مجلة شهرية - العدد (590)  | نوفمبر 2025 م- جمادى الأولى 1447 هـ

التراث والحراك الحضاري المعاصر

يواجه العالم العربي تحديات مصيرية، في سياق العولمة والرقمنة والذكاء الاصطناعي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وسعي بعض الدول للسيطرة السياسية والاقتصادية والحربية. وفي هذا الإطار يُستدعى التراث من ناحية لترسيخ معالم الهوية وما يترتب على ذلك من توثيق وحفظ من الضياع والاندثار، كما يتم من ناحية أخرى الترويج لاستثمار التراث في السياحة الثقافية. يتم ذلك في ساحة من المفاهيم المتضاربة لمفهوم التراث وما يصاحب ذلك من مصطلحات مستحدثة. ومن هذا المنطلق علينا أن نعيد النظر في السياق الذي انطلقت منه هذه المصطلحات، واعتبار التراث ما نتوارثه من المجتمعات السابقة لا من خلال نقل أعمى، بل من خلال انتقاء واصطفاء مجتمعي ناتج عن التفاعل مع المتغيرات النابعة من المجتمع ذاته أو تحت تأثير ثقافات مخالطة.
وما من شك في أن مشاركة المجتمع في التعامل مع التراث ضرورية من أجل مستقبل أفضل لما للتراث من قيم ومعارف يمكننا أن نستخلصها لنستنير بها في فهم الحاضر وصياغة المستقبل، ولنستهدي بها في التأكيد على الاستمرارية والتواصل، ولنستشرف من خلالها الجوانب الخلاقة والإبداعية التي تكمن وراء قدراتنا على تحسين الأحوال والاستمتاع بالحياة.
إلا أن هذه النظرة إلى الجوانب المضيئة من التراث كانت متوارية خلف الاهتمام الحصري التقليدي بالمكون الديني من التراث من ناحية، وبالفنون الشعبية التي ظهر الاهتمام بها من خلال إسهامات الدول الأوروبية الحديثة في صياغة الهوية القومية من ناحية أخرى. وكان الاهتمام بالتراث من قبل المؤسسات العالمية منصباً بادئ ذي بدء على الآثار والمواقع الأثرية المتميزة ذات الأهمية العالمية، كما جاء في اتفاقية اليونسكو للتراث العالمي عام 1972. وتلا ذلك الاهتمام بالمباني التاريخية بهدف الحفاظ عليها.
وفي عام 1992 تنبّهت اليونسكو لما سُمي (المنظر الحضاري) بمعنى الأماكن والأقاليم التي ساهم الإنسان في تشكيلها، كما هو الحال في الحدائق والبساتين والمراعي. وفي عام 1994 تم الإعلان عن وثيقة (نارا للأصالة) التي شددت على الحفاظ على أصالة المباني التاريخية والأثرية. كما ظهر اهتمام خاص بما سُمي (البيئة المبنية) لتشمل المباني ومحيطها التاريخي والطبيعي والنسيج الحضري وشبكات الطرق والتنوع السكني والصناعي والخدمي. وتلامس هذا مع اتفاقية فينيسيا للشبكة الدولية للمباني التراثية والعمران عام 2006.
وكان استخدام مصطلح (الممتلكات الحضارية الثقافية) شائعاً عندما صيغ إعلان لاهاي عام 1954 للحفاظ على الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح.
ومن أهم ما استُحدث في مجال التراث ما قامت به اليونسكو عام 2003 عندما اعتمدت اتفاقية لصون روائع التراث الشفاهي القولي والممارسات والتعبيرات اللغوية المتوارثة كالأمثال والمهارات المعرفية وكذلك الأدوات والمواد والأماكن المرتبطة به. وهو ما تمت الإشارة إليه بالتراث اللامادي. وأطلقت اليونسكو هذا العام (اليوم العالمي للتراث اللامادي) ليحتفل به العالم يوم 17 أكتوبر من كل عام.
