية. أثارت هذه الادعاءات غضباً واسعاً، مما أسفر عن اندلاع أعمال عنف استهدفت ممتلكات السوريين في المدينة. اعتقلت السلطات الأمنية أكثر من ألف شخص على خلفية هذه الأحداث، وأظهرت التحقيقات أن 37% من الحسابات التي نشرت هذه الأخبار كانت وهمية، وأن 68% من المنشورات كانت تحريضية ضد السوريين. تبين لاحقاً أن الخبر كان مضللاً ولا أساس له من الصحة. ومع ذلك، كانت العواقب وخيمة، فقد أدى انتشار هذه الشائعة إلى تدمير بعض الممتلكات والمتاجر، والأسوأ من ذلك أنها فاقمت مشاعر الكراهية والعنف المجتمعي، مما يبرز التأثير الكبير للأخبار المضللة على النسيج الاجتماعي وقدرتها على تفكيك المجتمعات.
للأسف، لم تعد هذه الحوادث اليوم محدودة أو استثنائية، فهناك مئات بل آلاف الحوادث المماثلة، يمثل كل منها شكلاً من أشكال التلاعب في عصر الإعلام المفتوح. تُظهر هذه الحوادث كيف يمكن لصورة واحدة، أو معلومة مضللة، أو خبر مزيف أن يعيد تشكيل الوعي الجماعي بأكمله، وكيف يمكن استغلال المشاعر الإنسانية -كالخوف والغضب والانتماء- لتكون سلاحاً فعالاً لتوجيه العقول والسيطرة على السلوك الجمعي، فيما يمكن أن نسميه (التلاعب). ويزداد الموضوع خطورة وتأثيراً عندما ندرك أن التلاعب لم يعد يقتصر تأثيره على المجال السياسي أو الإعلامي فحسب، بل تمتد تداعياته إلى أعماق النفس والعلاقات الاجتماعية اليومية.
شعرة دقيقة تفصل بين التأثير والخداع
لطالما أثار فضولي موضوع التلاعب، وقدرة المتلاعبين الخفية على السيطرة على عقول الأفراد والمجتمعات. فالتلاعب ظاهرة معقدة تتغلغل في صميم العلاقات الإنسانية والمجتمعية، فهو يتجاوز مجرد الخداع أو الإقناع الخفي، ليصبح عملية ذهنية وسلوكية تهدف إلى السيطرة على أفكار الآخرين أو توجيه سلوكهم بطرق غير مباشرة.
تتخذ أشكال التلاعب صوراً متعددة، تبدأ من المواقف اليومية البسيطة، حيث يستغل البعض مشاعر الآخرين وثقتهم لتحقيق مكاسب شخصية، وتمتد إلى مستويات أوسع كالإعلام والاقتصاد والسياسة، حيث تُستخدم أدوات متطورة لتشكيل الرأي العام وتوجيه المواقف الجماعية. وفي ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي ودورها الخطير في تعقيد شبكة التأثير؛ أصبح من الضروري فهم آليات التلاعب الخفية ومواجهتها. إذ لم يعد هذا الأمر مجرد تمرين فكري، بل أصبح ضرورة معرفية وأخلاقية لحماية الأفراد من التضليل وصون إرادة المجتمعات من الاستغلال.
على الرغم من ارتباط مفهومي الإقناع والتلاعب بالقدرة على التأثير في الآخرين، إلا أن الفارق بينهما دقيق وجوهري. يقوم الإقناع على الوضوح والشفافية والمصداقية، ويمنح الفرد حرية اتخاذ القرار بعد تقديم الحجج والمعلومات. أما التلاعب، فهو عملية خفية وغير مباشرة تهدف إلى توجيه أفكار وسلوك الآخرين دون وعي منهم بتأثرهم بأساليب محددة.
يعتمد المتلاعب على استغلال المشاعر، أو إثارة القلق، أو تضخيم المخاوف، أو تقديم معلومات مجتزأة تُشوّه الحقيقة، مما يجعل القرار النهائي للمتلقي ناتجاً عن تأثير خفي بدلاً من خيار مستقل. نفسياً، يظهر التلاعب غالباً في العلاقات الشخصية أو المهنية، حيث يسعى الفرد للسيطرة على الآخر دون مواجهة صريحة، بينما يشجع الإقناع على الحوار والشفافية، ويعتمد على القوة العقلية للحجة بدلاً من القوة العاطفية.
