مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

مسرحية (الناعشون).. النعوش دلالة

كُتبتْ مسرحية (الناعشون) للكاتب السعودي فهد ردة الحارثي برمزية عميقة، بدءاً من العنوان وانتهاء بإسدال الستار.
(الناعشون) عنوان يحمل دلالات لغوية، لها أثر كبير على المعنى، وتلقي القارئ أو المشاهد للمحتوى. فالناعشون هم حملة نعوش الموتى، وذلك هو المعنى القريب، أما المعنى البعيد والذي تتوارى خلفه المسرحية: أن الأحياء أنفسهم هم نعوش تسير على الأرض، فاختلط الحامل والمحمول، لنرى في النهاية أننا جميعاً موتى، وإن تزاورت النعوش ذات اليمين وذات اليسار. أصبحنا نعوشاً تتحرك، بعضنا مآله للقبور والبعض الآخر ينتظر اللحاق بالآخرين.
وقد عبر الكاتب على لسان الممثل رقم (3) عندما قال: «هذه الجنائز لا تموت، هي تظل معلقة هكذا، هي ليست الجنائز المعتادة، هي نعوش ترحل وتعيش وتحاول أن تبحث عن مصيرها وسطنا».
وهنا يحاول الكاتب أن يصور لنا كيف تتعدد الأسباب والموت واحد، وشبيه هو دفن القبور بحياة القفور.
فكانت أول لوحة، وقبل البدء في معرفة النعش الأول لمن؟
فقد بدأ الكاتب عن طريق السارد، وهنا يقوم بدور الحكواتي (story teller) الذي أخذ على عاتقه إيقاظ هؤلاء البشر الذين أصبحوا يحملون كل علامات وملامح الموتى، رغم أنهم أحياء؛ فأصبحوا كثيري الكلام قليلي الصمت، كثيري الشكوى قليلي العمل. والأدهى أنهم أصبحوا قليلي الذكرى (إسقاط على تناسينا تاريخ أجدادنا وبطولاتهم ومحاولاتهم تحريرنا وبناء مستقبل باهر لنا. أصبحنا أمة بلا تاريخ، استهلكنا تاريخنا ولم يبقى لنا إلا القليل.. وأصبح قليل القليل لنا كثير).
تلك إشارة لموت الطموح داخلنا، وقبولنا بما بين أيدينا دون حلم أو محاولة. حاول الراوي أن يذكرنا، ولكن أصبح الموت يسكن أجساداً باتت نعوشاً تنتظر الدفن.
بدأ الراوي -أو كما أطلق عليه السارد- في وصف أول الموتى، وهم موتى الأمراض التي انتشرت، وهنا تذكرت عالم الاقتصاد الإنجليزي توماس روبرت مالتوس من القرن الثامن عشر، عندما اقترح عدة اقتراحات للقضاء على التضخم السكاني، ومن ضمن ما اقترحه:
1 - اندلاع الحروب
2 - نشر الأمراض والأوبئة، وهنا ما تطرق له الكاتب في رصد ما تعرض له العالم من انتشار مرض الكوفيد أو كورونا، وهذا الهلع الذي اجتاح العالم، حتى أننا فقدنا القدرة على دفن موتانا، ولم يشفع في تلك الجائحة طب ولا دواء، وكأنه قتل مع سبق وترصد.
عاش العالم حالة رعب وشك، وكيف أن الحرب تحولت لحروب أخرى بدون مدفعية أو بندقية. وأصبحت رائحة الموت تغلب رائحة البارود، وتصبح أكسجين الأحياء ليرقدوا في سلام. نعم سلام لم يجدوه في الدنيا وحسدوا أصحاب القبور على استقرارهم في أرضهم، لن يهجّروهم منها، لن يجوعوا، ولن يضطروا أن يعيشوا عذابات المرض. فالمريض بهذا الوباء هو ميت ينتظر دوره. وهنا سأقتبس قولة السارد في ص5: «تنفست الحمى بصوتها البغيض فتساقطت النعوش تباعاً، قال حكيم الجنائز: «هي رحمة دعوها تأكل منكم حتى ترتوي، كما النيران تأكل حطباً لتزيد اشتعالاً»، وأعجبني كثيراً التضاد في المعنى: تأكل حتى ترتوي، كأن المرض أصبح سهلاً كسريان الماء، وتلك كناية عن سهولة انتشار المرض، وتأكل هنا كناية عن مداهمة المرض للأجساد، فتحيل الجسد وتأكله حتى الشبع (روعة تعبير). «ظلت الحمى أسبوعاً تبيت حيث نبيت، وتسهر حيث نسهر، وتصبح حيث نصبح، في اليوم الثامن ذهبت ليلاً دون أن يشعر بها أحد، إن المرض يدخل ويداهم بقوة، ويصاحبنا ليلاً نهاراً، ووقت الليل يتسلل خلسة فلا نراه، ويخلف وراءه نعشاً جديداً خلفه نعش ويليه آخر».
