ُعَدُّ الموروث الشعبي من أهم مقومات الهوية الثقافية للشعوب، فهو المرآة التي تعكس ملامح الإنسان في علاقته بأرضه وتاريخه ومجتمعه. والموروث ليس مجرد روايات قديمة أو فنون تقليدية، بل هو رصيد حي من التجارب والرموز والقيم التي تنتقل عبر الأجيال لتشكل أساس الذاكرة الجمعية والهوية المشتركة. وفي العالم العربي، يتجلى الموروث الشعبي في صور متعددة، منها الحكايات والأمثال، والأغاني والرقصات، والفنون اليدوية، والعمارة التقليدية، والزخارف الغنية بالدلالات.
ومن بين أبرز النماذج التي تُظهر عمق الموروث الشعبي وأثره في تثبيت الهوية، الزخارف والعمارة النجدية في قلب الجزيرة العربية. فهي ليست مجرد منتجات جمالية، بل هي تجسيد للعلاقة الوثيقة بين الإنسان وبيئته، حيث استلهمت عناصر الطبيعة كالجبال والنباتات في البناء والزخرفة، لتصبح علامة راسخة في وجدان المجتمع العربي.
أولاً: الموروث الشعبي ودوره في تشكيل الهوية
الموروث الشعبي يرسخ الانتماء ويمنح الفرد شعوراً بالاستمرارية مع الماضي. فالأمثال تختصر خبرات الأجداد، والحكايات تحمل رموز الحكمة والصمود، والأغاني الشعبية تحفظ مشاعر الجماعة. ومن خلال هذه العناصر يتشكل الإحساس بالهوية، الذي يميز الأمة العربية عن غيرها من الشعوب ويمنحها شخصية فريدة رغم تنوعها الجغرافي والثقافي.
الزخارف والعمارة النجدية تأتي في هذا السياق كجزء أصيل من الموروث. فهي ليست فنوناً منفصلة عن الحياة اليومية، بل انعكاس مباشر للقيم والتجارب التي عاشها المجتمع النجدي في بيئة صحراوية قاسية، مما أكسبها بعداً رمزياً عميقاً.
ثانياً: الزخارف النجدية.. لغة بصرية للهوية
تتميز الزخارف النجدية بدقة تصاميمها وغنى ألوانها، حيث ترسم غالباً على جدران البيوت الطينية أو تنفذ على الأبواب والنوافذ الخشبية.
- الأشكال الهندسية: مثل المثلثات المتكررة، المربعات، النجوم، والخطوط المتوازية. هذه الأشكال تعبر عن النظام والتوازن، وتظهر حساً جمالياً بسيطاً لكنه عميق في رمزيته.
- الزخارف النباتية: تتخذ شكل أغصان متشابكة أو أزهار بسيطة، وهي رمز للحياة والخصب وتذكير دائم بعلاقة الإنسان بالطبيعة التي تمنحه مقومات البقاء.
- الزخارف الجبلية: استلهمت من هيئة الجبال الراسخة، فجاءت في أشكال مثلثية أو خطوط متعرجة. وهي تجسيد للقوة والثبات والاستمرارية، وقد ارتبطت في الوجدان الجمعي بفكرة الحماية والرسوخ.
- الألوان المستخدمة: الأحمر الداكن رمز الحيوية، الأزرق رمز الصفاء، الأخضر رمز الحياة والنبات، أما الأسود والأبيض فيضيفان التوازن والوضوح. هذه الألوان مجتمعة لا تعكس مجرد ذوق جمالي، بل لغة رمزية تختزن معاني البقاء والانسجام مع الطبيعة.
بهذا المعنى، تتحول الزخارف النجدية إلى ذاكرة بصرية تحفظ قيم المجتمع وتعيد إنتاج هويته جيلاً بعد جيل.
ثالثاً: العمارة النجدية.. انسجام بين الوظيفة والجمال
العمارة التقليدية في نجد مثال حي على التكيف مع البيئة القاسية دون التخلي عن البعد الجمالي.
- البيوت الطينية: بُنيت بجدران سميكة لحفظ البرودة صيفاً والدفء شتاءً، ما يعكس فهماً عملياً للبيئة.
