مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

ما هي قيمة الحياة في عصر السامـوراي؟

في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، جذبت المعجزة الاقتصادية لليابان أنظار العالم أجمع، فكيف للدولة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية، قبل بضع سنوات فقط، منهارة تماماً اقتصادياً من جراء الحرب، مع خراب 40 % من بنيتها التحتية بسبب قنبلتي هيروشيما وناغازاكي، أن تتحول إلى ثاني أقوى اقتصاد في العالم، بفضل قدراتها الصناعية الجبارة سواء في مجال السيارات أو الأجهزة الإلكترونية، أو حتى الصناعات الثقيلة مثل الصلب والسفن، ناهيك عن استضافة أولمبياد طوكيو 1964 التي قدمت صورة جديدة لليابان كدولة متقدمة وحديثة، كل ذلك حرّك فضول المجتمعات الغربية نحو اليابان، لإعادة اكتشاف وفهم تاريخها القديم والحديث، وظهرت حاجة ملحة لأعمال فنية وأدبية تقدم ذلك التاريخ الغامض، وعلى الرغم من وجود نجوم لامعة في سماء السينما اليابانية مثل أكيرا كوروساوا وغيره، إلا أن جمهورهم ظل من النخبة المثقفة المطلعة على المهرجانات السينمائية المتخصصة، كما أن ثقافة المانجا لم تكن قد انتشرت بعد، وهنا ظهرت رواية (Shōgun) عام 1975 للروائي (جيمس كلافيل)، التي قدمت اليابان القديمة للجماهير الغربية الواسعة للمرة الأولى.
استقبلت الرواية بحفاوة بالغة من الجمهور العام، حيث بيعت بملايين النسخ وترجمت إلى عشرات اللغات، فهي تقدم مغامرة دسمة لرجل غربي داخل بلاد الشرق التي يصلها لأول مرة، ويتحول إلى أول ساموراي من خارج اليابان، وكون الرواية مبنية على أحداث حقيقية رفعت من درجة الإثارة أكثر، اختلف عليها بعض النقاد وقالوا إنها تقدم التاريخ بشكل مبسط ورومانسي أكثر من الحقيقة، خصوصاً أنها مكتوبة بلغة بسيطة ومليئة بالإثارة والمغامرات، ولكن القراء أشادوا بها وجعلتهم يتعطشون لمعرفة المزيد، ساهمت الرواية في إدخال مصطلح (Shōgun) للوعي الشعبي الغربي، وفتحت الباب للكثير من الأعمال الأدبية والسينمائية عن الساموراي وعن اليابان عموماً، وكان من الطبيعي أن يترجم كل ذلك النجاح إلى عمل درامي مقتبس عن الرواية، وبسبب ضخامة الرواية وأحداثها وتفاصيلها، واستحالة اختزال إلى ذلك إلى فيلم سينمائي، فقد ترجمت إلى مسلسل درامي عام 1980 يصل زمنه إلى 10 ساعات تقريباً، وإن اختصر أيضاً العديد من التفاصيل، إلا أن المسلسل هو الآخر حقق جماهيرية واسعة وانتشاراً كبيراً، ما عزز صورة الساموراي في أذهان الغرب، وحوله إلى أيقونة شعبية.
المدهش أن خلف تلك الحكاية، حكاية أخرى لا تقل إثارة، وتستحق أن تروى هي الأخرى، وهي حكاية المؤلف نفسه، وُلد كلافيل في سيدني، وكان ابن ضابط في البحرية الملكية البريطانية، أُعيد تعيينه في إنجلترا، وفي عام 1940 انضم كلافيل إلى المدفعية الملكية، وعلى الرغم من تدريبه على حرب الصحراء، فقد أُرسل إلى سنغافورة لمقاتلة اليابانيين، وأثناء رحلتهم، أُغرقت السفينة التي كانت تقل وحدته في طريقها إلى سنغافورة، فأنقذتهم سفينة هولندية كانت تهرب إلى الهند، وأصرت على إنزالهم في أقرب ميناء للقتال في الحرب، رغم أنهم لم يكونوا مسلحين، أُصيب كلافيل برصاصة في وجهه وأُسِر في جاوة ثم نُقل إلى معسكر ياباني محلي لأسرى الحرب، لم يتحدث كلافيل عن تجاربه في الحرب مع أي شخص، حتى زوجته، وذلك لمدة خمسة عشر عاماً بعد انتهائها، ولوقت ما كان يحتفظ دائماً بعلبة سردين في جيبه، ويقاوم رغبة ملحة في البحث عن الطعام في صناديق القمامة، كما كان يعاني من كوابيس متكررة، ومن آلام عصبية في معدته تبقيه مستيقظاً طوال الليل، مما يعكس حالة اضطراب ما بعد الصدمة التي أصابته بسبب الأسر، بعد الحرب تمت ترقية كلافيل، إلا أن حادث دراجة نارية أنهى مسيرته العسكرية، فالتحق بجامعة برمنغهام، حيث التقى بالممثلة (أبريل سترايد)، التي تزوجها عام 1949 حيث كان يزورها في مواقع تصوير الأفلام التي تعمل بها، وهناك بدأ اهتمامه يتجه نحو السينما، وكتب سلسلة رواياته (الملحمة الآسيوية)، وهي مكونة من ست روايات تاريخية كتبها بين عامي 1962 و1993، تستكشف التفاعلات بين الشرق والغرب، خصوصاً بريطانيا واليابان والصين، من القرن السابع عشر حتى القرن العشرين، ويمكن أيضاً استنباط أنها كانت وسيلته للتعافي من صدمة تجربته في اليابان، قبل أن ينطلق إلى عالم السينما وينخرط في كتابة وإخراج عدد من الأفلام الناجحة.