هنا وفي نهاية المشهد تعبير مهيب:
«شيعت الدنيا من نزق الترهل على بوابات لم تفتح لهم، وها هم اليوم ضيوف أعزاء علينا، فلترفع الصواري»، صورة مهيبة لجنازة الدنيا التي شيعناها من نزق الترهل (إبداع)، على بوابات لم تفتح للدنيا من قبل، بل إن القبور غلقت كل الأبواب دونها وأقصتها بعيداً، اليوم جاءت الدنيا وهي في النزق الأخير، فإذا بسكان القبور يفتحون لهم البوابات، فمن أعز منهم يأتي لنا ليعيش في دار السلام؟ وهنا لا أدري ماذا أقول على التضاد في فكرة الموت والحياة، بين رفع الصواري، وتنكيس الأعلام. فعند الموت تنكس الأعلام كإعلان للحزن على الفقيد أو الميت، ولكن في حياة القبور سترفع الصواري لأن في موت هؤلاء حياة.
دور السارد (أو المحكواتي هنا يتغير بتغير شخصية الموتى)، فهنا بدأ الكلام عن الشعراء، وأظن أنها تعني أصحاب القلم، وكيف أن الشعراء كان منهم من هو ذو مكانة ومن كان من الصعاليك، وهنا يقصد الكاتب عندما يفقد الكلام معناه أو عندما تكمم الأفواه، ويموت صوت الشاعر.
يموت الرأي، ويصبح الشاعر بلا قيمة. سأعود لكلمات ممثل (3)، وبعدها سأقوم باستعراض أسماء شعراء وأدباء كان لهم شأن، استصرخ بهم شعراء اليوم الذين بات شعرهم لا طعم له ولا معنى، فأشار له بعبارة تهكمية توضح افتقاره للقافية (الشعر المشعور):
«سيقفل العالم بابه دوننا، سنموت مهجورين، هذا العالم وصل حافة الجنون، والمجون، والفجور في خصومته لنفسه (روعة تعبير)، هذا العالم الذي أصبح مشحوناً بالجنون والمجون حتى في الخصومات والحروب، قدم أعتى صور الفجور، حتى أن واقعنا خاصم نفسه وعجز عن رتق نزاعاته». «سيسرقون لون الشمس، ودهشة النوافذ ورائحة الصحف التي غاب عنها حبر المطابع (ولا أروع)، نعم كان كل شيء يسعدنا: لون الشمس، بريق النافذة، وسعادتنا عندما ننظر من خلالها، حتى رائحة الصحف سرقت منا ولم يعد هناك التفات للصحيفة الورقية أو الكتاب، أصبحت كل أشيائنا الجميلة ديجيتال رقمية وآلية لا حياة فيها نعش بأزرار».
بعد أن أصبحنا نعيش في واقع كله تخويف وترهيب، إما تخويف وتهديد بأمراض أو تخويف وترويع بإرهاب أو اجتياح فكري باستخدام فزاعة الدين. تخويف وترهيب، وهنا نرى أن كل حي ميت، إن لم يكن بالمرض فسيكون من الاغتراب بغرض السعي لكسب الرزق ورحلة الحياة بين الشرق والغرب (أي السعي والعمل)، هي رحلة ميت، سواء كانت بغربة أو تحت قصف أو من شدة جوع.
وهنا سأنتقل للممثل رقم (2) حيث قال: «في رحلة جنائز حياتنا المرفهة، فهي في رحلة وغربة وموت يلاحقنا، توقفوا عن متابعة الجنائز وقصتها قبل أن يستقر الأرق في ضميرنا الميت منذ زمن». (روعة تصوير).