وفي السياق الإعلامي والسياسي، يتحول هذا الفرق إلى نطاق جماعي، فالإقناع الإعلامي السليم يعرض الحقائق ويتيح للمواطن فهم الصورة الكاملة، في حين يستخدم التلاعب الإعلامي أجزاءً محددة من الصورة، وقد يُعاد تدويرها وتغيير سياقها الطبيعي لبثها برسائل متكررة، مع توظيف اللغة العاطفية لتوجيه الجمهور وحرمانه من فرصة التحقق المستقل، كما يظهر في مثال حادثة قيصري.
يمكن القول باختصار إن الإقناع يبني القرارات والمعرفة، في حين أن التلاعب يسيطر عليها. فالإقناع يعتمد على العقل والشفافية والاحترام، بينما يتكئ التلاعب على إخفاء النوايا خلف العاطفة أو الخداع وتوظيف نقاط الضعف لدى الشخص أو الفئة المستهدفة. هذه الشعرة الدقيقة الفاصلة بين التأثير والخداع تجعل دراسة التلاعب مهمة، إذ تساعد على التمييز بين التواصل البنّاء والتحكم الخفي بالوعي والسلوك.
التلاعب ضمن المفهوم النفسي والاجتماعي
يظهر التلاعب النفسي عندما يحاول شخص التأثير في أفكار أو سلوك آخر بطريقة خفية، بحيث يعتقد الضحية أن قراره نابع من إرادته الحرة، بينما هو في الواقع نتيجة لمناورات نفسية مُدبَّرة. يعتمد هذا النوع من التأثير على فهم عميق للطبيعة البشرية واستغلال نقاط الضعف العاطفية أو الحاجة إلى القبول والتقدير.
في العلاقات الاجتماعية اليومية، يتخذ التلاعب صوراً متعددة، إذ يلجأ البعض إلى إثارة مشاعر الذنب لدى الآخرين لإجبارهم على تلبية رغباتهم، بينما يعمد آخرون إلى تهويل المواقف أو تضخيمها لفرض آرائهم أو لكسب تعاطف غير مستحق. وقد يتجلى التلاعب أيضاً في التحكم بالمعلومات، إما بإخفاء حقائق أو بعرضها بطريقة منحازة توجه الفهم في اتجاه معين، أو عبر الابتزاز العاطفي الذي يربط المودة أو القبول بالرضوخ للمطالب.
في سياقات أخرى، يُمارَس التلاعب بالصمت والتجاهل المتعمد، فعندما يختار أحدهم الامتناع عن التواصل أو الرد، فإنه لا يعبّر عن غضبه فحسب، بل يُنشئ فراغاً نفسياً يُثير القلق لدى الطرف الآخر، مما يدفع هذا الأخير إلى التسرع بالاعتذار أو التنازل لاستعادة استقرار العلاقة. في هذه الحالة، يتحول الصمت إلى عقوبة، ويصبح التجاهل أداة لفرض الهيمنة دون استخدام الكلمات.
أما في المحيط الاجتماعي الأوسع، فقد يتخذ التلاعب شكلاً جماعياً، حيث تُستغل القيم والعادات والتقاليد وسيلة للضغط من أجل إسكات الفرد أو تقييد خياراته. تُوجَّه إليه عبارات مثل: (العائلة أهم من أي شيء، لا تُحرجنا)، أو (الناس سيقولون إنك لا تحترم تقاليدنا). تخاطب هذه الأقوال الشعور بالانتماء والرغبة في القبول الاجتماعي، لكنها في حقيقتها تجرّد الفرد من حرية قراره وتُملي عليه طاعة صامتة باسم الجماعة.
تخلّف جميع هذه الأساليب آثاراً نفسية واجتماعية عميقة، فالضحايا يشعرون في كل الأحوال بفقدان السيطرة على حياتهم، ويعتريهم القلق والارتباك وتدني تقدير الذات. وعلى صعيد المجتمع، تفقد المجتمعات التي تسودها ثقافة التلاعب قيمها الأخلاقية القائمة على الصدق والثقة والتعاون. وهكذا، يتحول التواصل الذي من المفترض أن يكون وسيلة للفهم والتقارب إلى ميدان خفي للسيطرة والصراع، حيث تُستبدل الصراحة بالمواربة، والمصلحة الفردية بالاحترام المتبادل.
التلاعب ضمن المفهوم الإعلامي والسياسي
يصبح التلاعب في العصر الحديث أكثر خطورة عندما يتجاوز الأفراد ليصل إلى الجماهير عبر وسائل الإعلام والسياسة. فالإعلام لم يعد مجرد ناقل للأخبار، بل تحوّل إلى قوة قادرة على تشكيل الوعي وصناعة الواقع نفسه، وذلك عبر انتقاء ما يُعرض وما يُحجب وطريقة تقديمه. وقد أثبتت الدراسات أن الناس لا يرون العالم كما هو في حقيقته، بل كما تقدمه لهم وسائل الإعلام.