بعد كل هذه السنوات أصبح من الطبيعي إعادة إنتاج المسلسل، بإمكانات إنتاجية ضخمة، ورؤية فنية أكثر واقعية، وربما سوداوية بالنسبة إلى النسخة القديمة، التي كانت تمتلأ بحس الخفة والمغامرة، وبعض التصرفات الترفيهية غير المنطقية، مثل رقص الشوغون مع الوافد الإنجليزي، وقصة الحب المخفف منها التعقيدات الاجتماعية والثقافية، ناهيك عن الاهتمام وتطوير الشخصيات اليابانية، التي أصبح لها ثقل درامي يوازي أهمية دورها في القصة الحقيقية وحتى في منطق البناء الدرامي للأحداث، وهو ما أجاد فيه صناع المسلسل واستحقوا عن عملهم المتقن التتويج بـ 14 جائزة إيمي، في رقم قياسي غير مسبوق يحصل عليه مسلسل في موسم واحد.
يأخذنا المسلسل إلى أواخر القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، حيث بنت البرتغال إمبراطورية تجارية بحرية، بسبب تقنيات الملاحة المتقدمة التي طورتها بدعم ملكي، واحتكرت طرق التجارة بين أوروبا وآسيا، ولكن بسبب كثافتها السكانية المنخفضة في ذلك الوقت، إضافة إلى اعتبارات أخرى، لم تحاول البرتغال فرض سيطرتها بالقوة أو احتلال الدول التي توصلت إليها، واكتفت بإنشاء قواعد تجارية لها، تربط بين اليابان والصين والهند وأوروبا، وبعد سنوات قليلة من التواجد البرتغالي في اليابان، وصل المبشرون وبدأوا ينشرون الدين المسيحي بين اليابانيين، الأمر الذي لم تلق له السلطات اليابانية بالاً، خصوصاً مع انشغال الجميع بالحروب الداخلية، قبل أن يتم طرد جميع البرتغاليين لاحقاً بسبب القلاقل السياسية الناتجة عن التبشير، وهو الموضوع الذي أفرد له المخرج الأشهر (مارتن سكورسيزي) مساحة كاملة من خلال فيلمه (الصمت).
تبدأ أحداث المسلسل مع وصول سفينة الملاح الإنجليزي (جون بلاكثورن) المستوحى من شخصية (وليام آدمز) إلى الشواطئ اليابانية، وعند قراءة سيرة آدمز ستجد أن العمل كان أميناً جداً في نقل الوقائع التاريخية الأساسية، باستثناء حذف وإضافة بعض التفاصيل لأغراض درامية وفنية، وعندها يستقبله (يوشي توراناغا) المستوحى من شخصية (توكوغاوا إياسو)، الذي يرفض الأخير إعدامه بحسب وصية البرتغاليين الذين حاولوا إقناعه أنه قرصان متخف في شخصية تاجر ضل طريقه في البحر، يقرر توراناغا معاملته كضيف بشكل كريم، ويعين له مترجمة خاصة هي (ماريكو)، وهي شخصية خيالية بالكامل، ولكن سوف يكون لها دور درامي محوري، فهي اعتنقت المسيحية على يد البرتغاليين، تتحدث لغة جون، مدينة بالطاعة والولاء لتوراناغا، وهكذا تصبح هي أداة الربط الأساسية بين العوالم المختلفة، وهي التي تشرح لجون - ولنا بالتبعية - كل شيء يحدث، حتى لا يفوتنا فهم شيء من السياق، ولكي يحافظ المؤلف على تدفق الأحداث.
