مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

مجموعة جيل جيلالة .. والكلام المرصع

إن الأغنية الشعبية هي فن تميز عن باقي الفنون بانفراده بمجموعة من الخصائص التي جعلت منه متنفساً يلوذ إليه الفرد والمجتمع، إذ تعبر عن كل ما يختلج النفس من أحاسيس ومشاعر غالباً ما تكون مكبوتة. كما أن العلاقة بين العناصر المكونة للأغنية من نص مكتوب أولاً، ثم الأغنية كلام مصحوب بموسيقى وتنغيم ثانياً، ثم الجمهور المتلقي ثالثاً، هي التي تحدد مدى شعبيتها، يقول البعض إن شعبية الأغنية تتعدد انطلاقاً من الجمهور الذي تجتذبه، أو انطلاقاً من اللغة العامية التي كتبت بها، لكنه قول واهم.
والباحث في تاريخ الموسيقى الشعبية الشفهية بالمغرب، أمام تحد كبير متمثل في كون التاريخ المكتوب لا يوفر له المادة الزجلية/الشعرية والموسيقية التوثيقة الضرورية التي تهمه، فالأدب الشعبي عموماً يمتاز بخاصيتين أساسيتين: الأولى كونه شفهياً غير مدون والثانية مجهولية المؤلف، يعتمد بشكل كبير على الذاكرة الجمعية التي تضمن استمراره وذيوعه.
فكيف استطاعت هذه المجموعة أن تعبر عن الهموم المغربية العربية؟ هل كانت تطرح المشاكل فقط، أم أنها كانت تسعى إلى إيجاد بديل وحل لها؟ وإذا كانت أغنية جيل جيلالة جديدة على الساحة الفنية المغربية شكلاً ومضموناً ولحناً، فهل يمكننا القول إنها استفادت من التراث الشعبي أو استغنت عنه؟ وإذا كانت قد اقتبست منه، فكيف ثم ذلك الاقتباس وكيف استطاعت أن تمزج بينه وبين طابعها الحديث؟
1 - مفهوم الموسيقى التقليدية
يمنح مفهوم الموسيقى التقليدية أن نهتم بالأغنية الشعبية بعيداً عن أي التباس من هذا النوع، على الرغم من كل ما قيل عن مفاهيم الدراسات الإنثروبولوجية - وهذا أحدها بكل تأكيد - وعن الإنثروبولوجيا ذاتها، والإثنوغرافيا، والإثنولوجيا، وكلها مقولات أصبحت اليوم متجاوزة أمام جدية وقوة الدراسات والأبحاث العلمية الجادة، التي أنجزت في هذه الحقول المعرفية المعاصرة، وتحديداً في حقل الدراسات الإثنوميزوكولوجية، التي ما زالت فتية رغم ما حققته حتى الآن من تراكمات مهمة في مقاربة الموسيقات التقليدية في أقطار كثيرة، كالهند وإيران وتركيا والعراق واليمن وسوريا وأفغانستان والباكستان ومصر ويوغوسلافيا (السابقة) ورومانيا وروسيا وطاجاكستان، وبلدان أفريقية جنوب الصحراء، وفي المغرب أيضاً، خصوصاً على مستوى بعض الأبحاث اللافتة للانتباه التي أنجزها الفرنسي برنار لورطا - جاكوب بمعية المغربي حسن جواد، والأمريكي فيليب شكايلر، والدنماركية ميريام روسينغ أولسين عن الموسيقى التقليدية الأمازيغية المغربية.
ويشير الباحث حسن نجمي إلى أن العديد من علماء موسيقى الشعوب (les Ethnomusicologues)، أبرزهم الفرنسي جان دورينغ jean During في اشتغاله على الموسيقى التقليدية الإيرانية، والسويسري لوران أوبير Laurent Aubert في دراساته المتفرقة. وبخاصة منها عمله العلمي عن الموسيقى التقليدية الهندية. والفرنسي جان لامبير jean lambert الذي كرس أبحاثه لدراسة الموسيقى التقليدية اليمنية. وبخاصة منها الغناء الصنعاني.
