مع بزوغ فجر الألفية الجديدة ومضي عقدها الأول، أخذ النظام الدولي في التحول الهيكلي تدريجياً نحو التعددية القطبية، متزامناً مع الصعود المتزايد للصين وروسيا عالمياً. هذه التحولات والتغيرات مجتمعة في البيئة الدولية، أدت إلى تغير إستراتيجي في مسار القوى الصاعدة للعب أدوار مؤثرة في إعادة تشكيل النظام الدولي.
وفي ظل تلك التحولات الجذرية، برزت المملكة العربية السعودية قطباً إقليمياً صاعداً دولياً في بيئة شديدة التعقيد؛ صراعاً وتعاوناً، حرباً وسلماً، كما بدأت تتشكل ملامح التعددية القطبية، وفي خضم تلك الصراعات والمنافسات، حاولت المملكة العربية السعودية أن تجد لنفسها مكانة مرموقة ومؤثرة جيوسياسياً، منطلقة من سياسات واضحة ترتكز على الأمن والتعاون، وتعزيز الدور الإنساني.
يسعى هذا المقال إلى تقديم قراءة تحليلية في التحولات الجيوسياسية للمملكة العربية السعودية كقطب إقليمي صاعد في بيئة دولية متعددة الأقطاب.
دوافع الصعود
تعد المملكة العربية السعودية، ذات أهمية جيوستراتيجية إقليمياً ودولياً، انطلاقاً من موقعها الجغرافي ومواردها الضخمة وتأثيراتها الجيوسياسية ونفوذها الديني، والسياسات الطموحة للجيل الجديد من صناع القرار في المملكة، خصوصاً بعد تولي القيادة الشابة زمام السلطة الفعلية في المملكة ممثلاً في الأمير محمد بن سلمان، وتبنيه إستراتيجية نهضة المملكة محلياً وإقليمياً ودولياً والتي تسمى (الرؤية الوطنية 2030م). والمرتكزة على ثلاثة محاور رئيسة، تتمثل في: مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح.
كل تلك المميزات والدوافع شجعت المملكة العربية السعودية على الصعود كقطب إقليمي في الشرق الأوسط، ولاعب محوري صاعد دولياً. وساعدها في ذلك، عدة عوامل منها:
أولاً: الاستقرار الداخلي الأمني والسياسي، إلى جانب النهوض الاقتصادي والتقدم التكنولوجي والقدرات العسكرية الكبيرة والتنمية والتحديث، التي انتظمت كل أرجاء المملكة.
ثانياً: بروز قوى إقليمية صاعدة في الشرق الأوسط، مثل: تركيا وإسرائيل وإيران ساعدها في انتهاج سياسات إقليمية متوازنة لملء الفراغات الجيوسياسية إقليمياً والتأثير في الملفات الدولية.
ثالثاً: تراجع الدور الأمريكي، وتصاعد أدوار الصين وروسيا، لتشكيل عالم متعدد الأقطاب.
رابعاً: المساعدات الإنسانية التي تقدمها المملكة للدول والشعوب، والسياسات التعاونية التي تنتهجها في العلاقات الدولية، أعطتها قبولاً على مستوى الشعوب والدول، وتأثيراً دولياً في الملفات العالمية الكبرى مثل الطاقة والأمن والبيئة والأوبئة واللاجئين وغيرها.
كل تلك العوامل أنتجت مكانة مؤثرة للمملكة إقليمياً ودولياً، هذا الصعود نتيجة للتأثيرات الجيوسياسية وانخراط المملكة في الملفات الدولية الحيوية مصحوباً بالسياسات المتوازنة لقادة المملكة، وكانت المحصلة أن المملكة وضعت نفسها فيما يسمى (بالتموضع الإستراتيجي) في البيئة الدولية تأثيراً وتأثراً.
تحديات الصعود
وفي سبيل صعودها الإقليمي والدولي واجهت المملكة العديد من التحديات الداخلية المتمثلة في قضايا الأمن والتنمية والتحديث، وإقليمياً واجهت عدداً من الأزمات الأمنية والسياسية والإنسانية، نتيجة لوقوعها جغرافياً وسياسياً في بيئة أمنية وإستراتيجية غلبت عليها الصراعات والاضطرابات والمطامع الدولية عبر التاريخ. كما تواجه المملكة تنافساً إقليمياً في كثير من الملفات الحيوية بالمنطقة، ودولياً نجد التحديات الجيوسياسية الناجمة عن أزمات الشرق الأوسط، وحروب القرن الأفريقي وأزماتها السياسية والإنسانية، والحرب الروسية الأوكرانية، وقضايا الطاقة وأمنها، والخلافات التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، والعقوبات الغربية المفروضة على روسيا، وقضايا البيئة والتغير المناخي، وغيرها، كل تلك التحديات تمثل ملفات في غاية التعقيد والأهمية تتطلب حلولاً توافقية.