ونحتاج في هذا اليوم أن نتوقف لمراجعة المنظومة الفكرية التي تنطلق من خلالها الاتفاقيات والمواثيق الخاصة بالتراث، خصوصاً أن مفاهيم التراث بوصفه ممتلكات ظهرت في أوروبا في إطار الثورة الفرنسية للحفاظ على القصور والحدائق والحصون الحربية والتحف والكنوز التي أصبحت ملكاً للشعب والدولة. وهكذا ظهرت من خلال الدولة مؤسسات لصون وحماية هذه الكنوز، كما حدث في مصر بعد ثورة عام 1952. وامتدت الفكرة لتشمل الآثار من الحضارات القديمة عندما طالبت مصر والسودان بحملة علمية لإنقاذ آثار النوبة، والتي تأسس من خلالها مركز اليونسكو للتراث العالمي.
وعندما تضارب مفهوم الصون مع إعادة استخدام المباني أو ترميمها أو إعادة تأهيلها بما قد يطمس ملامحها الأصلية، ظهرت وثيقة نارا وما تلاها من مراجعات. كما كان الاهتمام بصون البيئة الطبيعية نظراً لما يهددها من أخطار دافعاً لتوقيع الاتفاقيات التي وصل عددها حالياً إلى ما يزيد على 3000 اتفاقية دولية، كما كان دافعاً للاهتمام بالمنظر البشري.
ومع كل ذلك كان الاهتمام في المحل الأول منصباً على الأشياء أو حتى المخرجات القولية أو السلوكية المتوارثة في حد ذاتها، ولم يكن هناك اهتمام كافٍ بما تعنيه هذه الأشياء للناس في حياتهم خارج المتاحف والمناطق الأثرية والمباني التاريخية والأرشيفات والمخازن.
ولذلك فإن أحد أهم القضايا التي ينبغي اعتبارها تكمن في التوصل إلى إستراتيجية لإدارة التراث الثقافي والحضاري من منطلق تعميق فهم إشكاليات التراث على الصعيد الدولي والإقليمي والقومي والمحلي، وعلى تفعيل دوره في المقام الأول نحو التنمية المجتمعية المستدامة في إطار الأهداف العالمية للتنمية المستدامة، ومنها القضاء على الفقر من خلال التنمية الاقتصادية التي تعتمد على التعليم، والمسكن اللائق، والمساواة بلا تمييز، وتوفير بيئة نظيفة. ومن المصادفة أن يكون اختيار يوم 17 أكتوبر يوماً عالمياً للتراث اللامادي هو أيضاً اليوم الدولي للقضاء على الفقر.
ومن هذا المنطلق ينبغي أن نؤكد على الصلة التي تجمع بين المجتمعات والتراث، ويتمثل هذا على وجه الخصوص في الاهتمام بالنسيج الاجتماعي والبنية المجتمعية والديناميكيات التي كان من نتائجها كل ما تبقى من آثار وموروثات تستمر وتتواتر من خلال الممارسات السلوكية، مثل الحج أو السياحة، مغروسة في مجموعة من القواعد والقيم والأفكار التي انتقلت عبر مجال واسع من نظم الاتصال الشفوية والمكتوبة والمتعددة الوسائط، وتشمل الروايات الشعبية، ومطبوعات الدعاية السياحية، والكتب الجماهيرية والأكاديمية، والنصوص الدينية والخطابات السياسية، والسرديات الأدبية أو الشعبية مثل ألف ليلة وليلة أو السيرة الهلالية أو كتب التراث الدينية.
ويتعدى هذا مفهوم التراث بوصفه تراثاً مادياً أو لا مادياً، لأن كليهما تراث ثقافي مجتمعي نشأ في مجتمعات سالفة واحتفظت به أو أعادت إحياءه مجتمعات لاحقة، كما حدث في إحياء تراث مصر القديمة من خلال علم المصريات والترويج له في أشعار أحمد شوقي وروايات نجيب محفوظ التاريخية وتمثال (نهضة مصر) لمحمود مختار.
