مجلة شهرية - العدد (588)  | سبتمبر 2025 م- ربيع الأول 1447 هـ

نحو تحقيق التوازن بين المصالح الوطنية والقضايا العربية والمسؤولية الدولية

تتمتع المملكة العربية السعودية بموقع جغرافي إستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، ما يجعلها لاعباً رئيساً في السياسة الإقليمية والدولية. وهي تعد من أكبر دول العالم إنتاجاً للنفط، مما يعزز من مكانتها الاقتصادية في النظام الدولي. كما أن المملكة تعد حجر الزاوية في العالم العربي والإسلامي، من خلال ربطها الوثيق بالقضايا العربية والإسلامية، بالإضافة إلى الدور المؤثر الذي تلعبه في مجال السياسة الدولية.
لقد مرت السياسة الخارجية السعودية بتطورات كبيرة على مر السنين، بدءاً من مرحلة الانفتاح على القوى الغربية بعد اكتشاف النفط في الأربعينات والخمسينات، وصولاً إلى النهج الذي تتبعه اليوم من خلال اتباع سياسة (التوازن) بين مصالحها الوطنية، والقضايا العربية، والمسؤوليات الدولية.
في هذه المقالة سنناقش كيفية تحقيق المملكة هذا التوازن في إطار دبلوماسي نشط يسعى إلى ضمان استقرار المنطقة العربية، وفي الوقت ذاته يدير علاقات دولية متشابكة ومتطورة.
السياق التاريخي للدبلوماسية السعودية
منذ تأسيس المملكة العربية السعودية في عام 1932 على يد الملك عبدالعزيز آل سعود، كانت السياسة الخارجية السعودية تتمحور حول حماية الأمن الوطني والحفاظ على استقرار النظام الإقليمي. وقد تطورت العلاقات السعودية الخارجية تدريجياً مع القوى الكبرى مثل بريطانيا في البداية، ثم مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد اكتشاف النفط في خمسينات القرن الماضي.
ومع مرور الزمن، تطورت الدبلوماسية السعودية لتأخذ طابعاً أكثر استقلالية وتنوعاً، خصوصاً مع بدء أزمة الطاقة في السبعينات وصعود المملكة كلاعب اقتصادي عالمي في أسواق النفط. وقد تمثل أحد أبرز تحولات السياسة الخارجية السعودية في دعم القضايا العربية، مثل القضية الفلسطينية، حيث دأبت المملكة على تقديم الدعم السياسي والمالي للحقوق الفلسطينية على مر السنين (الزعبي، 2017، ص 102).
المصالح الوطنية للمملكة العربية السعودية
تعد المصالح الوطنية من الركائز الأساسية التي تحكم السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية. وتتمثل هذه المصالح في عدة محاور رئيسة: الأمن الوطني، الاقتصاد، والتحكم في التدفقات النفطية، والقدرة على التأثير في محيطها الإقليمي والدولي. وفيما يتعلق بالأمن، تواجه المملكة تحديات كبيرة، سواء من التهديدات الإرهابية أو من الدول الإقليمية مثل إيران، التي تشكل تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة.
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن المملكة تعتمد بشكل كبير على صادرات النفط، الأمر الذي يمنحها دوراً مهماً في الاقتصاد العالمي. ومع ذلك، وضعت رؤية المملكة 2030 تحت إشراف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إستراتيجية تهدف إلى تقليل الاعتماد على النفط من خلال تنمية قطاعات أخرى مثل السياحة، والتكنولوجيا، والطاقة المتجددة (الباز، 2019، ص 142).
لقد سمح النفط للسعودية أن تكون فاعلاً رئيساً في المنظمة الدولية أوبك (OPEC)، مما يتيح لها التأثير في الأسعار العالمية للطاقة. كما تسعى المملكة إلى استثمار هذه الثروات لتنويع اقتصادها، وهي تسير بشكل متسارع نحو مرحلة ما بعد النفط، من خلال مشاريع ضخمة تشمل مجالات غير نفطية، مثل السياحة التقنية والذكاء الاصطناعي.
دور السعودية في القضايا العربية
على مستوى العالم العربي، تعد المملكة العربية السعودية من القوى الإقليمية الرئيسة التي تسهم في الحفاظ على استقرار النظام العربي والإسلامي. فقد كانت دوماً في طليعة المدافعين عن القضايا العربية، وبخاصة القضية الفلسطينية. إذ يعد الدعم السعودي للمطالب الفلسطينية دعامة أساسية للسياسة الخارجية السعودية، وقد تجسد ذلك في العديد من المبادرات التي قدمتها المملكة على مر السنين، أبرزها (المبادرة العربية للسلام) التي طرحتها الرياض في عام 2002، والتي قدمت إطاراً لحل شامل للصراع العربي الإسرائيلي (الحجري، 2013، ص 67).
مسؤوليات السعودية الدولية