المجالس الداخلية: صارت قلب المنزل ومكان اجتماع الأسرة، وزخرفت جدرانها بألوان ورسوم هندسية ونباتية لتشيع البهجة والدفء.
- الأبراج والواجهات المزخرفة: استخدم الجص الأبيض لتزيين الواجهات بخطوط وأشكال بارزة، فكانت واجهات المنازل لوحة فنية تعكس الذوق الجمعي.
- النوافذ الخشبية المزخرفة جمعت بين الوظيفة الجمالية والعملية، إذ سمحت بدخول الضوء والهواء مع الحفاظ على الخصوصية.
- توظيف الطبيعة: كان للجبال والنباتات حضور رمزي واضح، فاستُخدمت أشكال الجبال في تصميم الأبراج والخطوط المثلثة، بينما مثلت النباتات رمزاً للخصب والتجدد، ما جعل العمارة النجدية امتداداً مباشراً للبيئة المحيطة.
رابعاً: الموروث الشعبي والذاكرة الجمعية
الزخارف والعمارة ليست مجرد فنون زخرفية، بل هي وسيلة لحفظ ذاكرة المجتمع. حين يرى الجيل الجديد تلك الرسوم المثلثة المستوحاة من الجبال، أو الأشكال النباتية التي تزين البيوت الطينية، فإنه يتصل مباشرة بتاريخ طويل من الإبداع الشعبي.
هذه الفنون تعيد إنتاج الذاكرة الجمعية، فهي تذكير دائم بأن الإنسان العربي لم يكن مجرد متلقٍ للبيئة، بل صانعاً لرموزها ومفسراً لدلالاتها. إنها لغة صامتة تحكي عن الصمود والجمال، وتربط الماضي بالحاضر.
خامساً: البعد الإنساني للموروث الشعبي
على الرغم من خصوصية الزخارف والعمارة النجدية، إلا أنها تحمل قيماً إنسانية مشتركة. استلهام الطبيعة جبالاً ونباتات كرموز للقوة والحياة هو سلوك بشري عالمي. ففي فنون شعوب أخرى نجد الجبال رمزاً للثبات، والنباتات رمزاً للخصوبة والخلود.
بهذا، تتحول الفنون الشعبية إلى جسر للتواصل بين الحضارات، وإلى لغة بصرية إنسانية تؤكد أن البحث عن الجمال والهوية حاجة مشتركة بين البشر جميعاً.
سادساً: الحفاظ على الموروث في العصر الحديث
مع تسارع مظاهر العولمة، يواجه الموروث الشعبي خطر الاندثار. لكن الزخارف والعمارة النجدية ما زالت حاضرة بفضل جهود الترميم وإعادة الإحياء. فقد اتجهت المملكة العربية السعودية مثلاً إلى ترميم القرى والبيوت الطينية القديمة، وإقامة فعاليات ثقافية تعرض الزخارف التقليدية، مما ساعد في إعادة ربط الأجيال بجذورها.
كما أن المصممين المعاصرين استلهموا هذه الزخارف في الأزياء والديكور الحديث، ليجعلوا من التراث جزءاً حياً من الحياة اليومية. وبهذا يستمر الموروث في أداء وظيفته: تثبيت الهوية وحفظ الذاكرة الجمعية.
إن الموروث الشعبي ليس مجرد ماض يروى، بل حاضر يعاش ومستقبل يبنى. وفي السياق العربي، تشكل الزخارف والعمارة النجدية نموذجاً واضحاً لكيفية اندماج الإنسان مع بيئته واستلهام الطبيعة الجبال رمز القوة والنباتات رمز الحياة في بناء هوية بصرية وثقافية راسخة.
هذه الفنون لا تعبر فقط عن الجمال، بل تحمل رسالة أعمق: أن الهوية تُصنع من تفاعل الإنسان مع أرضه، وأن الذاكرة الجمعية تُبنى من رموز تستمر في وجدان الأجيال. وبذلك يظل الموروث الشعبي ركناً أساسياً من الهوية العربية، وفي الوقت نفسه جزءاً من الهوية الإنسانية الجامعة، التي تثبت أن تنوع الثقافات ليس مصدر اختلاف، بل جسر تواصل وإثراء للتجربة البشرية.
______________________________
* مستشار في هيئة تطوير بوابة الدرعية