مجلة شهرية - العدد (588)  | سبتمبر 2025 م- ربيع الأول 1447 هـ

الدور المحوري للسعودية في إعادة تشكيل المنطقة والعالم

سعودياً كثيرة هي العناوين التي لابد من الإضاءة عليها لقراءة واقع ومآلات المملكة حالياً، ولاسيما ونحن في أوج مخاض عسير سيعيد تشكيل الأوزان والنفوذ في المنطقة، وقد يصل إلى إعادة تشكيل جغرافيتها، ما يعني أن قراءة المشهد السعودي لابد وأن تضيء على الفرص وعلى المخاطر أو التحديات في آن معاً، ففيما ثبت أن السعودية المملكة التي التقطت مبكراً تأثيرات الوقائع في العالم والمنطقة فاستعدت بإقرار إستراتيجيات سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة ضمن رؤيتها الشاملة (2030)، وتفاعلت بشكل مدروس لتحجز مقعداً مستقراً على مائدة الأطراف المؤثرة لا المتأثرة، لا تخفى ضرورة امتلاك إجابات واضحة على عناوين متفجرة أو بالحد الأدنى هي بحاجة مقاربات لمنع تأثيراتها من تعكير صفو المسار المرسوم، ولاسيما تلك المتعلقة بالقضية الفلسطينية والمخاطر عليها ربطاً بمشروع التطبيع الشامل في المنطقة، الذي لا يخفى أن السعودية هي درة تاجه في نظر الغرب الفاعل والمشتبك مع الملف في العمق، فضلاً عن تفاعلات الساحتين السورية واللبنانية ما بعد الانقلاب الهائل في الأوضاع والأوزان وتعاظم تداخل الأطراف الإقليمية والدولية المعنية، جنباً إلى جنب مع ضرورة ترتيب الأوراق الذاتية، داخلياً وخليجياً وعربياً.
كانت القمة العربية (جدة 2023) بمثابة إعلان انطلاق المساق الجديد الذي تبنّته الرياض، بعناوينه التي تجاوزت المقاربة الجديدة للعمل العربي المشترك لتشمل انتزاع الحق في تنويع التحالفات والقفز فوق الكثير من الحواجز فيما يتعلق بالعلاقة بالصين مثلاً أو تبريد الملفات مع الجار اللدود إيران أو الدخول على خط الوساطة في الملفات الكبرى كالحرب الروسية الأوكرانية أو الإقليمية كحرب الوكالة في السودان الشقيق ومحاولات خلق هوة في جدار الأزمة السورية بمفرداتها المتأزمة آنذاك، وكله انطلاقاً من رؤية ندية تأخذ بالحسبان أخيراً أن وزن ومكانة المملكة في المعادلة الدولية تمنحها الحق والفرصة في تحقيق قفزة على مستوى النفوذ والتحصين والفعل الدبلوماسي وبما يناقض رؤية بعض الأطراف العربية التي التزمت دور الوسيط المحسوب على جهة أو المكلّف بدور هنا أو هناك ضمن سقف مرسوم محدود يكتسب قيمته من الغير لا من الذات. كل ذلك وغيره كان دليلاً على اتساع في الرؤية والقدرة على فهم الأحداث والمسارات وعلى المكانة التي ساهمت في إشراكها في التفكّر فيما هو قادم وإن همساً عبر قنوات نجحت الرياض في تحويلها إلى ما يشبه مراكز النفوذ أو التأثير السعودي في مطابخ السياسة الدولية.
المقاربة السعودية الجديدة تأخذ بالحسبان ولاشك أن ما بعد العدوان الهائل على غزة والخسائر الكبرى التي تلقاها محور المقاومة وعودة الرئيس ترمب والمقاربات التي يفرضها على المنطقة والعالم ليس كما قبلها، وأن الظفر بوزن حقيقي مؤثر وبنفوذ وازن يحمي المشروع ويعاظم المنجزات ضمن العالم الجديد يتطلب مقداراً أكبر من الهدوء والتروي بعد ضمان ترتيب الواقع الداخلي وواقع الجوار، ولاسيما الخليج العربي وصولاً إلى العراق واليمن وسورية، وأن القادم الذي يفرض الاقتصاد والاستثمار وإعادة الإعمار عنواناً بارزاً للمرحلة تلزمه مقاربة تمتّن الواقع العربي وتعزز عوامل المواجهة ضد المشاريع المعادية، ولا تنجرف خلف استنساخ تجارب سابقة في التاريخ في ظروف مشابهة كما هو الحال ما بعد الحرب العالمية الثانية وتعاظم نفوذ الولايات المتحدة انطلاقاً من نتائج الحرب والقدرة والنفوذ ومشروع (مارشال)، فسر النجاح أكبر من ذلك كله، هي ببساطة في امتلاك مشروع مختلف يوائم تطورات المرحلة ويأخذ بالحسبان ضرورة امتلاك المبادرة والمضي وفق رؤية شاملة عميقة ترى كل مشاهد الصورة دون الغرق في التفاصيل الصغيرة.