على الصعيد الدولي، تشارك المملكة العربية السعودية بنشاط في العديد من المنظمات العالمية، مثل الأمم المتحدة، ومنظمة التعاون الإسلامي، ومنظمة التجارة العالمية، ومجموعة العشرين (G20). في السنوات الأخيرة، زادت المملكة من نشاطها في هذه المنظمات، مما يعكس رغبتها في تعزيز مكانتها على الصعيدين الاقتصادي والسياسي في النظام الدولي.
تسعى المملكة أيضاً إلى تحسين علاقاتها مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، التي تمثل حليفاً إستراتيجياً منذ فترة طويلة. وقد شهدت السنوات الأخيرة تطوراً في العلاقات السعودية مع الصين وروسيا، حيث تتزايد الروابط الاقتصادية مع هذه الدول، خصوصاً في مجالات الطاقة والاستثمار. في عام 2019، وقعت السعودية اتفاقيات مهمة مع الصين في مجال الطاقة المتجددة، مما يعكس تحولاً كبيراً في السياسة الخارجية السعودية نحو تعزيز التنوع في العلاقات الدولية (المرزوق، 2020، ص 54).
إضافة إلى ذلك، تبذل المملكة جهوداً مستمرة في معالجة التحديات العالمية، مثل التغير المناخي. ففي إطار رؤية المملكة 2030، تهدف السعودية إلى تحقيق أهداف بيئية طموحة، منها تقليل انبعاثات الكربون وتنويع مصادر الطاقة المتجددة. كما تسعى إلى تحويل اقتصادها ليصبح أكثر استدامة من خلال تطوير قطاعات غير نفطية (التويجري، 2021، ص 113).
تحقيق التوازن
تواجه السياسة الخارجية السعودية تحدياً كبيراً في كيفية التوازن بين المصالح الوطنية، القضايا العربية، والمسؤوليات الدولية. تتطلب هذه المعادلة المعقدة سياسة مرنة تأخذ في الحسبان تطورات الأحداث على المستويين الإقليمي والدولي. في هذا السياق، تعتبر المملكة أن مصالحها الأمنية والاقتصادية تشكل الأولوية الأساسية في سياستها الخارجية، ولكنها في الوقت نفسه تسعى إلى تعزيز استقرار المنطقة العربية والحفاظ على وحدة الصف العربي.
أحد الأمثلة البارزة على هذا التوازن هو التدخل العسكري السعودي في اليمن. فمن ناحية، ترى الرياض أن هذا التدخل ضروري لضمان أمنها القومي وللحفاظ على استقرار المنطقة. لكن التدخل العسكري أثار انتقادات دولية بسبب آثاره الإنسانية الكارثية، ما دفع السعودية إلى محاولة ضبط هذه العمليات العسكرية مع ضمان تقديم المساعدات الإنسانية للمتضررين من النزاع (أبو السعود، 2016، ص 103).
فيما يتعلق بإيران، تسعى المملكة إلى الحفاظ على توازن دقيق بين التصعيد الدبلوماسي والعسكري. من جهة، تنظر السعودية إلى إيران كتهديد جدي لاستقرار المنطقة بسبب سياساتها التوسعية في العراق وسوريا واليمن، ومن جهة أخرى تحاول الرياض الحفاظ على قنوات الحوار مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لإيجاد حلول دبلوماسية للتوترات الإقليمية (الزيدي، 2019، ص 59).
أيضاً، كانت المملكة أمام تحديات كبيرة في كيفية إدارة علاقاتها مع القوى الغربية والصين وروسيا. ففي الوقت الذي تسعى فيه المملكة إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الصين وروسيا، تجد نفسها مضطرة في بعض الأحيان إلى اتخاذ مواقف قد تكون متعارضة مع المصالح الغربية، ولاسيما فيما يتعلق بسياسة النفط والتغيرات المناخية.
من جهة أخرى، تسعى المملكة إلى تعزيز استقرار العالم العربي من خلال دعم الحكومات العربية الشرعية ومساندة المبادرات الرامية إلى حل النزاعات بين الدول العربية. لكن هذا التوجه يتطلب مراعاة حساسيات كل دولة على حدة وتفادي التدخلات التي قد تؤدي إلى تعميق الانقسامات الإقليمية.
إن نجاح المملكة في تحقيق هذا التوازن يعتمد على قدرتها على تقديم حلول دبلوماسية للمشكلات المعقدة التي تواجه المنطقة، مثل القضية الفلسطينية، والنزاع السوري، والحرب اليمنية، والنفوذ الإيراني في المنطقة. في هذا الصدد، تسعى المملكة إلى بناء تحالفات إستراتيجية قوية مع الدول الكبرى مع الحفاظ في الوقت نفسه على العلاقات المتميزة مع دول الجوار العربي.
الخاتمة
في الختام، تظل المملكة العربية السعودية لاعباً محورياً في السياسة الدولية، خصوصاً في الشرق الأوسط. حيث استطاعت المملكة من خلال دبلوماسيتها المتوازنة أن تعزز مكانتها الإقليمية والدولية، من خلال الجمع بين مصالحها الوطنية، القضايا العربية، والمسؤوليات الدولية. ورغم التحديات المتزايدة التي تواجهها المملكة، فإن سياستها الخارجية تتمتع بالمرونة والقدرة على التكيف مع المتغيرات.
ومن المتوقع أن تواصل السعودية تعزيز دورها الدبلوماسي في السنوات القادمة، خصوصاً في ظل المتغيرات المتسارعة على الصعيدين الإقليمي والدولي.

ذو صلة