خلف رؤية 2030 التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مفاتيح للنجاح توفرها معطيات الجغرافيا ورواسب التاريخ لابد من سبر أغوارهما لقياس مدى النجاح المأمول منها ومدى تأثيره على الأجيال القادمة ليس فقط في المملكة فحسب وإنما في أنحاء المنطقة العربية كافة.
الواقع أن مفتاح نجاح المشروع السعودي الأول يكمن في إفادته من الموقع الجغرافي الخطير الذي يضع المملكة في قلب طريق التجارة العالمية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وكأن الإرادة الإلهية قد رسمت تخوم المملكة لتكون في طريق قوافل الحج القديمة، وهي نفسها تقبع في مركز طرق التجارة البحرية والبرية، وكأن طريق الحرير الواصل بين ممالك الصين والهند إلى أسواق إمبراطوريات أوروبا كان لابد له من نفحة روحية دينية، ولا عجب أن الأديان السماوية انطلقت من نفس منطقة الشرق القديم لتنتشر على طرق التجارة والحرير، وقد جرت في ركابها فلسفات وأفكار وفنون وعلوم بزغ منها عصر النهضة الأوروبية. علينا إذاً أن نفتح الخريطة ونعيد قراءة تاريخ المملكة من زاوية عبقرية المكان وتأثيره على العالم القديم والحديث.
ويحضرنا في هذا المجال حلم البندقية القديم-أو فينيسيا إذا شئت- بالإفادة من عبقرية المكان في حجاز الأمس ومملكة اليوم في ربط الشرق بالغرب وفتح الطرق مباشرة بين موانئ الجزيرة من ناحية وفينيسيا من ناحية أخرى عبر الموانئ المصرية وذلك في مسعى حثيث لا يكل ولا يمل لضرب طريق رأس الرجاء الصالح الطويل والوعر والبعيد والخطر الذي كان قد اكتشفه بارتولوميو دياز أولاً عام 1488 ثم -لاحقاً- فاسكو دا جاما عام 1497. وكان لابد لدوق البندقية أن يقترح على سلاطين المماليك في مصر والحجاز حفر قناة تصل البحرين الأحمر والمتوسط، وهناك لوحة مشهورة تحمل اسم (مشروع ربط البحرين) للفنان الإيطالي جوليو كارليني (المولود بفينيسيا عام 1826 والمتوفى بها عام 1887).
وقد يجدر بالذكر أن المشروع الذي سيعرف فيما بعد في القرن 19 باسم (قناة السويس) كاد أن يفشل ويتبخر عندما مات محمد سعيد حاكم مصر الذي كان قد منح امتياز حفر قناة السويس للدبلوماسي الفرنسي فردينان ديليسبس عام 1854 لولا أن الأمير عبدالقادر الجزائري -وكان في مكة- قد أصدر فتوى بضرورة استكمال حفر القناة، لأنها تفتح طرق السفر لقوافل الحجيج من أطراف العالم الإسلامي إلى الأراضي المقدسة في مكة والمدينة المنورة. وهناك صورة نادرة للأمير مع فردينان ديليسبس والخديوي إسماعيل ومهندسي الحفر وكانوا قد ذهبوا للقاء الأمير عند عودته من مكة.
إن عبقرية المكان لا تعني فقط حدود الموقع الجغرافي بل تأثيره الواسع على المنطقة المحيطة به ومن ثم على المناطق الأبعد وهو ما حدث بالضبط في قصة حلم فينيسيا القديم الذي يعني أن أبعد ثغر للمملكة على البحر الأحمر أو الخليج العربي هو نقطة على خط التجارة الذي يصله بأسواق الثراء في إمبراطوريات أوروبا. هذه هي عبقرية المكان الذي أعطاه الله للمملكة وهي عبقرية جعلت منذ اكتشاف نفطها المملكة في قلب العالم اقتصادياً ومن ثم سياسياً وبالتالي ثقافياً.
ولم يشأ التاريخ القريب إلا أن يمهد لتلك المكانة الفريدة بحلم آخر يبدو عابراً وما أكثر الأحلام العابرة التي تركت بصماتها في تاريخ البشرية.
حلم مكة الفرنسي
منذ أن وطأ نابليون بونابرت أرض الشرق في يوليو عام 1798 كانت السيطرة على البحر الأحمر هي حلمه الحقيقي والكبير من أجل إنشاء إمبراطورية فرنسية في العالم الإسلامي على أنقاض الإمبراطورية العثمانية (رجل أوروبا المريض). راوده حلم زيارة مكة وإعلان نفسه مسلماً وراح يتواصل في مراسلات طويلة مثيرة مع أمراء المسلمين في الشرق والغرب. وإذا كانت الظروف المعقدة قد حالت بينه وبين حلم مكة فإن ابن أخيه الإمبراطور نابليون الثالث كاد هو الآخر أن يحقّق الحلم بإنشاء مملكة عربية بزعامة الأمير عبدالقادر الجزائري لكن حالت هزيمته المروعة في معركة سيدان أمام جيوش بروسيا عام 1870 دون تحقيق (حلم مكة) الفرنسي.