ديناميات الصعود
انخرطت الدبلوماسية السعودية في الملفات المذكورة أعلاه وغيرها للإسهام في تسويتها ونزع فتيل أزماتها، وقد مثلت هذه التحديات فرصة للمملكة لاختبار قدرات وحنكة دبلوماسيتها، وحكمة قيادتها الإستراتيجية، مستخدمة التأثيرات الجيوسياسية والاقتصادية، بغية المشاركة بفاعلية في المحافل الدولية وصناعة القرارات الدولية.
وبحسب تقرير أصدره المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، فإن المملكة تحولت من وضعيتها القيادية في العالم الإسلامي إلى مرحلة بناء الدور العالمي، لقوة إقليمية ذات طموح دولي، وأنها قطب إقليمي بخصائص عالمية، وانتقلت من مركز لقيادة العالم الإسلامي، إلى قطب إقليمي صاعد، ذي هوية حضارية مميزة، يمارس دوراً عالمياً، إذ شكل حضوراً مقبولاً ومؤثراً في الوساطات والتوازنات الدولية، يلاحظ كل ذلك من خلال أهمية المؤتمرات والقمم الجماعية والثنائية التي استضافتها المملكة، وحجم الزيارات الرسمية والوفود، ونوعية الأفكار والمبادرات الجديدة التي أطلقتها السعودية.
واستشهاداً لهذا الدور المتعاظم، فقد استضافت المملكة خلال الأعوام الأربعة الماضية عدة لقاءات ثنائية ومتعددة الأطراف، منها قمة العلا، والتي نجحت في طي الخلافات الخليجية، والقمة الطارئة للجامعة العربية، وقمة G20، واجتماعاً دولياً بشأن سوريا بعد سقوط الأسد، والقمة الأمريكية الروسية بين ترام وبوتين، والقمة السعودية الأوكرانية وغيرها من القمم الدولية. كل تلك الديناميات والجهود الدبلوماسية أثمرت بنتائج ملموسة ذات أثر جيوسياسي في الاستقرار العالمي، تعزى إلى تبني المملكة سياسات واقعية وعميقة الأثر، أنتجت توازناً في علاقاتها الدولية، وأضافت للمملكة قبولاً دولياً وحضوراً مميزاً، طوت الكثير من الخلافات بالمنطقة، وساهمت في تهدئة بؤر صراعات قائمة في أقاليم مختلفة من العالم، وتناغمت تلك السياسات التي تبنتها الدبلوماسية السعودية مع تطلعات القوى الكبرى الصاعدة دولياً مثل الصين وروسيا والهند، من أجل تشكيل تعددية قطبية، وقد نجحت المملكة إلى حد كبير في ذلك، كما نجحت دبلوماسيتها في الاحتفاظ بشراكاتها الإستراتيجية القديمة خصوصاً مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي.
وفي خضم تلك التحولات والمبادرات المتميزة للمملكة في التأثير الجيوسياسي العالمي، انضمت إلى العديد من التكتلات الدولية أبرزها مجموعة العشرين التي تضم أقوى اقتصاديات العالم، ومنظمة شنغهاي للتعاون، وغيرها، تأكيداً لثقل المملكة في الاقتصاد العالمي وتأثيرها الجيوسياسي.
كذلك عملت المملكة على تنويع شراكاتها وتحالفاتها والانفتاح المدروس على القوى الدولية دون الارتهان لقطب دولي واحد.
وبحلول عام 2030م ستحتفل المملكة بمرور قرن من إعلان وحدتها وتأسيس الدولة السعودية الحديثة، والمتزامن مع تحقيق أهداف الرؤية الوطنية للمملكة، أهمها صعود المملكة كقطب دولي مزدهر اقتصادياً في المراكز المتقدمة بين الاقتصاديات الكبرى عالمياً، وقطب مؤثر سياسياً ومستقر أمنياً، وعندئذ تصبح المملكة لاعباً جيوسياساً في الملفات العالمية الكبرى، كالأمن والطاقة والبيئة والتدخلات الإنسانية بغية تحقيق الأمن والسلم والتعاون الدولي.