عربياً تتقاذف الصراعات كل ملفاتنا، وفيما لاتزال القضية الفلسطينية متربعة على عرش الاهتمام والتأثير وتتضاعف مخاطر تصفيتها وتزايد النيران انطلاقاً من مفرداتها، يحاول العدو ومن خلفه الأمريكي الفصل بين مساري حل القضية وانخراط العرب في التسويات الذاتية، وهو ما أعلنت الرياض موقفاً واضحاً متقدماً منه، حيث ربطت أي فتح لباب التطبيع أو المعاهدات بخلق مسار لحل يفضي إلى دولة فلسطينية وهو ثابت رئيس في السياسة السعودية، ولاسيما والرياض تدرك أن مقاربة الرئيس ترمب في المنطقة والتي تتمحور حول الاستثمار والتشبيك يلزمها تبريد الساحات المشتبكة ما يهدد بخطوات أمريكية تحرق المراحل أو تمارس الضغوط على الجميع ما يعني أن أي خطوة يجب أن تُدرس بعناية في مواجهة مخاطر التحييد أو تقليص الوزن تماماً كما مخاطر القفز اللامدروس في أتون معارك ملتهبة في ظل وجود عناصر فعل متطرفة من جهة وأخرى، بعضها عربي، ساعية بلا عقل نحو تحقيق مكتسبات آنية في حفلة الجنون القائمة وإن على حساب مصالحها وربما مصالح الأمة بالمفهوم الإستراتيجي، ومن هنا ربما نرصد جلياً مقاربة سعودية متأنية للملف الفلسطيني، وإصراراً على انتهاج ذات الطريق المعنون بضمان حق الفلسطينيين بدولة في أرضهم في استكمال لمبادرات سعودية ممتدة منذ ثمانينات القرن الماضي، وإن اختلف وزن المملكة وقدرتها على التأثير، ولاسيما وقد باءت معظم المشاريع العربية التي أعاقت المسير بالفشل أو الإفشال، وهو مصير الأطراف المشاكسة اليوم، التي يبدو أن الرياض تترك لها هوامش هنا وهناك لتختبر بالتجربة محدودية قدرتها على حمل مشاريع أو فرض رؤى الغير أو التشويش على ما يصلح.
في موازاة كل ذلك لا يجب أن يغيب عن البال البحث في عمق ما تريده الولايات المتحدة في المنطقة، فهي الفاعل الأكبر في العالم اليوم وليس في المنطقة وحدها، وإن كان ثمة نصيحة لابد منها فهي التأكيد على ضرورة استتباع مقاربة الرياض لندية العلاقة مع واشنطن بمزيد من الأفعال التي تضاعف التأثير في دوائر صنع القرار هناك بمعزل عن الهوية الحزبية لساكن البيت الأبيض، ووفق ذات الرؤية التي تفرض المملكة طرفاً مقرراً في المنطقة نيابة عن العرب في وجه النفوذ المتصاعد للكيان والباب العالي، دونما اشتباك مباشر مكلف مبكر، ودون التفريط بتمتين الذات والبيت العربي وتحسين عوامل الاشتباك واستكمال خطوات المشاريع النهضوية الاستثمارية التي كرّست السعودية عنصر فعل وازن على مستوى العالم.
في عالم اليوم تختلف مفاهيم الأدوات وعوامل التأثير، ولابد أن تختلف معها معاني الشعور بالذات والعروبة وتعزيز الوضع العربي، فالعالم الجديد لن يرحم الضعفاء، والتفتيت القادم سيطال الجميع إن لم يضطلع بالمهمة من يستطيع لم الشمل وتحديد المهام وتوحيد المخلصين المدركين لمخاطر القادم على هوية المنطقة وأطرافها وجغرافيتها، القادر على بناء مشروع حقيقي يتناسب ومقتضيات المرحلة بعيداً عن الخطابات الرنانة وسموم الإعلام وفوضى الوعي الجمعي الحالي، وصراعات الأشقاء المدمرة خدمة لمشاريع الآخرين.

ذو صلة