وأغنية (جيل جيلالة)، موسيقى تقليدية نحو أنها (ما تبقى من موسيقى الماضي) وظل عالقاً رغم التحولات الثقافية والاجتماعية والصناعية الهائلة. وذلك لأسباب تتعلق باستمرار مظاهر الحياة الشفوية، واستمرار انتشار ظاهرة الأمية، وبتواصل انتعاش نزعات الحنين إلى الماضي، وبالأساس للحاجة المتواصلة لدى المجتمعات القبلية أو القروية أينما كانت، (حتى في عمق المجتمعات الحضرية) إلى امتلاك لسانها واستعماله، ليس فقط في تمثل واستعادة آثار الماضي في مجتمعات متغيرة، كما يرى لوران أوبير، وإنما للتعبير عن الذات وترجمة المتخيل القروي والرعوي، لتحقيق التوازن الروحي والنفسي والعاطفي، وإيجاد المعادل الفني والجمالي للعيش في الحاضر، والانخراط في سيرورة المستقبل.
2 - سوسيولوجيا النص الغنائي بالمغرب
ارتبطت السياسة بالغناء بشكل وثيق على طول الوطن العربي، بل وفي العالم بأسره، فقد كانت الأناشيد الحماسية حاضرة في الحروب وخلال الانتصارات أو الهزائم، إذ استطاعت أشعار محمود درويش التي لحنها الموسيقار اللبناني مارسيل خليفة وغناها وحمل القضية الفلسطينية إلى البيوت كلها. كما حملت أشعار أحمد فؤاد نجم التي لحنها وغناها الشيخ إمام رؤى الطبقات الاجتماعية المسحوقة في مصر، وعبرت عن رؤيتها للعالم وعن بنيتها الدلالية والذهنية وعن آلامها وآمالها. وقد ساهم النص الغنائي في بناء الدولة العصرية بالمغرب سواء من خلال بلورة الشعور الوطني أو ترسيخ المقومات الرمزية للدولة أو إذكاء الروح الوطنية. إذ كان النص الغنائي حاضراً بقوة في مختلف مراحل الولادة العسيرة للدولة العصرية بالمغرب، وتطورها من دولة تقليدية/ سلطانية إلى دولة عصرية/ ملكية.
3 - ظروف نشأة المجموعات الغنائية
إن الإلمام بتشكيلة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، سيقودنا لتبرير العوامل الكاملة وراء انطلاق عجلة الغناء إلى الأمام، وتجاوز كل الصعوبات التي تعرقل مسيرتها.
من الناحية الاجتماعية كان المناخ الاجتماعي يعرف تناقضات جمة، أنتجها عدم التكافؤ بين القطاعات الإنتاجية، سببها النهب الداخلي والخارجي في الآن نفسه فسواء في المدن أو البوادي، خضع الفلاحون الصغار أو العمال والمعدمون لسياط الاضطهاد والاستغلال، نتيجة سيطرة الرساميل الأجنبية على وسائل الإنتاج وكذا بعض منتجي جمع الأموال من السكان المغاربة، وقد سمحت هذه الظروف في إحداث انقلابات متوالية كأحداث الدار البيضاء سنة 1965 مثلاً، وتحولات مفاجئة لبنية المجتمع خصوصاً الهجرة، الفقر، البطالة، النمو الديمغرافي، مما أفرز واقعاً يتسم بالتشتت والتشوه.
من الناحية السياسية كان الشعب يرضخ لقيود سياسية قمعية أقبرت فيه كل أنفاسه وتطلعاته، وحرمته حق التفكير والتصرف، أما من الناحية الاقتصادية فإن التكنولوجيا التي تم إدخالها من طرف المستعمر أحدثت تبديلاً في أسلوب الإنتاج، استخدمها لأشكال استيلاب متعددة، استمرت حتى بعد انجلاء المستعمر.