أما أساليب التلاعب الإعلامي، فتتجلى في الانتقائية التي تعرض جزءاً من الحقيقة وتخفي جزءاً آخر، وفي الإثارة العاطفية التي تعتمد على الصور الصادمة، والموسيقى المؤثرة، والعناوين المبالغ فيها لجذب الانتباه. وتشمل هذه الأساليب كذلك تكرار الرسائل حتى ترسخ في أذهان المتلقين رغم كونها مضللة، وتوجيه اللغة لخدمة مواقف محددة، حيث يمكن لتغيير كلمة واحدة أن يقلب الانطباع العام رأساً على عقب.
على الصعيد السياسي، يتجلى التلاعب في إدارة الرموز والمشاعر الجماعية أكثر من إدارته للحقائق. فغالباً ما يُصاغ الخطاب السياسي بطريقة تستثير العواطف بدلاً من مخاطبة العقل، حيث يُستدعى الخوف أو الشعور بالانتماء الوطني لتعبئة الجماهير. ويرافق ذلك صناعة صور وهمية لأعداء، سواء كانوا داخليين أو خارجيين، بهدف توحيد الرأي حول السلطة القائمة أو تبرير قراراتها. كما تُمارَس سياسة الإلهاء بالتركيز الإعلامي على قضايا هامشية لصرف الأنظار عن الأزمات الحقيقية، ويُستخدم الإعلام الرسمي أحياناً منصةً للدعاية والتلميع بدلاً من كونه أداة للمساءلة والرقابة.
تُفضي هذه الممارسات إلى نتائج وخيمة على وعي الشعوب، إذ يتراجع التفكير النقدي وتضعف القدرة على التمييز بين الحقيقة والوهم، فتسود إما اللامبالاة أو الانقسام الحاد، وتُفقد الثقة في المؤسسات والإعلام على حد سواء. وبذلك، يتحول التلاعب إلى وسيلة لتشكيل واقع زائف يُدار من وراء الستار، ويصبح الجمهور خاضعاً لبرمجة فكرية دقيقة تحدد له ما يجب أن يفكر فيه وكيف يجب أن يشعر تجاه الأحداث.
مقاومة التلاعب وبناء الوعي
لا تتحقق مواجهة التلاعب بالرفض أو الانعزال، بل ببناء عقل نقدي قادر على التساؤل والتحليل والتمييز بين المعلومة الصادقة والمُوجَّهة. فالتفكير النقدي هو خط الدفاع الأول ضد التلاعب، لأنه يجعل الفرد شريكاً في فهم الواقع، لا مجرد مُتلقٍّ له، فالشخص الواعي لا يقبل الرسائل كما تُقدَّم، بل يتساءل دائماً عن مصدرها وأهدافها والجهة التي تخدمها.
وتُعد التربية الإعلامية أداة أساسية لبناء هذا الوعي، إذ تُعلّم الأفراد منذ الصغر كيفية قراءة الرسائل الإعلامية بعمق وفهم السياق الذي أُنتجت فيه. كما ينبغي أن ترتكز المؤسسات التعليمية والإعلامية على مبادئ الشفافية والمساءلة كي لا تتحول المعلومات إلى أداة سيطرة، مع ضرورة إتاحة مصادر متعددة ومستقلة للجمهور تمكّنه من المقارنة وتكوين رأي حر.
على المستويين النفسي والاجتماعي، تُسهم التوعية بأساليب التلاعب ودعم الضحايا بالعلاج والمساندة النفسية في مساعدتهم على استعادة ثقتهم بأنفسهم والتعامل بوعي أكبر مع محاولات السيطرة التي قد يتعرضون لها. كما أن تعزيز قيم الصدق والاحترام في الأسرة والمدرسة والمجتمع يقلل من انتشار التلاعب ويعيد إلى التواصل الإنساني صفاءه وشفافيته.
ختاماً، يكمن جوهر التلاعب في رغبة الإنسان بالسيطرة، ولكنه في الوقت ذاته يعكس ضعف الوعي وسهولة التأثر بالخطاب الموجَّه. وفي زمن تتكاثر فيه وسائل التواصل وتتسع فيه فضاءات الإعلام، يصبح الوعي النقدي والمعرفة المستقلة هما السلاح الحقيقي للحفاظ على حرية الفكر والاختيار. فالتحرر من التلاعب لا يعني الانغلاق أمام التأثير، بل يعني امتلاك القدرة على فهمه وتمييز حدوده، ليصبح الإنسان سيد قراره وليس أداة في يد الآخرين.