للحواس الخمس المتفق على تمتع الكائن البشري بها مثله مثل الحيوان؛ منزلة في التفكير الفلسفي، مختلف فيها، إذ يثمّن بعض الفلاسفة قيمة الحواس، ويرون أنّها ضرورية للمعرفة: معرفة العالم الخارجي وإدراكه. في هذا السياق يذهب الفيلسوف (جون لوك) إلى أن العقل عند الولادة صفحة بيضاء تكتب عليها المعرفة عبر التجارب الحسيّة، مواصلاً ما كان أرسطو قد صار إليه من قبل من أنّه لا شيء في العقل ما لم يأتِ عبر الحواس.
أمّا العقل فيلعب دوراً مهماً في تركيب وتمحيص هذه المعلومات الأوليّة الآتية عن طريق الحس. ويذهب الأبيقوريون إلى أنّ الحواس لا تخطئ، فهي تعطينا صورة مطابقة للواقع، وأن الخطأ يأتي من الحكم العقلي. وإلى مثل هذا القول يذهب التجريبيون، فالمعرفة عندهم تأتي من التجربة الحسيّة، والعقل من خلالها يبني معرفته وأحكامه.
غير أنّ بعض الفلسفات تحط من قيمة الحواس، وتذهب إلى وجود أفكار فطرية في العقل ليست متأتية من الحواس، ولعل الفيلسوف الفرنسي ديكارت من أشهر القائلين بهذا القول الذي سيرفضه جون لوك. إن الحواس تخدعنا وتقدّم لنا الأشياء على غير ما هي عليه، في الواقع. ولذلك يجب الاحتراز من المعرفة الحسيّة التي يعتبرها البعض عائقاً من عوائق تطور النظرية العلميّة. غير أن للحواس مكانة أخرى خارج نظرية المعرفة، مثل حضورها المهم في الفن، وفي وجود الإنسان في العالم وتعامله معه.
لكن هل للحواس نفس المنزلة والقيمة أم يوجد بينها تفاوت في القيمة والوظيفة؟
تراتبيّة الحواس
يشترك الإنسان مع الحيوان في الحواس، وقد سلف للجاحظ في كتاب الحيوان أن قارن بين حواس الحيوان وحواس الإنسان، وقد بيّن من خلال تجربة له على الكلب شهيرة في (الحيوان)؛ أن حاسة الشم لدى الكلب قوية بالقياس إلى هذه الحاسة لدى الإنسان. يقول الجاحظ: (وإنه ليكون بيني وبين اللحم الذراعان والثلاثة أذرع فلا أجد ريحه حتى أدنيه من أنفي)؛ في حين يستطيع الكلب شمّ رائحة اللحم عن بعد.
لقد فقد الإنسان بفعل التمدّن قوة بعض حواسه التي كان يحتاجها في درء الخطر عن نفسه في مراحل بعيدة في التاريخ البشري، عندما كان الإنسان الأول مهدّداً في وجوده، وكان لا بدّ له من حواس متيقظة قوية تنبهه إلى ما يتربص به من خطر، كما هو الحال بالنسبة إلى الحيوان. لكنّ الإنسان فقد عبر تاريخه الطويل الحاجة إلى بعض حواسه فضعفت تدريجياً. لذلك يعتبر فقدان البصر أو السمع عاهة من العاهات الخطيرة التي تصيب الإنسان، في حين لا يعتبر فقدان حاسة الشمّ خصوصاً عاهة.
الأخْشَمُ: في لسان العرب هو من فقد حاسة الشم، فلا يستطيع تمييز روائح الأشياء، لكن رغم ذلك لا يعدّ هذا الفقد عاهة كما هو الحال بالنسبة إلى حاسة مثل حاسة البصر التي ازدادت الحاجة إليها مع التطور الذي تعيشه البشرية. ولذلك يرى البعض أن للإنسان أربع حواس لا خمساً. لأن الحاسة الخامسة شبه معدومة والحاجة إليها عندهم تكاد تكون غير موجودة. فهل يشعر الأخشم بنقص فادح كما يشعر الأعمى مثلاً؟ وقد قاد ذلك إلى ضرب من التراتبية بين الحواس في حاجة الإنسان إليها، لدرك العالم ولمعرفة ذاته، وأمام التطور التقني الكبير أصبحت الحاجة إلى حاسة البصر أكبر من الحاجة إلى بقيّة الحواس. فالعصر كما يقال اليوم عصر الصورة.