ولذلك يجب ألا يقتصر مفهومنا للتراث اللامادي على ما يكافئ الفولكلور، بل يجب أن يتسع مفهومنا للتراث الحي الذي يؤكد على استمرارية التراث المعنوي الفكري والقيمي والسلوكي في الحاضر، انطلاقاً من تفهم الديناميكيات المجتمعية والقيم والأهداف والسرديات التي تتشكل من خلالها نظرتنا إلى ذواتنا والآخرين والعالم.
وقد تم الاعتراف بهذا التناقض بين الممارسات والقيم الخاصة بالتراث الطبيعي المادي والتراث المعنوي في المؤتمر الذي نظمته اليونسكو وعقد في نارا باليابان من 20 إلى 23 أكتوبر عام 2004، والذي كنت مقرراً له، إذ يتطلب إعادة اعتبار التراث الحضاري لمعالجة البقايا المادية للماضي متلازمة مع مكانها وموطنها ومحيطها والممارسات الاجتماعية والأفكار التي تجسدها، كما يمكن فهمه من خلال التواصل الثقافي والحضاري بين الشعوب.
ولذلك فإن من أهم أولويات القائمين على شؤون الثقافة والتراث التشارك في تقديم وعرض وتفسير التراث لتعميق فهم ديناميكيات الحراك الثقافي عبر العصور والإشادة بالقيم التي يمكن أن تساهم في مجتمع قويم، وتوظيف التراث من خلال إشراك المجتمعات المحلية في استثماره عبر مشروعات إبداعية تعود عليهم بالنفع الاقتصادي والمعنوي دون الإخلال بالبيئة أو النسيج المجتمعي، والسعي لأن يصبح التراث بكل أطيافه عنصراً فعالاً وحيوياً في المجتمع، ويستدعي ذلك مخططاً لبناء القدرات.
ولا ينبغي إذن أن نقصر جهودنا على توثيق التراث من دون الانتباه لآليات نقله والقيمة المجتمعية لعناصره وما يعنيه في إطار الفرص والتحديات التي تواجه المجتمع المعاصر. كما يستدعي دمج التراث في الحراك الثقافي المعاصر مراجعة مفاهيم الهوية لا كخصائص مظهرية مصمتة، بل كمنظومة من الأسس الحياتية والقيمية الجوهرية.
ولا يعني استثمار التراث مجرد إدراجه في السياحة بصورتها التقليدية، بل في إطار أشمل يبدأ من استثمار التراث المعرفي الذي استطاع العالم العربي من خلاله فرض هيمنته الثقافية على العالم اعتماداً على أولوية إعمال العقل حتى في أمور العقيدة، ودعم صناعة المعرفة، ومشاركة الجميع بلا تمييز في المساهمة في جني المعارف والاستفادة منها كما كان الحال في عواصم المعرفة في بغداد والقاهرة والأندلس.
كما تقتضي النظرة المجتمعية للتراث أن يمتد اهتمامنا إلى النظم المجتمعية والاقتصادية المتوارثة وما يتطلبه الحاضر من دورها في الحراك المجتمعي المعاصر، وما يمكن أن تساهم به نحو مستقبل أفضل في عالم متغير. ويشمل ذلك توظيف التراث لمواجهة ما يهدد البشرية جمعاء من الظلم وعدم المساواة والبطالة والجهل إلى البدانة والتلوث البيئي وتغير المناخ وندرة المياه وشح الموارد الطبيعية، وهناك العديد من الأسس والمرجعيات التي يقدمها التراث العربي من أمثال وممارسات تقليدية وسلوكيات يمكن أن تلعب دوراً مهماً في هذا المجال.
 ________________________________________________________________________________________________________________
* نائب رئيس المنظمة الدولية للآثار، الأستاذ الفخري بمعهد الآثار بجامعة كمبريدج في لندن، مدير برنامج إدارة التراث الثقافي بالجامعة الفرنسية في مصر.

ذو صلة