شخصيات المسلسل لها أهداف واضحة منذ البداية، وأغلبهم لهم أطماع في السيطرة على الأرض، البعض يريد إقطاعية والبعض الآخر يريد إقليماً كاملاً، زمن تجتاح فيه البلاد التمزقات السياسية والحروب الداخلية، شخص واحد فقط يبدو بلا أي أطماع أو خطط أو أهداف طوال أحداث العمل هو توراناغا، الذي يبدو في معظم الأحداث مهادناً، وربما حتى انهزامياً، يوافق دائماً على شروط أعدائه، وحتى أكثر خطواته جرأة كانت الهروب من أوساكا سراً ومتخفياً، في المقابل، جون بلاكثورن بطل درامي بكل معنى الكلمة، لديه هدف واضح هو إخراج البرتغاليين من اليابان، وأن يحل هو وبلاده محلهم على كل المستويات السياسية والتجارية وحتى الدينية، لاحظ أن البرتغال في ذلك الوقت كانت تحت اللواء الإسباني، أي العدو اللدود لإنجلترا، والمنافسة بينهما على أشدها، خصوصاً فيما يخص الأساطيل البحرية واحتكار التجارة وحتى الحروب المباشرة.
يحاول جون استمالة توراناغا باعتباره أهم شخصية قابلها في اليابان، والأخير مشغول في صراعاته مع الأوصياء ومجلسهم الذي يحاول إصدار قرار بقتله هو وكل عشيرته، الصراعات التي لا تبدو تفاصيلها كلها واضحة في البداية، وهكذا ندخل مع جون في عدد من التحديات التي تقابله، وهي مقدمة بطرقة رصينة تخلو من الحس المغامراتي في النسخة القديمة، فهو يحاول أن يبقى على قد الحياة، يحاول استعادة سفينته التي دخلت في حوزة اليابانيين، يريد إخراج رجاله من الأسر، خصوصاً أن أحدهم قد تم تعذيبه وقتله دون سبب، ثم يحاول إقناع توراناغا أنه قادر على إفادته، ثم وبشكل قدري ينقذ حياته مرتين متتاليتين، وهو ما يجعل توراناغا يرقيه إلى رتبة ساموراي، ويمنحه منزلاً وزوجة وراتباً كبيراً، ويعينه قائد فوج المدفعية، وفي وسط كل ذلك يجد جون نفسه دون أن يشعر مع مرور الأحداث في علاقة عاطفية صامتة خارجياً مع ماريكو، وهو ما يعطيها البعد الجذاب، خصوصاً مع المحظورات الدينية والاجتماعية والثقافية التي تؤكد أن علاقتهما مستحيلة ومأساوية، بعيداً عن الرومانسية الساذجة التي تناولتها نسخة المسلسل السابقة.
يظل بلاكثورن هو بطل المسلسل الذي يحرك الأحداث طوال الفصل الأول والثاني، وهو ما يثير تساؤل المتفرج عن مساحة توراناغا، خصوصاً أن المسلسل تخلى بالكامل عن الحس المغامراتي، واستبدله بحس استكشافي لليابان من عيون غريبة، ولكن يبقى لتوراناغا اليد العليا في إعلان الحرب أو إنهائها بقراراته، وجون لا يعدو كونه مساعداً له عندما تقيس الأمر بميزان العسكرية ومصير البلاد، وهنا يتجلى ذكاء المعالجة الدرامية الجديدة، التي جعلت كل ذلك جزءاً من خطة توراناغا منذ البداية، فهو لا يكشف أبداً عن نواياه حتى ختام الحلقة الثامنة، وعندها يتبدل كل شيء، ونكتشف أنه مثلما هرب من أوساكا متخفياً، كانت لديه طوال الوقت خطة تعمل وتنجح، وتمر أمام أعيننا كمشاهدين دون أن نلاحظها، تماماً كما مرت أمام أعدائه، ولذلك تأتي الحلقة التاسعة بدرجة كبيرة من الإثارة، لأن بطلتها هي ماريكو، ولأنها تنفذ خطة لا نعلم عنها أي شيء، ورغم نجاحها الباهر، إلا أنها تنتهي نهاية مأساوية، لنكون في انتظار الحرب الفاصلة في الحلقة الأخيرة، التي يتم التمهيد لها منذ منتصف الأحداث، ليكشف لنا توراناغا ولصديقه المقرّب، كيف أنه فاز بالحرب بالفعل دون أن يضطر إلى خوضها، وأن هدفه منذ البداية هو توحيد البلاد تحت راية حكم شوغون قوي، ليعم السلام كل أراضي اليابان، وعندها يطرح صديقه السؤال الحاسم الذي يعكس التيمة الدرامية للمسلسل، والمختبئة تحت طبقات عديدة من الخطوط الدرامية والتيمات الفرعية المتنوعة، هل يستحق الأمر كل هذه التضحيات؟ هل تستحق حياة رجال توراناغا المقربون الذين ضحوا بأنفسهم طوال الأحداث أن يحقق هو انتصاراً عسكرياً؟ وهو السؤال الذي يتركه صناع المسلسل مفتوحاً ليطرحه المشاهدون على أنفسهم، ومن يقرأ تاريخ ما حدث لاحقاً، سيعرف أن اليابان ظلت موحدة وتعيش في سلام طوال قرنين من الزمن، صحيح أن الأمر لم يخل من طرد البرتغاليين وما تلاه من جرائم في حق اليابانيين المسيحيين، ولكن، هل كان الأمر يستحق؟
ذو صلة