ومن الناحية الثقافية عاشت الساحة المغربية تحت وطأة مجموعة من الفنون التي لم تستطع الوصول إلى الشعب، وما يهمنا هنا، هو الأغنية على وجه الخصوص، إذ عرف المغرب من هذه الناحية انتشار الأغنية العاطفية (محمد عبدالوهاب، أم كلثوم، عبدالحليم..)، ثم الأغنية الرسمية المغربية (عبدالهادي بلخياط، عبدالوهاب الدكالي، نعيمة سميح..)، والتي كانت مجرد استنساخ عن الشرق، وإلى جانبها الأغنية الأندلسية وأخيراً الأغنية المحلية التي تزاوج بين اللغة الفصحى أو اللغة الأجنبية مع إيقاع غربي (الإخوان مكري مثلاً)، إن هذه الإشكالية على اختلافها، لم تستطع تضميد الجراحات القاصية لقلوب المسحوقين ولم تتمكن من ترميم جراحهم.
وإذا كانت تجربة (ناس الغيوان) و(جيل جيلالة) و(المشاهب) و(المشاعل) و(رعاة الصحراء) و(الجواد) و(هوى هداوة) و(ناس الحال) و(مسناوة) و(السهام) وغيرها هي تجارب رائدة، فإنها التزمت خط الدفاع عن قضايا معينة ولسان تعبير (رجل الكاريان) رجل (أسوار المدينة القديمة) رجل (لفنادق) ورجل (بيوت الكراء).
4 - جيل جيلالة ودهشة البدايات (النشأة)
إن لقب المجموعة الغنائية بهذا الاسم: (جيل جيلالة) له أكثر من مدلول يسعى إلى ربط حاضر بماض، حاضر تردت فيه الأوضاع الاجتماعية وعمت فيه العلاقات المصطنعة والمصلحية أكثر من وقت مضى، وماض مازال يجهز علينا بقوالبه وفعالياته التي عملت على بعث الثقة في النفوس وزرع الأمان في القلوب رغم ضعف الإمكانات المادية، فـ(جيل) هي مدة زمنية محدودة في التاريخ البشري، لكن مع المجموعة الشعبية المعاصرة فالمصطلح يصطبغ بروح أكثر جدية مما يوحيه منذ الوهلة الأولى. أما (جيلالة) فهي استعارة من بعض الطرق الصوفية التي كانت دائماً حاضرة وواعية تجاه الاستعمار الغربي رغم ضحالة مواردها المادية بكل عزيمة وإرادة روحية قوية لا تشوبها شائبة، وجيل جيلالة هي مجموعة موسيقية شعبية أسستها عام 1392 / 1972 جماعة من الفنانين الذين كانوا يمارسون المسرح بالدار بيضاء، ضمن فرقة الفنان الطيب الصديقي. وتعد فرقة (جيل جيلالة) من أبرز فرق (الأجيال) التي تأسست بمختلف المدن المغربية في السبعينات.
أنجزت هذه المجموعة على امتداد عقدين كاملين مجموعة من الأغاني أكثر أشعارها مما نظمه أعضاؤها الستة: مولاي الطاهر الأصبهاني، ومحمد الدرهم، وعزيز الطاهري، ومحمود السعدي، وعبدالكريم القصبجي، وأحمد مفتاح.
5 - الملحون.. مصدر إلهام لأعمال جيل جيلالة
وتعكس جل نصوص هذه الأغاني قضايا اجتماعية، من قبيل: ألعار أبويا (1973) - كولو لخليلي (1974) - السفينة (1985) - هذا وعدك يا مسكين (1985) - ووطنية مثل: لعيون عينيا (1975) - تحية لجنود الصحراء (1981): وقومية من قبيل: القدس (1974) - ديما أنا عربي.