لكن هل يعني ذلك أن حاسة مثل حاسة الشمّ بلا فائدة ولا قيمة في هذا العالم الذي تغلب عليه المرئيات والمسموعات؟
في وجوه الحاجة إلى الشمّ
(من فقد حاسة فقد معرفة)، تعود هذه المقولة الشهيرة إلى فلاسفة اليونان القائلين بأهميّة الحواس وأسبقيتها على العقل في تحصيل المعرفة، وعلى رأسهم أرسطو، ونجد لها صدى في مؤلفات الجاحظ، على خلاف سقراط وأفلاطون اللذين يعطيان أهميّة للعقل على الحواس، فالعقل لدى أفلاطون يحمل معرفة سابقة، معرفة تعود إلى عالم المثل عنده التي نسيت ولا بدّ من تذكرها. فماذا نفقد حين تضمحل فينا حاسة الشمّ وتضعف؟
جعلت الفيلسوفة الفرنسية (شانتال جاكي) الحاسة المهمشة، حاسة الشمّ؛ مدار كتاب لها كامل عنوانه (فلسفة الشمّ)، وقد انتقدت الكاتبة الأحكام المسبقة عن هذه الحاسة، مثل القول بضعفها، وطبيعتها البدائية، أو اللاأخلاقية، وبيّنت كيف يكون الأنف مصدر معرفة.
للروائح دور مهام في تكوين الذاكرة والعاطفة، وفي تشكيل الهويّة والغيريّة. تستدعي الروائح ذكريات بعيدة مخزنة في الذاكرة وتستثيرها، فتعيدنا إلى أزمنة طواها النسيان، وترجعنا إلى طفولتنا بما فيها من لحظات منعشة جميلة أو مؤلمة حزينة. إنّ رائحةَ طعامٍ ما تنبعث من هنا أو هناك في المدينة أو في غيرها من الأماكن يمكن أن تحملنا إلى ماضٍ ولّى وغابت معالمه فتحييه، وتعيد إلى الذاكرة علاقات لنا مع أهلنا كأمهاتنا وآبائنا طواها الزمان. ذكريات تبعث في النفس حنيناً أو فرحاً، وتنعش الروح. فالروائح قوادح ومنبهات تعيد الزمان إلى الوراء، وتحيي علاقات مع الآخر، ولذلك ركزت الباحثة في كتابها الشيق على الصلبة الوثيقة بين الشمّ والذاكرة. فقد تذكرنا رائحة ما بشخص قريب لنا غاب أو رحل أو بشخص حبيب إلى أنفسنا، كما قد تذكّرنا بشخص بغيض أو ذكرى كريهة. لكن هذه الذكريات قد تكون حزينة أحياناً، ومن هنا تصبح الروائح ذاتية. هذا يعني أن الروائح ليست كريهة في ذاتها وليست محببة في ذاتها، فالرائحة المنعشة عند أحدهم قد تكون كريهة عند غيره. الذكريات الماضية عشقنا لرائحة ما أو كرهنا لها. ألمْ يستعد النبي يعقوب بصره عندما اشتمّ رائحة ابنه النبي يوسف عليه السلام. لقد أعادت حاسة الشم ليعقوب عليه السلام حاسة البصر، فكانت علاجاً عجيباً له صفة المعجزة. هكذا تتجاوز حاسة الشم ّ ذلك الوصم السلبي الذي لحق بها باعتبارها حاسة بدائيّة تقرب الإنسان من الحيوان. لتكتسب قيمة. فهي صلة تصلنا بالآخر، وتمكننا من استعادة أزمنة ضاعت منا.
توجد مساعٍ لتأسيس جماليّة مخصوصة هي جماليّة الشمّ، من خلال البحث عن تعابير فنيّة للرائحة في الأدب أو في الرسم والنحت أو في الموسيقى. ومن الأمثلة التي يمكن ذكرها رواية شهيرة انبنت على قوّة حاسة الشم لدى بطلها (باتيست غرونوي)، هي رواية العطر للروائي الألماني (باتريك زوسكند) وهي من أهم الروايات التي استغلت حاسة الشم، وبَنت عليها نصّاً روائياً عالمياً تحوّل لاحقاً إلى شريط سينمائي متميز.