وهنا تصوير آخر بديع للسارد للجنائز لموتى المفترض أن تخلد ذكراهم كما صنع أسلافهم ذاكرة للتاريخ كي يحكى عنهم. المفترض أن يجعلوا من تاريخهم المجيد شرارة لإشعال حماسهم وإيقاظ شجاعتهم لمكافحة ومحاربة الظلم والقهر والاستبداد، كما فعل أسلافهم الذين سأذكرهم بعد مقولة السارد، «صحونا وصحت الجنائز كأن شيئاً لم يصبها، مرت زهرة بين الجنائز وضعت على كل نعش وردة، ثم حاكت لنا تمائم من ورد حفظته قديماً، انتعشت النعوش وانتفضت (انتفاضة بثورة على الأوضاع في محاولة لتخليدها فاستخدم زهرة تجسيداً لفتاة تضع الورود على نعوش الموتى وتصنع التمائم علها تعدل الميل وتستقيم الذاكرة فينتعش ذلك الميت ويقوم من نعشه، فالورود قديمة والتمائم حفظتها ممن سبقوا ولكن..) وهي ترتوي من دعاء تلك الزهرة لزهرة جدلية واحدة ونصف ابتسامة لم يطاردها قناص عابر ولا قصف غادر».
ورد ذكر لأسماء من شعراء الصعاليك مثل: سليك: وهو سليك ابن سلكة (السليك بن عمرو بن سنان)، كان من شعراء الصعاليك في القرن السادس الميلادي، ورث موهبة الشعر من أمه سلكة، وكانت مشهورة بسمارها.
وذكر اسم ابن العرندس: وهو صالح بن العرندس المعروف باسم ابن العرندس الحلي، من كربلاء، من أعلام الشيعة في العراق عرف في القرن الثامن الهجري، وكان له الكثير من كتب الفقه والأدب. وصواف الصوافين محمد محمود الصواف، وابن عروة الورد، وتماضر (الخنساء) ذكرهم جميعاً.
وفي مشهد قبل ختامية (النعاشون) عندما قال الممثل (4): «كنت ناعساً نام على جدار وقته، غير أن الجدار استيقظ عندما شعر بي، فتساقطت قطعة، ثم قطعة، ثم قطعة، ليس غير الوقت يبقى إن رحلنا».
ممثل (4): «الحكاية لا تبني بيتها على جدار نائم، كلما داعبنا النوم اتجهنا نحو الطريق، طويل ناعس ونحن نبحث عن جدار لا يزعجه أن نتكئ عليه».
وتلك المقولة التي أنهي بها تحليلي للمسرحية، فنحن بالفعل أموات تحيا على وجه الدنيا، يلزمنا دوماً من نتكئ عليه لنحيا يوماً بيوم، لكن لا يأتي شيء من داخلنا، فلا تاريخ يحفزنا، ولا شجاعة تحدونا، أصبحنا طاقات مستهلكة بكثير من الثرثرة وقليل من الأفعال ولولا التخويف والترهيب والأوبئة لكنا استسلمنا، فلن تفرق كثيراً حياة القبور عن حياة القفور التي نحياها.
وهنا تذكرت رائعة هنريك أبسن (عندما نستيقظ نحن الموتى)، فقريبة منها جداً رائعتك، فالحياة بلا هدف موت، والحياة دون عيشة كريمة موت، والتعايش مع القهر موت، والخنوع وموت الطموح موت، وأتذكر قصيدة أبي العلاء المعري، وسأذكر فقط جزءاً يلخص المسرحية، وهنا تبنى المسرحية على نظرية التناص، أي ممكن أن الكاتب تأثر بتلك القصيدة:
غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي
نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ
وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ
ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ
ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ
صَاحِ هَذِهْ قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ
ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟
خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ
أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ
وَقَبِيحٌ بِنَا وَإِنْ قَدُمَ الْعَهْـ
دُ هَوَانُ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ
سِرْ إِنِ اسْطَعْتَ فِي الْهَوَاءِ رُوَيْداً
لَا اخْتِيَالاً عَلَى رُفَاتِ الْعِبَادِ
رُبَّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْداً مِرَاراً
ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الْأَضْدَادِ
وَدَفِينٍ عَلَى بَقَايَا دَفِينٍ
فِي طَوِيلِ الْأَزْمَانِ وَالْآبَادِ
فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا
مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ
كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ
وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ
تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْـ
ـجَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ
وأيضاً كانت هناك انفراجة من جرعة السوداوية في المعنى على وزن نونية ابن زيدون:
يا سارِيَ البَرقِ غادِ القَصرَ وَاِسقِ بِهِ
مَن كانَ صِرفَ الهَوى وَالوُدّ يَسقينا
وَاِسأَل هُنالِكَ هَل عَنّى تَذَكُّرُنا
إِلفاً تَذَكُّرُهُ أَمسى يُعَنّينا
وَيا نَسيمَ الصَبا بَلِّغ تَحِيَّتَنا
مَن لَو عَلى البُعدِ حَيّا كانَ يُحَيّينا
ذو صلة