ومن جهة أخرى سعت مجهودات المجموعة إلى إخراج بعض قصائد الملحون المعروفة في حلة جديدة ينساق لها الشباب المغربي كمرحلة أولى وبالتالي الشباب العربي في مرحلة ثانية. ومن هذه القصائد: قصيدة (الشمعة) لابن علي، وقصيدة (يا لطف الله الخافي) لعبدالقادر العلمي.
وقد كان عملها هذا موضوع معارضة وانتقاد لما ينطوي عليه من تحريف لفن الملحون، وهو تحريف ألمح إليه شيخ هذا الفن المنشد الحاج الحسين التولالي الذي سبق له أن سجل مع جيل جيلالة بعض القصائد حيث قال: (كانوا لا يأخذون القصيدة كي يغنوها كاملة حتى يكتمل معناها، وإنما يكتفون منها بأقسام صغيرة وأبيات قليلة، ويخضعونها لإيقاع مغاير لما هو موجود في الملحون، وهم يعتقدون أنهم بذلك يحسنون صنعاً، ولكن ذلك غير صحيح لأن الملحون ينبغي ألا يخرج عن إطاره الموسيقي الغنائي).
6 - جيل جيلالة.. والآلات الموسيقية
تعتمد فرقة (جيل جيلالة) في أدائها على آلات موسيقية تقليدية إيقاعية في مجملها وهي: الطبيلة المزدوجة (وهما عبارة عن طبلين صغيرين يتخذان من الطين تغطيهما قطعة جلد)، والتعريجة (وهي إما صغيرة أو متوسطة الحجم)، والبندير، والهرازي أو الدعدوع، وهو عبارة عن تعريجة كبيرة الحجم.
وقد أنتجت المجموعة شريطاً سينمائياً مطولاً بعنوان: (أحداث بلادي) وآخر قصيراً بعنوان (صورة) حظي بالجائزة الأولى في مهرجان قرطاج بتونس.
نجحت مجموعة (جيل جيلالة)، المغربية أن ترسم من خلال أغانيها وألحانها واقعاً متأزماً لفئة كبيرة من المجتمع المغربي، الذي عانى مشاكل كثيرة على جميع المستويات (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، فعبرت من خلال أغانيها الحماسية حساً وطنياً وهوايتياً يرغب في الدفاع عن تراب البلاد فداء بالنفس في سبيل إعلاء كلمة الحرية والسلام. فاستطاعت مجموعة (جيل جيلالة) باستمرار أن تمد الجسور بين القضايا الاجتماعية والوطنية من جهة والقضايا العربية الإسلامية الكبرى، وهي قضية فلسطين فنددت بالعدوان الفتاك ولامت الموقف السلبي العربي بالكلمة الهادفة المؤثرة على النفوس، بإيقاع صاخب ولحن مشحون.
لقد اعتمدت (جيل جيلالة) على الكلمة الهادفة والملتزمة والعابرة لتلك الرتابة عند البعض والسفاهة عند البعض الآخر، وعياً منها بحجم المسؤولية المنوطة إليها وبأنها ستخلد كتراث غنائي سيعكس حياة شعب سيستفيد من تجربته وتضحياته وشهامته الأجيال القادمة.
وأخيراً فالبحث في التراث الشفوي (الأغنية الشعبية) هو نوع من الغوص في أعماق الذاكرة الشعبية، ومحاولة لسبر أغوارها، والاستفادة من غناها، ويتوقف بنا هذا البعد عند حقيقة أن الأدب الذاتي يختلف ولا شك في شكله وتعبيره عن الأدب الشعبي، وأن الإنسان الفرد الذي يحرص على أن يدون اسمه في تاريخ الأدب، يتحتم أن يكون أدبه محلياً معبراً عن روح عصره وهذا ما جسدته أغاني جيل جيلالة الممتدة عبر جميع الأجيال.
ذو صلة