توافرت إذن لمشروع ولي العهد السعودي الأسس التاريخية وعبقرية المكان ليتحول (حلم مكة) القديم إلى حلم مملكة مترامية الأطراف تعنى بالبشر والحجر وتمد يدها لتطرق باب حداثة طالما صعبت على العرب والمسلمين-شرقاً وغرباً- وانغلقت دونها أبواب وقامت في سبيلها حروب دامية.
إن تأصيل (رؤية 2030) ضروري لأنه يخرج بالمشروع الكبير من دوائره المحلية إلى رحاب إقليمية وأوروبية تظهر قدرة صاحب القرار على صنع التاريخ والتفاعل مع العصر.
ولعل ظاهرة الاهتمام الأوروبي بالسياحة في المملكة أحد أبرز نتائج هذا التفاعل وهو في حد ذاته جاء كنتيجة لمجهود ثقافي سعودي واسع النطاق في عواصم الإمبراطوريات الأوروبية القديمة وبخاصة باريس التي شهدت حدثاً ثقافياً تاريخياً كبيراً عام 2020وهو معرض (العلا واحة العجائب في الجزيرة العربية) بمعهد العالم العربي.
وقد أدى نجاح المعرض وصداه الإعلامي المفاجئ اتخاذ جاك لانج وزير الثقافة الأسبق والأشهر ورئيس المعهد قراراً بمد المعرض. وأشاد لانج في حديثه لوكالة الأنباء السعودية (24 يناير 2020) بقرار ولي العهد السعودي بتحويل العلا إلى وجهة عالمية للتراث. ولعل عبارة جاك لانج التي يقول فيها: (إن ما توليه المملكة من أهمية وتركيز على محافظة العلا لأنها كانت القلب النابض لشبه الجزيرة العربية وملتقى حيوياً على طول طريق البخور وطريق الحج، إضافة إلى احتضانها لعاصمة مملكتي دادان ولحيان القديمتين المسيطرتين على تجارة القوافل آنذاك) تعود بنا إلى ما تقدم بخصوص عبقرية المكان وهو ما فهمه الفرنسيون. ولعل تكليف الحكومة السعودية للوكالة الفرنسية AfALULA لتطوير محافظة العلا خير دليل على ذلك.
وقد أدى نجاح العلا إلى انطلاق قاطرة للثقافة السعودية في العاصمة الفرنسية لعل أهمها معرض الثقافة السعودية عام 2023 كان فيه النجاح الأوفر من حظ مركز الأمير محمد بن سلمان العالمي للخط العربي. ومعرض صور فوتوغرافية لمصورين فرنسيين.
وأود هنا أن أشير إلى الجهد العلمي الذي يبذله الفرنسيون الآن للاهتمام بتاريخ المملكة وتقديمه بشكل أكثر جدية وأكثر عصرية وتوثيقية للجمهور الفرنسي. وأذكر هنا بالتحديد مؤلفات الدبلوماسي الفرنسي الكبير لويس بلان الذي عمل قنصلاً عاماً لبلاده في جدة سنوات طوال وأخص من مؤلفاته (فيكتور هوجو والإسلام) و(لا مارتين والإسلام). ويمكن للقارئ الرجوع إلى حديثه للتلفزيون السعودي عن تأثر الكتاب والرحالة الفرنسيين بالجزيرة العربية.
كل هذه عناصر جديدة تشكل قوة ناعمة سعودية في العاصمة الفرنسية توثر وتتأثر، تفعل وتتفاعل بلغة عصرية ولعلها -في إطار (رؤية 2030) تشكل الواجهة أو كما كان يقول أندريه مالرو الكاتب الشهير ووزير ثقافة فرنسا في عصر الجنرال ديجول La culture est la métaphore de la politique (ما الثقافة إلا مجاز للسياسة).
اللغة الجديدة سلاح جديد لهذه القوة الناعمة الجديدة للمملكة لا يكفي فيها أن نتكلم مع العالم بل أن نجعله يفهمنا. لا تكفي معرفة اللغة la langue بل لابد من التمكن من لغة الفهم le langage حتى يكون اهتمام العالم بنا عن قناعة. إن مشروع المملكة ما هو إلا بداية لمشاريع كبرى قادمة ستفرضها عبقرية المكان ودروس التاريخ.